الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية


أوراق في النقد الذاتي

مكتبة أفاق 2012م

إهداء

إلى الذين نحبهم ولكن نختلف معهم نقول:

إن الحركة التي لا تريد أن تراجع أو تدرك أخطاء ماضيها من الممكن أن يتحول حاضرها إلى كومة من الأخطاء ومستقبلها إلى كارثة .الحل يكمن في نقد الماضي ومراجعته وتحديد أخطائه من أجل تلافيها في الحاضر وتوظيف ذلك معرفيا موضوعيا في المستقبل .ع .ن

تنويه

  • الآراء الواردة في هذا الكتاب تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن مجموع المشاركين فيه .
  • جميع المراحل الزمنية المشار إليها هي مراحل وفقا للفترة التي تمت فيها كتابة هذه المقالات وذلك في أواخر الثمانينيات من القرن المنقضي .

مقدمة

  • يشمل هذا الكتاب 14 ورقة تبحث في موضوع واحد: الحركة الإسلامية وموقعها في المستقبل. قمت بتحرير هذا الكتاب والمشاركة بورقة لى فيه (الإخوان المسلمون في مصر: التجربة والخطأ) سنة 1989 .
  • المشاركون في هذا الكتاب على صلة وثيقة بالموضوع بشكل أو آخر ويتفقون في أوراقهم على أن الحركة الإسلامية بحاجة لمراجعة منطلقاتها الفكرية وأبنيتها التنظيمية وآلياتها في العمل والتجمع والتأثير .

وينطلق المشاركون في هذا الكتاب في نقدهم وتصحيحهم للحركة من منطلق الحرص على حيوتها وأمنها ودمجها في عملية التنمية والنهضة المطلوبة في وطننا العربي والإسلامي أما المشاركون فهم:

د توفيق الشاوي ود. حسان حتحوت ود. حسن الترابي ود . عبد الله أبو عزة ود. فتحي عثمان ود. عبد الله النفيسي ومنير شفيق وصلاح الدين الجورشي و د. طارق البشري ود. محمد عمارة ود. محمود أبو السعود والأستاذ فريد عبد الخالق وعدنان سعد الدين وخالد صلاح الدين والميزة في هذا الكتاب أن الإسلاميون يقومون بنقد ذاتي للحركة الإسلامية وهذا ما يعطيه فرادة تاريخية وقيمة فكرية وأهمية موضوعية .

توطئة

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله شهادة المذنب المعترف بذنبه والمقصر الراجي لعفو ربه وشهادة عليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن شاء الله تعالي .

وبعد .. يحاول هذا الكتاب أن يطرح موضوع الحركة الإسلامية من منظور مختلف . نقصد أن موضوع الحركة الإسلامية قد تناولته العديد من الأبحاث والكتب والأوراق تناولا مجتزأ أى بمعزل عن سياقه الحضاري والتنموي والتغييري والمستقبلي لقد كانت معظم الكتب والأبحاث والأوراق تركز على السياق السياسي للموضوع وكانت معظم المعالجات في كنهها وخلاصاتها سياسية محضة .

بمعني أن معظم الأطراف الذين تناولوا الموضوع قد حددوا ابتداءا الغاية السياسية من تناوله وكانت المعالجات إما أن تفضي إلى تبرئة الحركة الإسلامية أو إدانتها سياسيا لن تكون هذه مهمة هذا الكتاب

برغم أن معظم أو كل المشاركين فيه هم من أبناء التيار الإسلامي ولعل هذا هو الجديد في الأمر سيلاحظ القارئ أن بعض المشاركين هم من مؤسسي الحركة الإسلامية المعاصرة سجنوا وضحّوا وشردوا عن ديارهم وأهليهم من أجلها

ومع ذلك هاهم أولئك يضعون أصابعهم على مكامن الخلل ويغوصون في النقد الذاتي وهي عملية جديدة في الحظيرة الإسلامية لأنها جديدة وغريبة في ساحة العمل الإسلامي فقد تثير من ردود الأفعال ما قد لا تثيره في غيرها من الساحات ورغم ذلك فهي عملية ضرورية: شرعا وسياسة ومنهجا ومصلحة .

يقول د. خالص جلي في كتابه القيم:(في النقد الذاتي:ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية) مؤسسة الرسالة بيروت 1984 ص 164:

" إن النقد الذاتي حركة ديناميكية حية متطورة نامية وأداة إنضاج للوعي إن هذه الأداة سترافق الإنسان حيث أعمل عقله سواء في رؤية برنامج تليفزيون قراءة قصة تناول بحث فك علبة طبخة ركب سيارة إنها أداة نفض مستمرة للوعي لكي يبقي نشطا حيا .
إنها أداة يقظة للوعي الداخل وتطهير أخلاقي في مستوى الفرد . وهي بناء أسرة متماسكة والعيش في جو جماعة صحي وتطهير للوسط السياسي من الإرهاب والتسلط وبناء علاقات حسنة بين الجماعات البشرية " انتهي .

يكفي أن أشير هنا أن بعض التنظيمات الإسلامية تحظر على أنصارها قراءة هذا الكتاب لما فيه من تشريح علمي لمكامن الخلل في مسيرة الحركة الإسلامية سواء على صعيد القيادة أو المناهج أو الفكر أو المفاهيم أو التفاعل بين الظروف والنصوص والمدنس والمقدس والواقع والمرتجي جلبي مرة أخرى:

" مفهوم النقد الذاتي يعتبر غريبا على المسلمين كما ذكرنا فهم لا يرون فيه مصطلحا إسلاميا ولا يفهمون تحته إلا التشهير وهذا يجب تعديله قطائفه ترى أنه مصطلح غير إسلامي لأنه لم يأت في كتب القدامى!
أو لم يرد باللفظ في الحديث أو القرآن؟ وكأن كلمة الضمانات الاجتماعية جاء بها الحديث القدسي أو تكررت في عدة سور ؟ فأما أن اللفظ لم يرد بنصه الحرفي في الحديث أو القرآن؟ وكأن كلمة الضمانات الاجتماعية جاء بها الحديث القدسي أو تكررت في عدة سور ؟
فأما أن اللفظ لم يرد بنصه الحرفي في الحديث أو القرآن فهذا صحيح لكن الألفاظ والمصطلحات هي ليست كل شئ وإنما ما تحمله من مفاهيم فالأصح إذن هو عموم مفهوم القرآن وروحه واتجاهه فالعبرة هي بالفكر الذي يدور بين نصوصه فمفهوم النقد الذاتي بمعني مراجعة النفس أو النشاط فرديا كان أو جماعيا ثم محاسبتها هو روح القرآن المكثفة .
فالآية القرآنية: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) فيها معنيان الأول: العملية والثاني: تشكل الخلق في هذا الصدد فهي أولا عملية مراجعة ومحاسبة ولوم النفس لما حدث ويقسم الله فيها لأنها مستوى عظيم في وصول الإنسان إليه وهي ثانيا لفظة تشديد " لوامة " أى أن هذه النفس أصبح لها هذا الأمر خلقا عادة وطبعا تطبعت عليه بمعني أن ممارسة النشاط أصبح مرتبطا بشكل عضوي بهذه العملية " (ص 2 -21) انتهي .

تنبيه الحركة الإسلامية لبعض الثغرات

غياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد

حجم الحركة الإسلامية وانتشارها ومصداقيتها لدي الجمهور العربي الإسلامي والإمكانيات البشرية وإلى حد ما المادية الضخمة المتاحة لها يسهل مهمات الانطلاق والبناء العلمي للحركة غير أن التعقيدات التي تنجم عن أساليب وآليات المعالجة للمشاكل التي تعترض الحركة تحول دون ذلك؛

فالحركة إذن بحاجة ماسة لمراجعة أساليب عملها ومن هنا صار لزاما عليها أن تطرح أزمتها الإدارية للحوار على الأقل داخل إطاراتها لأن الاستمرار هكذا ورهن الجمود الإداري الذي تعاني منه هو ضمان أكيد لتراكمات الأخطاء والحؤول دون تصحيح المطلوب؛

ويبدو أن القيادة السياسية للحركة تركز جهودها في محاولة التصدي للأحوال الطارئة أكثر من التخطيط للمستقبل فجميع مؤسسات الحركة غارقة إلى أكثر من قامتها في أعمالها اليومية .

هذا الأسلوب في العمل يقلص إمكانيات التفكير المنهجي ذي المدى البعيد ويشجع على أسلوب حل كل مشكلة بعد نشوئها لا الاحتياط من نشوئها وإذا استمرت القيادة على أى مستوى في العمل بهذه الكيفية فلا شك أنها ستظل ضمن هذه الحلقة الشريرة من المشاكل الطارئة بدون التفكير على المدى البعيد وبدون التفكير المنهجي المرتكز على الرؤية التخطيطية يتزايد ضغط المشاكل الطارئة وهذا الضغط بدوره يعرقل التفكير على المدى البعيد .

بلورة نظرية علمية للاتصال بالجمهور

لأن الحركة الإسلامية انشغلت في يومياتها عن التفكير المنهجي ذي المدى البعيد صار من السهل احتواء الحركة وبتر علاقاتها السياسية أو الاجتماعية حسبما تقتضيه مصالح الأطراف المضادة

وتفيد الدراسات المتخصصة في علم الاجتماعي السياسي أن الجمهور لا يتحمس لمساندة أى تيار إلا إذا تحقق فيه شرطان :

الأول: أن يفهم الجمهور مقاصد التيار وأهدافه
والثاني: أن يجد الجمهور لدي التيار حلا لمشاكله الحقيقة التي يعاني منها

لذا ينبغي على الحركة الإسلامية أن تعرض نفسها على الجمهور في صورة واضحة ومفهومة وميسرة وعليها من جانب آخر أن تحدد بعلمية وموضوعية مشاكل الجمهور وفق معطيات الواقع لا وفق خيالات الحركة وأن تطرح الحلول لها والقيام بتعبئة الجمهور وتحريكه لصالح الحلول التي تطرح .

إن وضوح صورة الحركة الإسلامية عقل الجمهور أمر في غاية الأهمية ونقصد بوضوح الصورة أن تتأكد الحركة الإسلامية في أن الجمهور قد فهمها وعرف ما تريد وإلام تهدف .

إن أى خلل في الصورة التي تترسب في لا شعور الجمهور من شأنه أن يعيق العمل الإسلامي لفترة طويلة من الزمن لذا كان من الضروري بدون كلل أو ملل توضيح المقاصد التي تروم تحقيقها المؤسسة الإسلامية لابد من توضيح تلك المقاصد وتحديدها واختصارها عبر كل الأنشطة الإعلامية للحركة .

ويجب أن تكون عملية التوضيح بسيطة ومباشرة وبأسلوب لا نفرة فيه ولا غلظة ولا أستاذية ولأن أعداء الإسلام في عقل الجمهور لذا فإنهم يتهافتون دائما على تشويه صورة العاملين للإسلام ومحاولة محاصرتهم وتطويقهم في زاوية حادة من التهم والتلفيقات والدعايات ؛

لا يعني هذا أن كل ما يكتب من نقد للحركة الإسلامية ولأدائها يمكن أن يندرج في إطار التلفيقات والدعايات هذه نقطة ينبغي التنبه لها حتى لا تصم الحركة الإسلامية آذانها إزاء نداءات التصحيح والترشيد وحتى تكون الحركة الإسلامية واضحة ومفهومة لدي الجمهور يجب أن تكون القضايا التي تتبناها الحركة قضايا مفهومة وواضحة ومعاصرة وذات وزن في هم الجمهور ؛

من هنا كان لزاما على الحركة أن تتحاشي الغرق في الخلافات الفقهية المتعلقة بقضايا عفا عليها الزمن ولا علاقة لها بشأن الناس ومن هنا كان لزما الابتعاد عن فخاخ الجدل حول التاريخ الإسلامي

وينبغي الانتقال من العقلية الماضوية التي تحوم حول الماضي إلى العقلية المستقبلية التي تشرئب للمستقبل حتى يدرك الجمهور أن الإسلام هو مشروع نهوض المستقبل هذه الصورة الحيوية الدينامية التي من المطلوب أن تجسدها الحركة الإسلامية يجب ترسيخها تريد من الجمهور أن يساندها فعليها أولا أن تبادر باحتضان قضايا الجمهور .

ولذا لابد من التحديد العلمي والموضوعي لمشاكل الجمهور وطرح الحلول العلمية والموضوعية لها وتعبئة الجمهور لصالح تلك الحلول وقد تكون قضية الجمهور تتعلق بالخدمات المباشرة مثل التموين أو المواصلات أو المدارس أو التطبيب وغير ذلك ؛

فلا يحقرن العمل الإسلامي هذه الهموم اليومية لأنها في معظم الأحوال هي مفاتيح الدخول لقلب الجمهور والتأثير فيه إن بلورة نظرية علمية للاتصال بالجمهور والاحتفاظ به وتوظيفه لصالح المشروع الإسلامي لهو من المهام الكبيرة التي تنتظر الحركة الإسلامية ؛

وإن أى إهمال في هذا الأمر سوف ينعكس إن لم يكن قد بدأ على شعبية الحركة ومصداقيتها وشرعيتها الواقعية إن الابتعاد عن الجمهور يؤدي إلى طغيان مركبات الفشل والكراهية وروح الانعزال فتتحول الحركة في النهاية إلى (فرقة) أو طائفة دينية وعندها تتبخر فعالية الحركة وتنقرض أدوارها التاريخية .

الحلقة المفقودة في التصور الاستراتيجي للحركة

والذي يتأمل نتاج المطبعة الإسلامية و (فكر الدعوة) إذا جاز التعبير يلحظ بعض التصورات الخاطئة المبثوثة بين الإسلاميين ومنها إن هذا العالم يعيش في حالة (فراغ) فكرى وروحي وقيمي وحضاري

وأن الحركة الإسلامية جاءت لتملأ هذا الفراغ وتسده كذلك تنتشر بين الإسلاميين مقولة مؤدّاها أن العالم يعيش حالة من الفوضى الفكرية والثقافية والقيمية وأن الحركة الإسلامية مناط بها تصحيح هذه الفوضى ووضع الأمور في نصابها الصحيح ؛

وهذه تصورات في حاجة إلى مراجعة فالحركة لا تتحرك في فراغ بل في عالم مكتنز ومزدحم وربما أكثر من اللازم أكثر من طاقته الاستيعابية بالأفكار والقيم ومشاريع الخلاص الروحي والمادي والوطني ومن ضمن العوامل الرئيسية التي تعيق الحركة الإسلامية من تحقيق أهدافها الاستراتيجية هو هذا الاكتناز والازدحام والندية التي تملأ العالم؛

ثم إن هذا العالم موضوعيا يعيش اليوم أرقي درجات التنظيم والنظام وربما تكون هذه هي العبقرية البارزة لهذا العصر وبقي أن تتجه هذه العبقرية في اتجاهات لا تروق لنا لا يعني البته أن العالم يعيش في حالة من الفوضى العامة؛

هناك (نظام) يتحكم في هذا العالم نظام عالمي له (قلب) يتحكم في مسيرته ويتكون من عدد محدود من الدول الغربية (بشقيها الرأسمالي والشيوعي) ويفرض سياساته على (الأطراف) وهي بلدان العالم الثالث حيث العالم الإسلامية ولدي دول القلب وسائل تحكم عديدة بدول الأطراف منها القوة العسكرية من حيث استخدامها في العدوان المباشر أو التهديد به ؛

أو من حيث ربط جيوش دول الأطراف بتصدير السلاح إليها أو منعه عنها وهناك عوامل القوة الاقتصادية (الصناعة ،التكنولوجيا ،المال) كوسائل للتحكم والضغط بمسارات التنمية في العالم الثالث

وهناك أخيرا سيطرة دول القلب على وسائل الإعلام والاتصال واحتكار خمس وكالات (عالمية) لمصادر الأخبار التي تنشرها صحفنا المحلية إلى السينما ومواد التليفزيون والإعلانات مما يعيد تشكيل الأذواق والآراء والقيم في عالمنا الإسلامي وفق المشروع الغربي للتنمية والتطور ؛

لقد ذهب (منتدي العالم الثالث) في دراسة قيمة له نشرها (مركز دراسات الوحدة العربية) في بيروت وهو يشخص حالة التبعية التي تعاني منها دول الأطراف إلى القول :

(إن النظام العالمي يشبه النظم الفلكية يتوسطه نجم كبير الحجم ومشع تدور في فلكه الكواكب السيارة بحكم قوانين الجاذبية ولذلك وهذا ما يعنينا هنا ما لم تحاول مجموعات من دول العالم الثالث أن تشكل لنفسها مستقبلا أكثر استقلالا وأقل خضوعا للاستغلال فإن مسيرة النظام العالمي فضلا عن أشكال التدخل المباشر أو غير المباشر ستحدد لها المستقبل الذي يتفق ومصالح القوى المسيطرة في القلب من النظام العالمي).

إزاء ذلك يحق لنا أن نسأل ما هي نظرية الحركة الإسلامية وتصورها للخروج من دائرة التبعية هذه؟ وهذا ما نعتقد أنه يشكل الحلقة المفقودة في التصور الاستراتيجي للحركة أى غياب (النظرية المتكاملة) في السياسة الدولية والحراك الاجتماعي وتوزيع الثروة والتعايش مع القوى والأنظمة المتباينة والتي يعج بها هذا العالم المتحركة القلق المتحول؛

إن من يتتبع ما تنشره الحركة الإسلامية المعاصرة بشتى راياتها ومسمياتها يلحظ أن جله يتناول نظام القيم وهو ديدن الخطاب الإسلامي خلال أكثر من نصف قرن ولكن ما نحتاجه الآن وبشكل ملح هو تحديدا نظام للمفاهيم وبدون التحديد العلمي الموضوعي لمفاهيم لا يمكن بلورة النظرية الإسلامية المتكاملة التي نطالب بصوغها

والإسلام في خلاصته وهيكليته الأساسية الاجتماعية نحو الأفضل والأمثل في كل مجالات الحياة بمعني آخر إن للإسلام وظيفة اجتماعية كبيرة ولذا كان لابد من أيديولوجيا إسلامية أى نظرية إسلامية متكاملة تضع مواصفات التغيير الاجتماعي المطلوب على كافة الصعد في المشروع الإسلامي

إذن ينبغي فرز فريق عمل من الكفاءات الإسلامية التي تزخر بها إطارات العمل الإسلامي للقيام بصوغ تلك الأيولوجيات إذ أن كثيرا ما يؤدي ضباب الرؤية إلى هدر في الأرواح والأموال والأوقات .

الحركة الإسلامية في حاجة ماسة إلى منطق سياسي شرعي وعصري على ضوئه تحلل الأوضاع والظروف التي يمر بها هذا العالم أى في حاجة أكيدة إلى (نظرية) تسترشد بها في تفسير المجتمعات والقوى المحلية والعالمية وقد يخلط البعض فيقول أن (الدين الإسلامي) هو نظرية الحركة الإسلامية فلماذا المناداة بذلك ؟

وفي رأيي أن هذا تعبير يعوزه الدقة فالدين أشمل من النظري وإن كانت النظرية بمعناها العام جزء من الدين . أقصد أن الدين من حيث هو جملة من التعاليم والأوامر والنواهي وغير ذلك لا يزود الحركة الإسلامية بما يمكن أن نسميه بالنظرية ولكن بالإمكان استنباط النظرية التي نقصد من الدين .

النظرية بكلمة أخرى مضمنة في الدين وهي لكي تظهر وتتضح في حاجة استنباطها وفصلها عن (النّص) وعرضها من حيث هي النظرية الإسلامية لتحليل المجتمع وحركة التاريخ هذه قضية هامة للغاية لا يدركها إلا قليل من الناس ؛

وأهميتها تكمن في هذا الضياع الذي تعاني منه الحركة الإسلامية والأحداث من حولها تتلاطم وتحار في تحليلها وفهمها واستيعابها (لغياب النظرية) فتتبني تحليلات وفهومات المدارس الفكرية الأخرى التي قد تكون مدارس لا دينية في رؤيتها الاجتماعية والكونية .

واستنباط النظرية الإسلامية لتحليل المجتمع وحركة التاريخ من (النص) الديني وفصلها عنه وعرضها وتوضيحها ورصّ وشرح مفاهيمها ومصطلحاتها في بناء فكري متناغم وموحد هذه العملية من التنظير في حاجة لجهد جماعي غير بسيط على الحركة فيما أري والله أعلم أن تعني بتنظيمه .

أين التاريخ الرسمي للحركة الإسلامية

خذ مثلا فصيل من فصائل الحركة الإسلامية المعاصرة كالإخوان المسلمين (تأسس في 1928) فرغم مرور ما يربو على الثمانين عاما لهذه الجماعة لا نجد في المكتبة العربية الإسلامية كتابا واحدا أصدرته الجماعة من حيث هي الجماعة أى رسميا وباسمها لا باسم أفراد بتناول بالتقويم الموضوعي هذه الفترة الطويلة من الزمن والعمل والتحرك .

حركة بهذا الاتساع الزماني والمكاني (للإخوان تنظيمات في معظم الأقطار العربية والإسلامية) أليس من المطلوب أن تقدم للأمة التي تتحرك في إطارها تفسيرا رسميا لسلسلة المحن التي مرت بها والحلقات الإخفاق التي تكررت في تاريخها وصور عن النجاحات التي حققتها ودورها ؛

كما تراه في حاضر الأمة ومستقبلها وأهدافها الاستراتيجية التي تروم تحقيقها وما هي المراحل التي قطعتها صوت تلك الأهداف وكم بقي من المراحل لكي تصل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية وما هي آليات وسبل الانتقال من الأوضاع الراهنة بما تنوء به من مشكلات وتناقضات إلى الآفاق الجديدة التي تبشر بها إذ لا قيمة ولا فعالية ولا إيجابية للتصورات والرؤي الاستراتيجية ما دام لا يرافقها وضوح مواز للآليات والدروب الانتقالية ؟

أليس من المؤسف أن تفرز قوى سياسية إسلامية محلية دولية اللجان والمكاتب والأجهزة والأضابير والأراشيف والاختصاصين لرصد التيار الإسلامي ومدارسه ورموزه وتحركاته وغير ذلك وتنشر بعض الدراسات الهامة والغنية والقيمة التي بدأ الإسلاميون يقبلون عليها لإشباع جوعتهم لتفسير ما هم فيه؛

وفي الوقت نفسه لا نجد جهدا يبذل من الحركة الإسلامية في هذا الإطار ؟ إن كتابة التاريخ الرسمي للحركة الإسلامية الصادر منها واسمها مهم للغاية في إطار كوادرها وأنصارها وهو مهم للمراقبين المحايدين الموضوعيين الذين يهمهم معرفة الحقائق كما حدثت وتطورت وهو مهم للرد على الافتراءات والأكاذيب التي ينشرها أعداء أى تحرك إسلامي ؛

وهو مهم للعالم أجمع لكي يعرف أن هذه الحركة تخاطبه وتناشده وتعرض ما عندها عليه بعلمية وموضوعية وتجرد ودون اعتساف وهو مهم للمستقبل كي لا تقع الأجيال المسلمة القادمة فيما وقعت فيه الحركة الإسلامية من أخطاء سواء على صعيد التجمع أو الفكر أو الحركة .

عين على الحاضر وعين على المستقبل

العالم اليوم يعيش حالة مستمرة من التغير الواسع النطاق لنأخذ مثلا حول حاضر الإنسان العربي ونرصد التغيرات التي طرأت في محيطه العربي فقط خلال العقدين الأخيرين (1965 -1985) كما جاء في (التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي)

والذي نشره مركز دراسات الوحدة العربي في أكتوبر 1988 ففي العقدين الأخيرين (1965 -1985):

تضاعف متوسط الدخل مرتين وتضاعف الحجم المطلق للشرائح المتوسطة مرتين وتضاعف الحجم المطلق للطبقة العاملة الحديثة مرتين وتضاعف عدد أجهزة الراديو عشر مرات وارتفع عدد أجهزة التليفزيون عشرين مرة وانفجرت في المنطقة أربعة حروب ممتدة وتضاعف عدد المسافرين العرب إلى خارج الوطن العربي عشر مرات وزادت ديون بعض أقطار الوطن العربي في الخارج أربعين مرة .

لا شك أن هذه تغيرات كبيرة وعميقة في ساحة عمل الحركة الإسلامية فكيف انعكس ذلك على برنامج حركتها وتصورها للعمل ؟ وهل وظفت هذه التغيرات لصالح مشروعها؟ وهل طورت من أساليب عملها للتناغم مع هذه التغيرات ؟

وهل أثرت هذه التغيرات على ترتيب الأولويات وشبكة العلاقات السياسية الشعبية والرسمية ؟ وهل انعكست على الخطاب الاجتماعي الذي تحمله الحركة ؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تنطرح ونحن نتأمل خطورة وأهمية هذه التغيرات البنيوية التي حدثت في المحيط العربي ما بين 1965 -1985.

يطرح هذا الأمر نقطة جوهرية وهي وجوب رصد اتجاهات تلك التغييرات أى ضرورة استشراف المستقبل واتخاذ كافة الإجراءات للمواءمة معه والاحتياط له والاستعداد لتوظيفه ودراسته البدائل المتاحة في هذا الإطار والمقارنة بينه لا نعني بالاستشراف تقرير ما سيحدث بالضبط فذلك خارج عن قدرة الإنسان

لكننا نقصد بالاستشراف رصد التغيرات الحالية وتحديد توجهاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئة والعسكرية والثقافية وغير ذلك والخروج من كل ذلك بتصور مستقبلي يشتمل على عدة (سيناريوهات) أى مشاهد وتوقعات واحتمالات ودراستها والتحوط في ذلك للمواءمة معها وتوظيفها لصالح المشروع العام للحركة الإسلامية وهذا أمر أجزم أن الحركة لا تضعه حتى في آخر سلم أولوياتها وهذه ثغرة ينبغي التنبه لها .

لقد بدأ العالم الغربي (بشقيه الرأسمالي والشيوعي) ... تدارس مواقعه ومواقفه وتكويناته وتشكيلاته ونظمه واقتصادياته وأولوياته وفنونه وآدابه وموارده البشرية والمادية واتجاهاته الاجتماعية والسياسية والثقافية وعمليات صنع القرار في حكوماته يفعل ذلك وهو في قمة سطوته وسيطرته المادية والثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية على العالم أجمع وذلك في محاولة منه لاستشراف المستقبل والاحتياط له

لقد بلغ الأمر إقصاء لدي غورباتشوف في كتابه القيم "بيريسترويكا" (عملية إعادة البناء) فأقرأ له إن شئت التالي :

"نجد أنفسنا أمام المفارقات فمن ناحية حل مجتمعنا وبنجاح قضايا تأمين فرص العمل وقدم الضمانات الاجتماعية الأساسية ومن ناحية ثانية لم نتمكن من تحسين ظروف المسكن وتأمين الموارد العدائية كما وكيفا وكذلك تنظيم عمل وسائط النقل وفق المستوى المطلوب وتحسين الخدمات الطبية والتعليمية "
" أخذ ينشأ وضع غير معقول إنتاج ضخم من الفولاذ والمواد الخام والطاقة والوقود لا مثيل له في العالم وفي الوقت ذاته نقص في هذه المواد بسبب التبديد وقصور الاستخدام لدينا أكبر عدد من الأطباء وأسرة المستشفيات بالنسبة لكل ألف مواطن ومع ذلك نعاني نواقص خطيرة وتدنيا في مستوى العناية الصحية وصواريخنا تشق طريقها بدقة متناهية نحو مذنب هالي وتسرع لموعدها مع كوكب الزهرة ولكن رغم هذا النصر للفكر الهندسي والعلمي فإننا نلحظ تخلفا واضحا في استخدام النجزات العلمية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية "
" إن عرض الواقع (خاليا من المشاكل) قد ارتد إلى نحر أصحابه ونشأت هوة بين القول والعمل ساهمت في تكريس السلبية الاجتماعية وعدم الإيمان بالشعارات المطروحة ومن الطبيعي أن تهتز الثقة في وضع كهذا بكل ما يقال من فوق المنابر وعلى صفحات الجرائد والكتب المدرسية وبدأ الانهيار في الأخلاق الاجتماعية الانهيار في أحاسيس التضامن العظيمة فيما بين الناس وتلك الأحاسيس التي أرساها زمن الثورة البطولي وسنوات الخطط الخمسية الأولي والحرب والوطنية وفترة الانبعاث فيما بعد الحرب .
وارتفع تعاطي الكحول والمخدرات والجريمة كما ازداد تغلغل الأنماط " الثقافية الهابطة " الغربية عن المجتمع السوفيتي والتي تكرس الابتذال والذوق الوضيع والخواء الروحي "
" أما الاهتمام الحقيقي بالناس بشروط حياتهم وعملهم بمزاجهم الاجتماعي فغالبا ما كان يتم استبداله بالنفاق السياسي وبالتوزيع الجماعي للمكافآت والألقاب والجوائز وتراكمت حالة عامة من التغاضي وتدني مستوى حث الجماهير والانضباط والشعور بالمسئولية ؛
وقد حاولوا التستر على ذلك كله عن طريق تنظيم الاحتفالات الاستعراضية وتكرار المناسبات اليوبيلية سواء في المركز أم في النواحي وشيئا فشيئا اتسعت الفجوة بين عالم الحقائق اليومية وعالم الازدهار الاستعراضي ؛
ولم يمكن بمقدور العديد من المنظمات المحلية أن تحافظ على مواقعها المبدئية وأن تخوض نضالا حازما ضد الظواهر السلبية وضد استباحة الأشياء والتستر المتبادلة وإضعاف النظام وتكررت حالات انتهاك مبدأ المساواة بين أعضاء الحزب واستثني من دائرة الرقابة والنقد العديد من الشيوعيين الذين يحتلون مراكز قيادية الأمر الذي أدي إلى إخفاقات في العمل ومخالفات خطيرة " انتهي

تجاوز العتبة الحزبية

جلبي مرة أخرى وأخرى:

" من كوارث العمل الإسلامي وارتداده وانقلاب نشاطه هو الفكر الحزبي فعندما يكسب تنظيم ما عضوا يدين بالطاعة ولا يناقش ويتابع الأوامر فهذا يعتبر منتميا والعكس بالعكس وكان من نتائج هذه الطريقة التربوية أنه خرج جيل أو مجموعة كبيرة من الشباب تنتظر الأوامر فقط وبذلك حرمت من ميزة الإبداع والحركة الذاتية والإبداع هو سر تفوق الدعوات ؛
وعلى العكس خسرت بعض التنظيمات أهم عناصرها وأنشطتها وأكثرها إبداعا العكس خسرت بعض التنظيمات أهم عناصرها وأنشطتها وأكثرها إبداعا بل والأدهي أنها عندما لم تستطع تسخير هذه الإمكانات فإن هذه الطاقات عندما لا تمشي في مساراتها الصحيحة وتستهلك وتقع في صراعات داخلية لأن الطاقة لابد لها من تصريف فإن لم يكن بمحور ذي اتجاه داخل التنظيم إلى خارجه فليكن مكرسا إلى داخله ؟ ولقد عانت بعض التنظيمات الإسلامية في الفترة الأخيرة من تبديد الطاقة هذه " ( ص 228 - 229)
" إن الإنسان في الأجواء الحزبية يعمل في بعض الظروف ضد قناعاته وهذا ما صرح به رجل بارز في اتجاه إسلامي حيث اعترف بأنه يعمل ضد قناعاته لأنه إن لم يفعل ذلك فسوف يتهم بالخيانة ؟ فإذا حلت الكارثة بعد ذلك كان مشجب المهازل جاهزا سبحانه وتعالي عما يصفون ما هو الجواب ؟
إنهم بذلوا جهدهم ولكن إرادة الله كانت شيئا آخر أما أنهم أخطأوا فلا كما حصل مع المؤذن الذي ذهب إلى الجامع متأخرا والناس راجعون في صلاة الصبح فلما سئل عن سبب تأخيره قال أنا لم أتأخر
ولكن الشمس أشرقت اليوم باكرا أى أنا افتراض حصول تغيرات كونية عظيمة خلاف سنة الله أسهل علينا من مراجعة أنفسنا من جملة الأمثلة الجديرة والمجسدة هي اللعبة التي أجراها بعض الأذكياء مع بعض الشبيبة المتحمسين لفكر سيد قطب والمتعصبين ضد فكر مالك بن نبي حيث قام بذكر فكرة هي لمالك نسبها لسيد فاستحسنها الشباب فلما فعل العكس أنكروا فما أعاد كل فكرة إلى محلها شعروا بشئ من الحرج والأسف "
" إن تسلّح الحزبي بآراء محددة يجعله يقاوم إلى اللحظة الأخيرة في التمسك بها ونظرا لأن حلقات التدريس الداخلية عمدت إلى تكريس وتعميق هذه الآراء من وجهة نظر واحدة كانت هدفها تثبيت وتعميق هذه الآراء والدفاع عنها ومحاولة إضعاف ما يخالفها
فإن عقلية الحزبي تشكلت ذات اتجاه واحد وليس من طبيعة العقل المقارن ولذا فإن الحزبي يميل يفعل تكوينه النفسي إلى الاجتماع برفقائه السيكولوجيين بمعني رفاق نفس المدرسة وإذا حصل أن اجتمع بأناس يخالفونه الرأي فهو معزول عنهم بحاجز نفسي قبل كل شئ فإذا بدأ البحث كانا مضنيا شاقا وإذا تطور إلى وضع نزاع كان استقصاء . لذا كان جو اللقاء بين مجاملة وتمضيه وقت .
ويترتب على هذا نتيجة فإما أن يبقي الحزبي عنصرا تنفيذيا لا يفكر كثيرا أو أن يقع في دوامة الإجترار والتراجع أو التوقف عن النشاط وترك الحزب وظيفيا أى بحكم الواقع وليس الإعلان الرسمي أو أن يتطور فيتجاوز العتبة الحزبية؛
إما من خلال تطوير الحزب أو ترك الحزب إلى بعد جديد خاصة فيما يتعلق بأصحاب الدراسات الإنسانية . وفي الساحة الفكرية يجتمع الإنسان بالعديد من أصحاب الأقلام الذين كانوا في سوابقهم عناصر حزبية تجاوزت العتبة الحزبية "
هذه الفقرات من جلبي لا تعني إطلاقا أننا ضد تشكيل الأحزاب فالأحزاب ممكن أن تقوم بوظائف إيجابية كبيرة تخدم الجماهير شرط أن تتوفر البيئة السياسية الصحيحة لذلك ما نحن ضده أن يتحول الانتماء لحزب اتجاها عقليا في التفكير لدي المنتمي
فلا ينظر للظواهر السياسية والاجتماعية إلا بمنظار الحزب ولا يري إلا ما يراه الحزب وأن داخل الحزب مقدس وخارج الحزب مدنس وهذا ما حصل في التنظيمات الإسلامية الحزبية وهو يعيق تقدم الحركة الإسلامية والعمل الإسلامي ويشوه الدعوة الإسلامية من حيث هي دعوة إنسانية رحبة .

لقد كان من المتصور عقلا وشرعا أن يصبح " التنظيم" (الحزب) وسيلة من وسائل الدعوة الإسلامية لكن من الملاحظ أن "التنظيم" أصبح من حيث هو فكرة غاية وهدفا وإن تحول لبعض الظروف الذاتية والموضوعية إلى مع معيق للدعوة هذا ما حدث وهذا ما ننادي بمراجعته .

تجاوز الصراع مع السلطة

ثمة خلط واضح في صفوف الحركة الإسلامية بين مفهوم "المعارضة للسلطة ومفهوم" الصراع " مع السلطة وربما على السلطة إن بعض النظم السياسية تتقبل ظاهرة المعارضة لها لكنها لا يتوقع منها أن تقبل أن تتحول المعارضة إلى طرف ينافسها على السلطة عدد كبير من الأنظمة السياسية بدأ يتفهم مشروعية الحركة المطلبية للمعارضة ؛

وبدأ يواكبها ويسترضيها بطريقة أو أخرى وفي هذا لا شك تقدم جيد وحسن ولكن ليس من المتوقع أن يتقبل أى نظام تحول المعارضة إلى فريق منافس على السلطة يبغيها ويحاول أن يقتنصها ذلك ما ينبغي أن يتوضح في صفوف الحركة الإسلامية ؛

ومن يتتبع تاريخ العمل العام الذي تمارسه الحركة الإسلامية المعاصرة يجد أنه يتركز في بعدين أساسين :

البعد الخيري والبعد السياسي في الأول ثمة تركيز مشروع على استنهاض الخيرية الاجتماعية والتكافل الاجتماعي عبر المناشدة المستمرة لإخراج الزكوات والصدقات وكفالة اليتيم وغير ذلك من أوجه الخير وقد تمكنت الحركة من خلال ذلك على تنمية حضورها الاجتماعي وتطوير اتصالاتها بالجمهور (مع غياب النظرية العلمية الموضوعية في هذا المجال)
أما في البعد السياسي فلم توفق مثل التوفيق الذي حالفها في البعد الأول وذلك نظرا لغياب الرؤية السياسية الواضحة والدليل النظري الذي تسترشد به فمن الواضح في هذا المجال استعدادها الغريزي للصدام مع الفرقاء السياسيين وضعفها في مقاومة الاستدراج للمعارك السياسية الجانبية التي أكلت منذ 1945 معظم طاقاتها الحركية
أضف إلى ذلك الاستخفاف التام الذي تبديه تجاه (الآخر) في الساحة والجهل الواضح بموازين القوي الفعلية وسيطرة الخطباء في صياغة العقل العام للحركة عوضا عن الموجههين الفكرين .

كل هذه العوامل تساعد في حشر الحركة في زاوية الصراع مع السلطة وهو صراع لم تحصد منه الحركة سوى المر والعلقم لابد من مراجعه كافة المقولات الفكرية والتخريجات النظرية التي تناولت هذا الموضوع في كتب وكراسات الحركة في اتجاه حل هذه المعضلة حلا يوفر على الحركة مزيدا من الهدر في الدماء والأرواح

وحلا يفتح أمام الحركة إمكانات التحرك السياسي السلمي ضمن معادلات الممكن ودون القفز لعوالم المستحيل مطلوب شئ من التواضع في هذا المجال على صعيد الطموح وشئ من الوعي بالذات المرتكز على أرضية من العلمية والموضوعية والواقعية .

بين الفكر والخطابة

برأيي أن مجّرد وجود المسلم المعاصر في حد ذاته في هذا العالم الماّدي يعبر دون شك عن حالة الوعي للقضية الإسلامية واستمرار المسلم المعاصر ونجاحه في هذا العالم رغم المعوقات الجسيمة الذي تعترضه لا شك رهن بحالة الوعي هذه ؛

وحتى يستمر الوعي لابد أن يعمل المسلم المعاصر على تكاملية رؤيته الفكرية وتحصينها من الثغرات من هنا صار لزاما على الاختصاصيين في العلوم الإنسانية من الإسلاميين صياغة رؤية فكرية موحدة يستطيع المسلم المعاصر أن يسترشد بها نظريا ليفسر الأحداث من حوله ؛

وينبغي أن تكون هذه الرؤية الفكرية مبنية على أساسين ضروريين :

أولهما أن تنبثق من دراسة مستمرة للمجتمع بتطوراته المتلاحقة وهذا يؤدي دون شك إلى ارتباط وثيق بضية الجمهور وتحسس جيد لنبضه
وثانيهما أن تتولّد هذه الرؤية الفكرية من خلال التلازم مع التطور العلمي للقضية الإسلامية وسياقها الاجتماعي والسياسي وليس بمعزل عن ذلك

يقول هيرمان كان في كتابه القيم الذي نشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت بعنوان (العالم بعد مائتي عام) التالي :

" إن رسم صورة مقنعة لمستقبل عملي ومنشود أمر في غاية الأهمية لروح معنوية عالية ودينامية في العمل وإجماع في الرأي وضمان بوجه عام لمساعدة دولاب المجتمع على الدوران في هدوء وسلاسة " انتهي .

وهذا ما أقصد هو رسم صورة للمسلم المعاصر مقنعة للمستقبل وعملية حفاظا على روحه المعنوية وديناميته العملية لمساعدته على الحراك الاجتماعي في هدوء وسلاسة. والعالم اليوم يعيش في حالة من الضوضاء ويضج بالحركة الفكرية المناقشة وتمحيص المفاهيم وسيرها ووضع البرامج وصياغتها وتشخيص القضايا وتحليلها التي تتطلب جهدا فكريا منظما ؛

ولا يستطيع المسلم المعاصر أن يحقق نجاحا في هذا المعترك الفكري والحضاري بمعزل عن هموم وقضايا ذلك المعترك فهو لا يتحرك في فراغ ولا يتجهة إلى فراغ ولذا ليس أمام المسلم المعاصر إلا أن يتناغم مع هذه الحركة الفكرية التي يضج بها العالم المعاصر ؛

وليس التناغم معناه التبعية الثقافية والفكرية لما هو شائع ومكرر بين الناس من ثقافات وأفكار ولكن المقصود هو القبول بالمزاحمة الفكرية والتعدّدية والثقافية وحركة الحجة والبرهان والحوار في هذا السباق أجد أن الحركة الإسلامية سفينة المسلم المعاصر في هذا الخضم المتلاطم في حاجة أكيدة للتوجيه الفكرى السليم أكثر من الخطابة ؛

إذ ليس من شك في أن للتوجيه الفكري مناخه وآفاقه وهو مناخ وأفق يختلف شكلا ومضمونا عن أفق ومناخ للتوجيه الخطابي الذي كثيرا ما يتعرض له المسلم المعاصر اليوم من هنا على الحركة الإسلامية أن تعي الحد الفاصل بين الفكر والخطابة وتقدّر حاجتها للموجه الفكرى قبل الخطيب التوجيه الفكري يركز على البناء العقلي بينما التوجيه الخطابي يركز على البناء العاطفي وينشط في مناشدة العاطفة ويستحضر لها لوازمها الدرامية .

التوجيه الفكري يتعامل مع المصطلحات والمفاهيم والمناهج بينما الخطيب يتعامل مع الروايات والوقائع والتاريخ في إطار من العاطفية المشبوبة التوجيه الفكري يبذر بذاره على مهل وفي دأب ومثابرة أما التوجيه الخطابي فيعبئ ويستجيش ويناشد ويحرض في سخونة وحرارة وعجلة

غير أن بذرة التوجيه الفكري أدوم أثرا وأمضي سلاحا من عبوة التوجيه الخطابي (زمانا ومكانا) إن حاجة الحركة الإسلامية لصف من الموجهين الفكريين أكثر إلحاحا من هذا الكم الهائل من الخطباء مطلوب الاهتمام بإعداد الموجه الفكري لأنه الحارس الأمين للجبهة الأيديولوجية التي تتحصن بها الحركة .

إشكالية التنظيم:كالميت أمام الغاسل

أصبح " التنظيم " من حيث هو إدارة بشرية علم يدرس في الجامعات والمعاهد العليا وصارت اليوم " المسألة التنظيمية " تحتل مكانة بارزة في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والأحلاف والأحزاب والنقابات والجيوش وجماعات الضغط (بأنواعها) والدول وصار لهذه المسألة خبراؤها ومؤرخوها ومهندسوها؛

وذلك لأن (النظم واللوائح) التي تحكم مسار أى تنظيم من أى نوع تنبئ وتفصح عن مستواه واتجاهه وحيويته فالنظم واللوائح هي التي تحدد أهداف ووسائل التنظيم وشروط العضوية (الحقوق والواجبات) وتسلسل الهيئات الإدارية في التنظيم المعني وشكل العلاقة بينها : كيف تجتمع ومتى وكيف تتخذ القرارات ومن يلزم وكيف يلغي القرار ومن هي الجهة التي تلغيه .. الخ ؟

والمشكلة الأولي في "التنظيم الإسلامي" أن النظم الأساسية واللوائح الإدارية تعامل وكأنها سر من الأسرار فالقاعدة العريضة من أعضاء التنظيم الإسلامي ربما تقضي العمر كله "في الصف" دون أن تطلع على النظام الأساسي الذي يحكمها مجرد إطلاع ؛

دع عنك مناقشته أو مراجعته أو اقتراح التعديلات عليه والمفترض وهذا من حق كل أعضاء التنظيم أى تنظيم إسلامي كان أم غيره أن يطبع النظام الأساسي واللوائح الإدارية في كراسة صغيرة وتعطي نسخة لكل فرد ينضم لإطارات الحركة لكي يكون الأعضاء على بينة من أمرهم وعلى دراسة بتوجهات وغايات وآليات ووسائل ودروب السفينة التي تحملهم؛

لقد تأثرت كل إطارات الحركة الإسلامية في العالم بالظروف الاستثنائية التي عايشتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر والسرية مبررة في تلك الفترة بالذات وإن كانت هذه المسألة محل نقاش أيضا فهي غير مبررة في الأقطار العربية التي لم تضطهد حكوماتها الاتجاه الإسلامي بل إن بعض الحكومات العربية تتيح للتنظيمات الإسلامية ما لا تتيحه لغيرها فعلام السرّية إذن ؟

والمشكلة الثانية في "التنظيم الإسلامي" هذا التداخل الخطير والملحوظ بين الدين وأمره ونهيه من جهة والتنظيم كإدارة بشرية وأمره ونهيه من جهة أخرى بحيث أن الحد الفاصل بين الدين كأمر رباني والتنظيم كأمر بشري لم يعد واضحا بالنسبة للقاعدة العريضة من الأتباع وهذا أمر ينبغي توضيحه اختلال هذا الأمر أضفي على التنظيم (وهو جهد بشري محض) اللبوس الديني؛

بحيث يشعر العضو بـ (الإثم) لو خالف أمرا تنظيميا أو اعترض عليه خاصة مع وجود بعض (رجال العلم الشرعي) الذين يسخرهم التنظيم في الدفاع عن تأويلاته وتخريجاته ومن الملاحظ أيضا أن الاجتهادات الشرعية والعلمية التي لا تساير الخط العام لقيادة التنظيم الإسلامي تقمع وتتعرض لكثير من التشويه والتشكيك في أدبيات الحركة الإسلامية .

والمشكلة الثالثة في "التنظيم الإسلامي" أنه يطالب أعضاءه بتأدية واجباتهم تجاهه دون أن يسمح لهم بالمطالبة بحقوقهم عليه خذ مثلا " النظام العام للإخوان المسلمين " المعمول به والصادر في 9 شوال 1302 هـ الموافق 29 تموز 1982 والذي أثبتناه في ملاحق هذا الكتاب وتأمل مواد الباب الثالث الذي يغطي العضوية وشروطها ؛

ويلاحظ أن منطوق المواد كلها تؤكد على واجبات العضو : ابتداء بعهد البيعة (مادة 4) مرورا بدفع الاشتراك المالي (مادة 5) وصولا إلى الإجراءات الجزائية الذي يتخذها التنظيم في حق العضو الذي يقصر في واجباته بما فيها الفصل (مادة 6) دون أن نجد مادة تعطي الحق للعضو في التظلم ودون أن تحدد مادة أخرى الجهة التي يتظلم إليها العضو.

هذه الثغرة الخطيرة في "النظام العام للإخوان المسلمين" فتح الباب على مصراعيه أمام القيادة لفصل وإعفاء وتجميد عناصر كثيرة اختلفت معها في شأن من شؤون الجماعة ولق خسرت جماعة الإخوان أعدادا كبيرة من أعضائها النابهين المؤسسين جراء خلو "النظام العام" من المؤسسات العدلية التي تكبح إساءة استعمال القيادة لسلطتها

والسؤال الذي يطرح نفسه:

كيف يحق لجماعة من الجماعات أن تطالب الحكومات العربية والإسلامية بتحقيق العدالة والحرية لمجتمعاتها وهي تحارب ذلك في صفوفها ؟.
هذه بعض الثغرات البارزة في مساق الحركة الإسلامية رأينا أن ننبه لها نظرا لأثارها السلبية الكبيرة على صورة وجدوى وأداء ومصداقية العمل الإسلامي الذي تقوم به ولقد تطرقت الأوراق المنشورة في هذا الكتاب لبعض المهتمين بشأن الحركة الإسلامية كل حسب رؤيته ومنظورة ودون إلزام للآخرين أو اتفاق بينهم لبعض هذه الثغرات عسي أن يكون في ذلك فائدة وتبصير وتنوير لمن يعنيهم الأمر والله نسأل أن يوفقنا لرؤية الحق والالتزام به والموت عليه . أمين
د. عبد الله فهد النفيسي الكويت 1/1/ 1989

إستراتيجية علمية للتيار الإسلامي

للدكتور توفيق محمد الشاوى

إن الصحوة الإسلامية الحالية هي أهم ثمرة حققتها الحركات الإسلامية وغذاها الفكر الإسلامي الذي قاد نهضتها في العصر الحديث وفي نظرنا أن الفكر والعلم هو الذي تستطيع به الحركات الإسلامية أن تضمن نمو الصحوة الإسلامية واستمرارها وتحقيق أهدافها المستقبلية .

والأهداف المستقبلية في نظرنا تختلف عن الأهداف التي حققها الفكر الإسلامي في المرحلة الماضية .لقد تميزت المرحلة الماضية في بداية نهضتنا بأن مجتمعاتنا ومجتمعات العالم الثالث بصفة عامة استيقظت فوجدت أن الشعوب (البيضاء) الأوربية والأمريكية قد فرضت هيمنتها على العالم وعلى أقاليمه وقاراته جميعا (بما فيها العالم الإسلامي والعالم الثالث) نتيجة ما وصلت إليه من تفوق في مجال القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والمالية والصناعية والتقدم العلمي والثقافي .

لقد كان "رد الفعل" الذي سيطر على كثير من المفكرين وعامة أبناء العالم الثالث هو وجوب " أن يلحقوا" بالعالم المتقدم لكي يصلوا إلى ما وصل إليه من تقدم وحضارة وتفوق

وقد أدي هذا إلى تمكين الدول المتقدمة من استخدام نفوذها الثقافي والسياسي لإيجاد أعوان وعملاء مصابين بمركب النقص واستغلوهم لإيهام شعوبنا الناهضة بأن عجزهم عن اللحاق بالشعوب " البيضاء " الأوروبية والأمريكية ناتج عن الخصائص والمقومات الأصلية التي تميزها عنها فلابد أن تتخلي شعوبنا عن أصالتها ومقوماتها وتقبل التبعية والاندماج في المجتمعات الأوربية رغم أنها تستعبدها وتستغل ثرواتها وتستذل شعوبها .

لمقاومة هذه العقدة النفسية بذل الفكر الإسلامي مجهودا كبيرا في الدفاع عن مقوماتنا العقيدية والتاريخية وأصالتنا الإسلامية لكي يبرهن على أنها لا تقل عما توصل إليه الغرب في تطوره في العصر الحديث بل أنها تماثل ما لديه من نظريات ونظم أو لا تبعد عنها على الأقل .

إن كثير من الدراسات والكتابات التي قدمها فقهاؤنا وعلماؤنا ومفكرونا وزعماؤنا كانت تدور حول إبراز عناصر التماثل والتشابه (أو التقارب على الأقل) بين مبادئنا الإسلامية الأصلية والمبادئ التي قامت عليها الحضارة الغربية الأوربية والأمريكية المعاصرة .

وهذا المجهود الذي بذله فلاسفتنا ومفكرونا كان يعطي ضمنا للعالم الإسلامي ولشريعته ونظمها فضلا غير منازع فيه على المدينة الأوربية لأنها سبقتها إلى تلك المبادئ وأن الحضارة الأوربية قد اقتبست منها هذه المبادئ واستفادت منها أكثر مما استفادت منها شعوبنا نفسها .

لكن المرحلة القادمة في مستقبل الصحوة الإسلامية سوف تقدم للعالم وجها جديدا للفكر الإسلامي بعرض فيه المبادئ الإسلامية الأصيلة التي يحتاج غلبها العالم كله لمواجهة الأخطار المحيطة به والتي يعترف بها جميع زعماء العالم ومفكروه وفلاسفته .

إن العالم اليوم يمر بمرحلة من الخوف والقلق على مستقبله لأنه يقاسي من عدة آفات تقوده إلى الفناء الكامل إذا لم يعالج العوامل التي سببت هذه الأخطار المحيطة به .

والخطر الأول: الذي يواجهه العالم هو سيطرة المذاهب التوسعية الأنانية المادية في الدول المقدمة التي استطاعت أن تملك من أسباب الدمار وأسلحة الفناء ما يكفي لتدمير العالم إذا بقيت لها الهيمنة على مصائر العالم ومستقبل شعوبه.

في نظرنا أن خطورة هيمنة هذه الدول المتقدمة ناتجة عن المذاهب والنظم الأوربية ذات الجذور الوثنية التي قامت عليها الفلسفات البونانية والحضارة الرومانية وورثت منها النظم الأوربية نسميه الآن سيادة الدولة وسلطتها المطلقة التي لا حدود لها .

في اعتقادنا أن الشريعة الإسلامية هي وحدها التي يمكن أن تقدم للعالم استراتيجية عملية تحرره من هذه الفلسفات الوثنية والمذاهب المادية والنظم الاستقلالية التي بنيت عليها وما ترتب عليها من هيمنة للدول التوسعية الاستعمارية وطغيانها وتهديدها لمصير البشرية بأسلحة الدمار الجماعي والإبادة للإنسانية ذاتها .

أننا نرى أن المرحلة القادمة للفكر الإسلامي (إضافة إلى ما قدمه الفكر في المرحلة السابقة) ستحتاج إلى مجهود كبير لاستنباط المبادئ الإسلامية الأصلية وعرضها على العالم على أساس أنه هو ونظمه المعاصرة والإنسانية كلها في حاجة إليها لمقاومة الأخطار والآفات التي تهدد مستقبل الإنسانية .

وسوف نعرض بعض المبادئ الإسلامية الأصلية في نظام المجتمع والحكم التي يمكن للفكر الإسلامي أن يقدمها للعالم ليثبت أن لديه هو مفاتيح مستقبل أمن العالم وسلامته الذي تهدده هيمنة الدول التوسعية التي تتحكم في شعوبها وتستغل الشعوب الأخرى كذلك .

وقد يعترض علينا كثيرون بأن واقعنا الحاضر لا يؤيد القول بفاعلية هذه المبادئ التي يقدمها لنا الإسلام ونعتبرها من أصوله فيما يتعلق بنظم المجتمع والحكم ولا شك أن استعراض تاريخنا السياسي والفكري يشهد بأننا ابتعدنا كثيرا عن هذه المبادئ الأصلية وتخلينا عنها؛

وأن ذلك هو الذي أدي إلى تخلفنا الذي مكن الاستعمار من السيطرة علينا عسكريا وفكريا وثقافيا وأن ما حصلنا عليه في الماضي تقدم وحضارة كان بسبب التزامنا بهذه المبادئ وأن تخلفنا نتج عن تعطيل بعض المبادئ أو تخلينا عنها .

صحيح أننا قد عطلنا مبدأ الشوري في ميدان الحكم بعد عهد الخلفاء الراشدين , ولكنه بقي حرا في نطاق الفقه والاجتهاد بالإضافة إلى أربعة مبادئ أساسية أخرى كانت محترمة ونافذة في جميع عصور الخلافة الزاهرة وهي التي مكنت أمتنا من أن تبني أكبر حضارة عالمية في تلك العصور خلال أربعة عشر قرنا .

هذه المبادئ الربعة

أولها: وحدة الأمة والدول الإسلامية
وثانيها: سيادة الشريعة وهيمنتها
وثالثا: استقلال الفقه والعلم عن الدولة
وأخيرا: استقلال الأمة العربية ودولها عن السيطرة الأجنبية والنفوذ الأجنبي .

منذ بدأ السيطرة الاستعمارية استطاع الاستعمار أن يوجد له عملاء في ميدان التشريع والثقافية والسياسية والحكم يساعدونه في القضاء على هذه المبادئ التي كانت أساس الاستقلال التشريعي والعلمي وحصن الحضارة الإسلامية خلال أربعة عشر قرنا .

لقد عمل البعض لترويج الفكرة الاستعمارية القائلة بأن الحل الوحيد للخروج من حالة التخلف هو التخلي عن جميع المبادئ الإسلامية والتنكر لها من أجل الاندماج في الثقافة الأجنبية والمجتمعات الأوربية وتبني نظمها ومبادئها وأفكارها (بخيرها وشرها ،وحلوها ومرها ،ما استحب منها وما يكره ،كما قال أحد كتابهم)

بعبارة أخرى أن مركب النقص لدي بعض مفكرينا وقادتنا استخدم لإدخال شعوبنا في دائرة التبعية والاندماج في المجتمعات المعادية لنا والتنكر لمبادئها الأصلية .

لكن مقاومة المفكرين ودعاة النهضة الإسلامية قد نجح في وقف تيار دعوة " التغريب " فقوي التيار الشعبي الذي جعل المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية هدفا للكفاح الشعبي مما اضطر بعض الحكومات للتجاوب مع هذا التيار وإعلان التزامها بتطبيق الشريعة الإسلامية سواء جاء هذا الإعلان جديا مبينا على الاقتناع أم كان مجرد إجراء سياسي للتهدئة أو لكسب الوقت أو للحصول على تأييد شعبي لأهداف أخرى وكان ذلك ثمرة الصحوة الإسلامية المعاصرة .

إن القاعدة الشعبية للصحوة الإسلامية أوسع بكثير من القواعد التي تقوم عليها الحركات الإسلامية المتعددة والمختلفة وهي بلا شك كانت ثمرة الدعوة التي قام بها المفكرون والإسلاميون والحركات الإسلامية معا وأكثر من ذلك فإنها كانت ثمرة التضحيات التي بذلها الإسلاميون الذين صمدوا في وجه كل أساليب الاضطهاد والقمع التي سلطت عليهم من بعض الأنظمة والحكومات والقوي الأجنبية التي تشجع هذا الاضطهاد ؛

وتجعله في بعض الأحيان شرطا لتعاونها مع بعض الدول والحكومات المختلفة ذلك أن أعدائنا أيقنوا بأن العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية كانت وما زالت وسوف تبقي دائما الينبوع الذي يغذي الاتجاه الشعبي لمقاومة السيطرة الأجنبية الاستعمارية في الماضي والقوي العالمية التوسعية في الحاضر والمستقبل .

وعلينا الآن أن نفكر في مستقبل هذه الصحوة وأن نخطط لذلك علي أساس علمي:

أن دور العلماء والمفكرين المعاصرين متمم لدور الذي قام به أسلافهم في الماضي وهو تزويد القوى الإسلامية والتيار الشعبي المؤيد لها بالخطط الاستراتيجية العلمية لتمكين الصحوة الحاضرة من أن تواصل مسيرتها وتقوم بدورها العالمي لا لصالح شعوبنا فقط وإنما لصالح الشعوب في العالم ونأمل أن يكون هذا البحث أحد الروافد التي تغذي هذه الخطط المستقبلية .

إذا أردننا أن نستخلص من مقارنة أوضاعنا الحاضرة بما وضعه فقهاؤنا من أصول قامت عليها حضارتنا وثقافتنا في الماضي فإننا سنجد أن هذه الأصول في مجال النظام الاجتماعي والسياسي يمكن تركيزها في خمسة مبادئ أهمها استمرار الالتزام بمبدأ الشوري الحرة في الاجتهاد والفقه (خلافا للشائع في كتابات المعاصرين الذين يقولون أن الشوري قد عطلت بعد عهد الخفاء الراشدين)

فإننا يجب أن نلاحظ أن الاستبداد السياسي لم يعطل بقاء مبدأ الشوري حرا وسائدا في مجال الفقه والاجتهاد طوال العصور التي بقيت فيها دولة الخلافة وأنه لم يعطل في هذا المجال إلا في عصورنا الحديثة إلى جانب تعطل المبادئ الأولية الأخرى .

إن تاريخنا يشهد بأن تعطيل مبدأ الشوري في الحكم الذي وقع بعد نهاية عهد الراشدين كان في نظرنا أول العوامل التي أبعدت المجتمع الإسلامي عن الالتزام بالشريعة ومبادئها وتفرعت عنه عوامل أخرى عديدة أدت إلى ما أصاب مجتمعنا من ابتعاد عن الالتزام بمبادئ الشريعة ؛

مما أدي إلى تخلفه وفساده الذي كان من أهم الأسباب التي مكنت أعداءه من إحراز انتصارات عديدة كان أهمها انتصارهم في الحرب الكبرى الأول على الدول العثمانية الذي أدي إلى انهيارها وتخليها عن " الخلافة " وعن الوحدة الإسلامية وتبعتها في هذا التخلي الدول الوطنية التي نشأت في القطار العربية والإسلامية على أنقاض الدولة الإسلامية الموحدة .

هذا الانحراف عن الشوري (رغم خطورته) كان محصورا في تعطيل تطبيق الشوري في نظام الحكم فلم تعطل الشوري في الفقه والتشريع بسبب التزام السلاطين (الذين استولوا على الحكم بالقوة) بالخضوع لحكام الشريعة والالتزام بتطبيقها

(فيما عدا مبدأ البيعة الحرة كأساس لولاية الحكم) باعتبارها التشريع الوحيد الذي يسود في العالم الإسلامي كله ويمنحه بذلك وحدة ثقافية وفكرية وقانونية استمرت طوال أربعة عشر قرنا من تاريخنا وإذا كان الفقه واجه بعض الضغوط التي مارسها الحكم والسلاطين في عهود الخلافة منذ عهد الأمويين فإن أثمة الفقه قاوموا هذه الضغوط فلم يترتب عليها تغيير في المبادئ الأساسية التي يمتاز بها الإسلام في مجال التشريع (لا الحكم) والتي بقيت سائدة في فقهنا بل وفي مجتمعنا كذلك.

وهذه المبادئ هي:

  1. استمر مبدأ الشوري والحوار الحر في الفقه والاجتهاد معمولا به (رغم تعطيل الشوري في مجال اختيار الحكام ومحاسبتهم) وبقي الاجتهاد الفردي حرا كما بقيت المشاورات في مجال العلم والفقه حرة بعيدة عن تدخل الحكام إلى أقصي حد ممكن وقد نجح فقهاؤنا في ذلك بسبب التزامهم بمبدأ الابتعاد عن الحكام والاستقلال عن ذوي السلطان مهما كلفهم ذلك من مصاعب ومتاعب واضطهادات وهذا هو ما يسمي في العصر الحديث بمبدأ الفصل بين السلطات ..
  2. مبدأ هيمنة الشريعة وسيادتها في جميع نواحي الحياة الاجتماعية والسياسة فيما عدا مبدأ البيعة الحرة وخضوع الحكام لرقابة الأمة وأهل الحل والعقد وتمنع هؤلاء بالحرية الكاملة في محاسبة الحكام ووقف اعتداءاتهم على الأفراد الذي عطله حكام القوة والسيطرة الذين خرجوا عن الالتزام بمبدأ الشوري التي فرضها الإسلام .
  3. مبدأ استقلال الشريعة والفقه عن الدولة وعدم تمكن الحكام مهما تكن سطوتهم من التدخل في التشريع لتغيير أحكام الشريعة أو "تطويرها" وبقيت الشريعة هي الملاذ الخير للجماهير يستنجدون بها لتوقف طغيان الحكام في حالات كثيرة مما اضطر سلاطين القوة إلى إعلان التزامهم بالشريعة واحترامهم لها من الناحية النظرية وإن كانوا قد عطلوها عملا فيما يخص مبدأ الشوري كأساس لولاية الحكم .
  4. مبدأ استقلال الأمة الإسلامية في دار الإسلام وعدم خضوعها لسيطرة أجنبية أو نفوذ أجنبي والتزامها بإقامة دولة عظمي موحدة دافعت عن إمبراطوريتها خلال قرون طويلة تضمنت للشعوب الإسلامية عزتها وذاتيتها الحضارية وتفوقها في جميع مبادئ العلم والثقافة .

لقد شهد العالم الإسلامي فترة تخلف في أواخر عهد الدولة العثمانية لكن بدأ الصحوة الإسلامية في الميدان الفكري على يد روادها منذ عهد جمال الدين ومحمد عبده والكواكبي قبل انهيار دولة الخلافة بل كانت في كثير من الأحيان تأخذ صورة نذد لها ومطالبة بإصلاحها بعلاج العيب الكبر الموروث؛

وهو تعطيل الشوري ومقاومة الاستبداد في السلطة والحكم ولم يكن ذلك يعني بأى حال من الأحوال التخلي عن المبادئ الأساسية الأخرى الذي دافع عنها الفقه الإسلامي طوال عصور التاريخ حتى بقيت سائدة في مجتمعنا خلال العصور التي بقيت فيها دولتنا مستقلة موحدة وأهمها المبادئ الخمسة التي ذكرناها .

لكن الغزو العسكري لكثير من أقطارنا وما تبعه من سيطرة استعمارية قد عزل دعاة التيار الإصلاحي الإسلامي عن مراكز القيادة السياسية والفكرية معا وعطل نمو الصحوة الإسلامية في ميادين الفكر والعلم والثقافة وانشغل قادتها وتلاميذهم بصورة أكبر بالدعوة للمقاومة الجهادية والسياسية للاحتلال والسيطرة الاستعمارية ؛

وكانوا هم وتلاميذهم رواد الكفاح الوطني ضد الاستعمار فترة طويلة في كثير من أقطارنا ويكفي أن نذكر منهم الأمير عبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي والسنوسيين وعلى رأسهم عمر المختار والحاج أمين الحسيني والمهدي في السودان وأمثالهم وسار على نهجهم رواد الحركات الإسلامية الحديثة مثل المودودي وحسن البنا وسيد قطب .... الخ .

لكن القوى الاستعمارية استطاعت الالتفاف حول قوي المقاومة الإسلامية في كثير من أقطارنا فأدخلت فرقا من عملائها لتحتل ميادين الصحافة والثقافة والتعليم العصري ومكنتها من ترويج مادي وأفكار تلائم سياستها وتمكنها من إخضاع مجتمعنا لنوع من الاستعمار الفكري والثقافي يدعم سيطرتها السياسية ويكون دعامة لنفوذها بدلا من الاحتلال العسكري الذي زادت تكاليفه وخسائره بسبب المقاومة الإسلامية " الوطنية وكفاح شعوبنا ضد الحكم الأجنبي الذي كان أساسه المبدأ الإسلامي الذي فرضته شريعتنا وهو عدم جواز قبول حكم غير المسلمين لبلد إسلامي .

إن واقعنا الحاضر يمكن وصفه بأننا استطعنا التخلص من الاحتلال الأجنبي في أغلب أقطارنا مع استمراره في أقاليم معه مثل فلسطين وكشمير وأريتريا وأمثالها لكن مجتمعنا ما زال يقاسي سيطرة الاستعمار الفكري الذي لابد من مقاومته والذي تتصدي له الصحوة الإسلامية المعاصرة .

وقبل أن نستعرض مساوئ الاستعمار الثقافي والتشريعي الذي بدأنا في مقاومته والتصدي له يجب أن نلاحظ ما يلي :

  1. أن واقعنا في العصر الحاضر لم يعالج عيوب الماضي (الموروثة) التي أشرنا إليها فيما يتعلق بحرية الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم والإشراف عليهم بواسطة ممثليها ولا داعي للإفاضة في ذلك فإن كل مسلم عليه أن يحكم بنفسه على مدى ما يتمتع به جماهير شعبه من حرية في تطبيق الشوري في مجال الحكم أى أننا لم نستطيع إلى الآن معالجة الانحراف الذي ورثناه من عهد التخلف (الناشئ عن استيلاء الحكام على السلطة بالقوة والغلب) السابقة على الاحتلال العسكري الأجنبي والغزو الثقافي الاستعماري .
  2. وأسوأ من ذلك أننا لم نكتف باستمرار تعطيل الشوري في الحكم بل أن واقعنا قد أضاف إلى ذلك أننا تخلينا عن المبادئ (الأربعة الأخرى) التي احتفظت بها أمتنا وبقيت سائدة ونافذة فيما يتعلق بالتشريع خلال أربعة عشر قرنا وتمتعت بها شعوبنا حتى في أشد عصور التخلف قبل انهيار الدولة العثمانية ويكفي أن نستعرض موقف مجتمعاتنا منها لنري كيف كان تعطيلها سببا في تدهور أحوالنا في "العصر الحديث "
  3. لقد عطلنا مفعول الشوري في الإجماع وحرية الاجتهاد في الفقه رغم أن علماءنا وفقهاءنا قد استطاعوا أن يدافعوا عنه قرونا طويلة وقاوموا محاولات السلاطين والحكام المستبدين للتدخل فيه صحيح أنه كان قد أصيب بشلل نصفي نتيجة قفل باب الاجتهاد لكن الاجتهاد في الدول الوطنية الحديثة فقد معناه وأثره وفاعليته بسبب استغناء حكامنا عن تطبيق الشريعة وتخليهم عن الالتزام بها و " تحررهم " من سيادتها عليهم وعلى مجتمعهم بحجة إقامة دولة حديثة ذات تشريع " عصري " وأدي إلى سيطرة الحكم الشمولي الذي يضربون فيه معارضيهم وشعوبهم بالقوانين الوضعية الظالمة " العصرية ".
  4. تعطيل مبدأ هيمنة الشريعة وسيادتها في المجتمع لأن الدول الوطنية أو القومية المتعددة التي قامت علي أنقاض الدول الإسلامية الموحدة قد تخلي معظمها عن تطبيق الشريعة الإسلامية واستعارات قوانين وضعية مستوردة من الدول الأجنبية ولم يكن هذا التخلي اختياريا بل أنها كانت من ضمن التركة الاستعمارية التي سبقت الاستقلال في الدول التي كانت خاضعة لاحتلال أجنبي وجارتها التي قلدتها وسارت على نهجها وبذلك تعطل تطبيق الشريعة وسيادتها من حيث المبدأ (وأن كانت بقيت سائدة في حدود معينة استثنائية) وكان هذا التعطيل لصالح الاستعمار في الأمر إذ أن الحكم الأجنبي لم يكن يريد أن يلتزم بالخضوع لشريعتنا (لأن أول مبادئها عدم جواز الخضوع له) فأدخل الاستعمار معه الفكرة الأوربية التي تعتبر القانون من صنع الدولة لتحل القوانين الوضعية التي تصنعها الدولة التي تسيطر الأجنبية ففقدنا بذلك مبدأ سيادة الشريعة بل وسيادة القانون وسيادة شعوبنا وأمتنا في كثير من أوطانها .
  5. زوال استقلال الشريعة عن الدولة إذ لم يعدله معني طالما أن تطبيقها قد عطل فخسرنا بذلك مبدأ آخر من أهم مبادئ الشريعة وهو مبدأ استقلال التشريع عن الدولة وهو مبدأ سيكون له أهمية كبري في مستقبل العالم لو تمسكنا به وقدمنا للعالم بثقة واعتزاز .
  6. لقد خسرنا الوحدة الشاملة لدار الإسلام لأن القوى الأجنبية التي فرضت سيطرتها على بلادنا اقتسمت هذه القطار فيها بينها وتعمدت يمزيقها وفرضت علينا التجزئة التي فصلت كل قطر من أقطارنا عن جيرانه وشركائه وإذا كانت الحركات الوطنية قد قاومت السيطرة الأجنبية فإن هذه المقاومة كانت في إطار " وطني " في حدود القطر الذي تمثله لكن أساسها ومنبع قوتها كانت في العقيدة والعزة الإسلامية .
  7. لقد حصلت بعض أقطارنا على استقلالها في حدود إقليم وطني صغير لا يستطيع مقاومة النفوذ الأجنبي والسيطرة التي تفرضها الدول الكبرى التوسعية والاستعمارية وحاول الاستعمار وحاول الاستعمار وعملاؤه إيهامنا بأن الاستقلال "الوطني" يغنينا عن الوحدة الشاملة لكن الفكر الإسلامي تصدي لهذه الخطط الاستعمارية وبدأت الدعوة للوحدة كمرحلة تالية للاستقلال لكي يكون استقلالا كاملا لدار الإسلام كلها وقد حاول البعض الدعوة للقومية العربية ليكون الاستقلال في نطاق القطار العربية وحدها لكن الوحدة الإسلامية التي تجاوزت مرحلة الوطنية والقومية معا و وتعتبرها من المطالب المستقبلية التي لم تدخل بعد في نطاق مطالب الحكومات أو الأحزاب الوطنية أو القومية .
  8. كان أول ما خسرناه بسبب انهيار وحدثتنا هو سيادتنا الكاملة ففي عهد الخلافة كنا نشكر من استبداد حكامنا المسلمين وما زلنا حتى الآن نعيب عليهم الانحراف عن مبدأ الشوري لكنهم مقابل ذلك دافعوا عن استقلالنا وصدوا الهجمات المتتالية للدول الاستعمارية على شواطئنا وأقطارنا المختلفة ونجحوا في ذلك في أحيان كثيرة لكن هذا الحال تبدل بعد الحرب العالمية الأولي إذ احتل المستعمرين جميع أقطارنا واحد بعد الآخر وسلبوا شعوبنا حريتها واستغلوا ثرواتها .

نحن لا ندعي أن حكام الماضي لا يتحملون مسئولية ما نتج عن أخطائهم من تخلف مجتمعاتنا وعجزنا عن مقاومة العدوان الذي نتج عن هذا التخلف لكن ما نريد أن نقوله الآن أننا وجدنا أنفسنا بعد انهيار دولة الخلافة نواجه سيطرة أجنبية على أكثر أقطارنا حرمتنا من استقلالنا وسادتنا في بلادنا التي أصبحت مجزأة ومنفصلة بعضها عن بعض وفي أغلب الأحيان كان حكامها مختلفين ومتنازعين ومتخاصمين مما أثر على العلاقات بين شعوبنا .

صحيح أن شعوبنا قاومت العدوان الاستعماري وما زالت تواجهه لكننا حتى الآن لا نستطيع أن نعتبر أن جميع أقطارنا قد تحررت من السيطرة الأجنبية المباشرة أو غير المباشرة أو أنها قد حققت استقلالها "الوطني" بعد أن حرمت من وحدتها .

فضلا عن ذلك عطلنا مبدأ استقلال الشريعة وسيادتها على الدولة وتخلينا عن مبدأ الشوري في الإجماع وحرية الاستنباط في الفقه كما أوضحنا سابقا.

إذا كنا قد حرصنا على بيان المبادئ الأساسية التي أدي واقعنا المعاصر إلى تجاهلها وانحرافنا عنها فذلك لأن هذه المبادئ هي في نظرنا مفاتيح الاتجاهات المستقبلية التي يبحث عنها العالم اليوم بعد أن فشلت محاولاته وتجاربه في تحصين المجتمعات من خطر الاستبداد والشمولي الذي انتشر في كثير من الدول وخاصة في إقاليم العالم الثالث .

إن طغيان الحكام في كثير من دول العالم المتقدمة والمتخلفة يرجع سببه الأول إلى تضخيم سلطة الدولة وتغولها وإهدار لحقوق الأفراد وحرياتهم وهذا ناتج عن إعطائها سلطة مطلقة في التشريع الوضعي اعتمادا على النظريات الأوروبية التي تبنت فكرة أن القانون هو إرادة الدولة؛

هذه الفكرة تجعل الكلام عن سيادة القانون مجرد محاول للحد من سلطة الموظفين العاملين بالدولة لكنه لا يحد من سلطة الدولة ذاتها ومن يسيطرون عليها ويتكلمون باسمها (بالحق أو بالباطل) لأن أمامهم بابا واسعا هو تغيير القوانين والدساتير وإلغاؤها وإصدار النصوص التي تسمح لهم بكل ما تريد تحت ستار زائف من الشعارات الكاذبة الزائفة .

إن الشريعة حررتنا وهي قادرة إذا تمسكنا بها أن تحرر العالم كله من هذا المبدأ الأوروبي (والذي أدخله علينا الاحتلال الأجنبي ثم الاستعمار التنكري الذي نتج عنه) لأن سيادة التشريعية وطابعها الإلهي تقيم سدا منيعا يوقف تغول الدولة وتضخم سلطاتها (عن طريق استعمال التشريع سلاحا للتضييق على حريات الأفراد والجماعات ولتقيد حقوق الإنسان) .

إن مبدأ سيادة الشريعة وهيمنتها على المجتمع وعلى الدولة بكلمة المبدأ الثاني وهو استقلال التشريع عن الدولة والمبدأ الثالث وهو " الإجماع " كمصدر للفقه الذي يعطي سلطة التشريع للأمة وأفرادها من المجتهدين والعلماء لا للدولة .

أما مبدأ الوحدة الإسلامية فهو دعامة لسلطان الأمة فكلما كانت الأمة كبيرة زاد وزنها وقوي سلطانها إن وحدة الأمة في عصرنا الذي فرضت علينا فيه تجزئة الدولة وتعددها تساعدنا على مقاومة ضعف الدول ذات السيادة المحدودة في نطاق جزئ ضئيل من دار الإسلام أو العالم الإسلامي الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية الموحدة وتطبيق الشريعة يستلزم وحدة الأمة في الإجماع؛

وفي نطاق الاجتهاد وبذلك يجب علينا أن يكون للأمة الكبيرة الموحدة بعض الاختصاصات في نطاق التشريع والحكم عن طريق وجود منظمات دولية أو مجامع عملية تمثلها.

ثم إن استقلال الأمة بتشريعاتها عن الدولة الوطنية التي تحكمها يساعد تلك الدولة (أو الدول) على مقاومة ضغوط القوى الأجنبية التوسعية التي تستعمل ضد كل دولة من دولنا وتجعلها مضطرة لإرضائها لكن الأمة الكبيرة تستعصي على تلك الضغوط ولا تخضع للنفوذ الأجنبي بسهولة كما تخضع الأقطار الصغيرة وحكوماتها في حدودها " الوطنية "

هذه هي صورة نظرية لواقعنا كما نراه في مرآه في الفقه ومبادئه ولكن هذه الصورة قد تعرضت لتشويه أكثر بما أقحم علينا من أفكار مسمومة وشعارات زائفة مستوردة تحل محل مبادئ الصالة وتبعدنا عن الاعتزاز بشخصيتنا التاريخية التي تميزت بالاستقلال والعزة والاعتماد على الذات أهم هذه الأفكار المستوردة إعطاء الدولة سيادة مطلقة وعدم خضوعها لأحكام الشريعة وعدم التشريع عنها واعتبار القانون الوضعي من صنعها وتعبيرا عن إرادتها وإحلاله محل الشريعة ذات المصادر السماوية .

كانت المهمة الأولي لهذه الأفكار المستوردة هي أن تشغل المكان الذي كانت تشغله المبادئ الأصلية التي نعتز بها وبذلك تحول دون الدعوة للعمل بها بزعم أنها دعوة للرجعية والجمود والتخلف وعهود الظلام

وما إلى ذلك مما يكرره مروجو التبعية الفكرية ودعاة الذيلية والاندماج في ركاب العدو الذي تركت جيوشه العسكرية قواعدها في بلادنا بعد أن اطمأن فلاسفته وأعوانه إلى أنه ترك لنا أفكار مسمومة يلتقطها تجار المخلفات الاستعمارية لكي يكسبوا من ورائها مالا وجاها ونفوذا وسلطانا أو ليتخذوا من هذه التجارة وسيلة لمشاركة القوي الأجنبية المستفيدة منها في الغنائم التي يحصلون عليها من استغلال لثرواتنا وسيطرتهم على بلادنا .

إن بعض هذه الأفكار المسمومة قد أصبحت " موضة " عصر النهضة الحديثة التي يتباري ذو النفوذ والسلطان في التباهي بها وترويجها بل يفرضونها على أطفالنا وأجيالنا الصاعدة لتحل محل مبادئنا الأصلية لكي تقتلع من عقولنا ونفوسنا كل سبب يدفعنا إلى ثقفتنا بأنفسنا أو اعتزازنا بشخصياتنا التاريخية ومقوماتها ومبادئها الأصلية .

إن الحقيقة التي يحاربها أعداؤنا وعملائهم هي أن مبادئ الشريعة التي أشرنا إليها هي مفتاح التطور والتقدم في مستقبلنا ومستقبل العالم كله وأن أعمالها وتنفيذها هو ضمانه لشعوبنا وللفقه الدستوري في العالم الحديث الذي يبحث عن علاج لمشاكل النظم الدستورية المعاصرة وانحرافاتها التي يشكو منها العالم في جمع قاراته وأقاليمه .

إن الصحوة الإسلامية سوف تدخل الآن مرحلة جديدة تقدم فيها المبادئ التي تتميز بها الشريعة الإسلامية عن النظريات والنظم المعاصرة التي تحتاج إلى التزود من شريعتنا بالمبادئ التي ستسود في المستقبل لأنها تقدم العلاج الذي يبحث عنه العالم لحماية المجتمعات من الطغيان المولي المبني علي احتكار الدولة لسلطة التشريع إلى جانب سلطة التنفيذ واعتبارها القوانين الوضعية حقا من حقوقها المستمدة من سيادتها .

إننا بذلك نحيط المحاولات التي بدأها عملاء الاستعمار الفكرى والغزو الثقافي الذي يعطي النظريات الأوربية المستوردة قداسة باعتبارها تمثل الفكر العصري أو العالمي أو التقدمي وهي صفات يقصدون بها طمس معالم الفكر الإسلامي والقضاء عليها وإبعادها عن المجتمع بحجة أنها في نظرهم من آثار الماضي ؛

فلا تتمتع بصفات المعاصرة أو الحداثة أو المتقدم التي تحتكرها في نظرهم الأفكار التي يصدرها لنا العرب والتي بيني بعضهم لنفسه مركز قوة من الثقافة أو الإعلام أو الاقتصاد أو السياسية بالترويج لها ويعتبر أنها بعيدة عن كل ما يحالفها هو من آثار الماضي الذي لا مجال له في عصرنا .

إن من يروجون للأفكار المستوردة هم أقلية من الطوائف المحددة التي مكنها الواقع الاستعماري والنفوذ الأجنبي الناتج عنه في ميادين السياسة والثقافة من الحصول على مغانم ومناصب لا يستحقونها فهم يتمتعون بمراكز القوة والنفوذ في المجتمع باعتبارهم يمثلون النفوذ الفكري والثقافي والسياسي الأجنبي الذي ما زال له الدور الأول في بقاء كثير من النظم ؛

وكثير من الحكومات الأجنبي الذي ما زال له الدور الأول في بقاء كثير من النظم وكثير من الحكومات في بعض أقطارنا إنهم فعلا سعداء لأنهم يستغلون المبادئ المستوردة للحصول على مغانم شخصية على حساب مصالح شعوبهم وأمنهم بل وعلى حساب تقدم العلم والفكر وتطوره في المستقبل .

إن الصحوة الإسلامية الحالية إنما هي دليل على فشل هؤلاء العملاء في محاولتهم لفرض الأفكار وهدفها أن نبدأ حركة التطور الدستورى في المستقبل على أساس المبادئ المشار إليها التي نفخر بها ونعتز بشريعتنا لأنها سبقت جميع النظريات الأوربية والأجنبية في تقديم العلاج الضروري لإخراجنا من الأوضاع التي تشكو منها شعوبنا ويشكو منها العالم كله نتيجة تضخم سلطة الدولة وتغولها واستبدادها بحريات الفرد وحقوق الإنسان.

إن المروجين للأفكار الاستعمارية والمستفيدين منها من أبناء شعوبنا ليسوا إلا حاملي الميكروب أو ناقلي العدوي لكن موطن الداء الحقيقي ومنبت الخطر هو ما يواجهه العالم من سيطرة القوى الكبرى التي تستغل شعوب العالم وتعمل كل ما تستطيع لبقاء سيطرتها واستغلالها وهي تفرض إرادتها على المستوى الدولي عن طريق ما تسميه " منظمات عالمية " تتخذها مجرد وسيلة لفرض سياستها على دول العالم وحكوماته وتعاديها وتحاصرها وتقضي عليها إذا خرجت عن سيطرتها وتمردن على نفوذها .

ثم إنها تعامل الدول والحكومات القائمة في جميع قارات العالم على أنها مجرد أدوات لتنفيذ خططها كما هو الحال في نظرها إلى المنظمات الدولية العالمية .

وما دامت الدول الوطنية والمنظمات الدولية في نظر تلك القوى الاستعمارية العالمية هي الأداة التي تستعملها لتنفيذ القرارات التي تريد تنفيذها (وتعطيل القرارات التي لا ترغب في صدورها أو في تنفيذها بعد صدورها)

فإن ذلك يستلزم أن تبقي هذه الدول هي صاحبة السلطة المطلقة على شعوبها وأن تكون قادرة على فرض ما تريد من خطط وقرارات على تلك الشعوب بواسطة قوانين " وضعية " حتى تنفذ للدول ما تفرضه عليها بواسطة هيمنتها العالمية أو بواسطة المنظمات العالمية التي تسيطر عليها .

إن فكرة الدولة صاحبة السلطة المطلقة في التشريع كما هي في التنفيذ والمال والاقتصاد هي في الأصل فكرة استعمارية حيث غايتها وهدفها ومن حيث المنبع وما زالت كذلك حتى اليوم وستظل كذلك طالما كانت هناك قوة كبرى تريد تسيير شعوب العالم كله وفق هواها ومخططاتها وما تعتقد أن مصالحها العليا لأن الدولة الصغيرة وحكوماتها وقوانينها الوضعية ستبقي هي الأداة التي يمكن لها بها أن تفرض إرادتها على شعوبنا دون حاجة للاتجاه إلى الاحتلال العسكري .

إن فكرة حق الدولة في إصدار قوانين وضعية إنما بدأت في كثير من بلادنا على يد المستعمرين أنفسهم الذين احتلوا هذه الأقطار أو كانوا يخططون لاحتلالها ولم يكونوا راغبين في أن تبقي سلطة الحكومات (التي يفرضونها على شعوبنا) سلطة محدودة في نطاق تنفيذ الشريعة ؛

ولا أن تبقي تلك الشريعة مهيمنة على المجتمع ومستقلة عن الحكام الذين تستطيع القوي الأجنبية توجيههم والضغط عليهم إن السياسة الاستعمارية لا يمكن أن تفرض إلا بواسطة قوانين وضعية يصدرونها لنا هم أو يفرضون وضعها على الحكومات الخاضعة لهم أو التي يجب أن تكون خاضعة لهم .

إن منطلق السياسة الاستعمارية نفسه يستلزم أن تكون الحكومات الخاضعة لإرادة المستعمر ذات سلطة مطلقة لا تتقيد بشريعة لا يعرفونها ولا يريدون أن يعترفوا بها ولا يريدون أن يكون سلطانها فوق سلطانهم أو فوق سلطان حكام يمكنهم أن يفرضوهم علينا ؛

أو يفرضوا عليهم ما يريدون في البلاد التي تخضع لنفوذهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن لهم مصلحة في أن يبقي كل حاكم محلي في بلادنا مطلق السلطة قادرا على أن يفرض علينا ما يفرضونه عليه أنهم بذلك يفرضون بواسطته إرادتهم عن طريق سيطرتهم الكاملة عليه وسيطرته الكاملة علينا وكلاهما لا يريد أن يكون محدودا أو مقيدا بحدود شريعتنا وأصولها .

إن من يتأمل أوضاع العالم في الوقت الحاضر تتكشف له هذه الحقيقة وهي أن قوى السيطرة العالمية هي التي تفرض على الدول الصغيرة التي تريد استغلالها حكومات مطلقة السلطة وعلى حد تغييرهم " تملك أن تفرض على الشعوب قرارات لا ترضي بها تلك الشعوب "

هذه هي الحقيقة الثابتة رغم كل تمويه ولا يتجاهل هذه الحقيقة إلا الذسج والمنتفعون الذين لديهم الاستعداد للعمل لصالح أى حكم سواء كان حكما أجنبيا أو وطنيا وسواء كان عادلا أو ظالما لأن هدفهم هو الانتفاع والسير في ركاب الحكام وتزويدهم بأساليب التمويه لخداع شعوبهم وتضليها ليس فقط عن طريق القهر والكبت والعنف وإنما أيضا عن طريق التضليل الإعلامي والتمويه الثقافي والتزييف الفكري .

إن حاجة الدول الأجنبية إلى إطلاق سلطة الحكومات في أقطارنا المختلفة هو السبب الحقيقي الذي يدفعها إلى اتخاذ جميع الأساليب المشروعة وغير المشروعة (بما فيها الاغتيالات الانقلابات) لمنع هيمنة الشريعة في بلادنا .

إن معركتنا من أجل تطبيق الشريعة وسيادتها هو أكبر مساهمة لنا لإقامة مستقبل العالم على أساس تنفيذ سلطة الحكومات والدول وحصرها في نطاق تنفيذ الشريعة الإلهية ومبادئها ومنعها تنفيذ ما تمليه عليه القوى العالمية التوسعية من قرارات وإجراءات تخالف سيادتنا وشريعتنا وإرادتنا ولا يكون ذلك إلا بنزع سلاح القانون الوضعي من يد الحكام والدول .

إن بعض حكامنا وقادتنا يعتقدون أن لهم مصلحة شخصية أو رسمية في تعطيل تطبيق الشريعة لأنهم لا يعرفونها أو لأنها تقيد سلطانهم أو تحرمهم من " حرية " إصدار القوانين التي يريدونها وهؤلاء يجب أن يعلموا أن من " حرية " إصدار القوانين التي يريدونها يجب أن يعلموا أن مصلحة القوي الأجنبية في " تحرير " القوانين الوضعية من سيادة الشريعة وهيمنتها أكبر بكثير من مصالحهم الذاتية

وأننا عندما نطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية لا نقصد معارضتهم إلا لأن الشريعة هي سلاحنا لنقاوم السيطرة العالمية للقوى الاستغلالية والاستعمارية التي تستفيد من موقفهم والتي لا ترضي باستقلال شريعتنا عنهم لأن ذلك معناه أنهم لا يستطيعون أن يفرضوا سيطرتهم في حالة التزام الشعوب بها واعتقدوا أن ذلك يخالف مبادئ الشريعة وأصولها .

أما نحن فأننا ندعو إلى ما قرره الإسلام من أن السيادة للشريعة ومصادرها الإلهية المستقلة عن الدولة تماما والواقع أن مبدأ سيادة الشريعة واستقلالها هو الاتجاه المستقبلي الذي يتجه نحو العالم تحت اسم " سيادة القانون " لكن لا قيمة لها في العمل إذا لك يكملها استقلال الشريعة (القانون) عن الدولة بحيث تكون هناك جهة مستقلة عن الدولة هي التي تملك سلطة التقنين بصفة أساسية .

قد يقول قائل أن الدول الكبرى المتقدمة تمارس سلطة التشريع في بلادها ولكن يرد على ذلك بأنها تسير في هذا الاتجاه ففي النظام الأمريكي لا تملك الدولة سلطة التشريع وإنما يملكها " الكونجرس " الأمريكي لكنه مع ذلك يتقيد بالدستور الذي تحرسه المحكمة العليا إنها أكثر منا الآن اعترافا بمبدأ التفرقة بين الأمة والدولة ؛

ثم أنهم يسيرون نحو مبدأ استقلال سلطة التشريع (مع بقائه وضعيا أو بقائه صادرا من إحدى سلطات الدولة) ويكفي أن نذكر النظام الرئاسي في الولايات المتحدة حيث الهيئة التشريعية مستقلة تماما عن " الإدارة " التي يمثلها " الرئيس "

بل أنها هي التي تهيمن على الشئون الهامة للأمة ويؤكد أنهم لا يستعملون كلمة " الدولة " إطلاقا في الإشارة إلى الولايات المتحدة كلها وإنما يصفونها بأنها " الاتحاد " أما الدولة فهي ما تسميه بالعربية " الولايات "

إن سلطة التشريع في " الولايات المتحدة " ليست للولايات (الدول) المتحدة ولا لإدارة الاتحاد (التي يمثلها الرئيسي) بل للكونجرس الذي يضم ممثلي الشعب وممثلي الولايات (الاثنين وخمسين) ويملك سلطة التشريع كاملة .

معني ذلك أن أكبر الاتحادات في العامل وهو (الاتحاد الأمريكي) قد أوجد هيئة متميزة تتمتع بقدر من الاستقلال لتمارس سلطة التشريع فلا تملك إدارة الاتحاد ودولة (الولايات) مثلا سلطة وضع القوانين الاتحادية والفرق بين ما وصل غليه هذا النظام الرئاسي الأمريكي؛

وبين ما وصل إليه فقهاؤنا ما يأتي:

الأول: أن الكونجرس الأمريكي مطلق السلطة في التشريع غير مقيد بشريعة سماوية وعقيدة دينية (علماني لا ديني) أما إذا وجدت هيئة إسلامية تتولي التشريع ومستقلة (عن الحكومات والدول) فإن هذه الهيئة تكون سلطتها عقيدة بالمصادر الشرعية وبمعني أنها تلتزم بالمبادئ الأساسية في الكتاب والسنة وبذلك يكون للشعب الحق بما فيه العلماء والمجتهدون في مراقبتها ومحاسبتها ووقف طغيانها.
الثاني: الذين يتولون استنباط الأحكام في الإسلام هم علماء وخبراء وفقهاء أى أن المجلس التشريعي في الإسلام أعضاؤه لابد أن يكونوا على قد كاف من الفقه والعلم والخبرة في التخصصات العلمية والاجتماعية المكملة للفقه فلا يكفي أن يتم انتخابهم من الولايات ومن الشعب بل يجب توفر قدر من الكفاءة العلمية (الاجتهاد) في الفقه والدستور .
الثالث: أن هذه الهيئة علمية بحتة ولا تمارس سلطة سياسية أن العالم كله إنما يقف أمام مشكلة كبرى هي إيجاد مصدر للقانون يكون أعلي من الدولة وقد حل الإسلام هذه المشكلة بتقرير أن مصدر التشريع هو الخالق سبحانه وتعالي وإرادته متجسدة في الكتاب والسنة والعلم والفقه هو المترجم والمفسر لهما والمستنبط للأحكام منها
وبهذا سبق الإسلام النظم والنظريات الحديثة إلى إيجاد أساس إلهي وسماوي وعقيدي لتقيد سلطة الهيئة التي تستنبط التشريع سواء كانت إحدى سلطات الدول أو مستقلة عنها وفضلا عن ذلك فإن هذه الهيئة لها طابع علمي وفقهي ولا تملك سلطات سياسية مما يجعل فصل السلطات في شريعتنا أقوى منه في أى نظام عصري في العالم كله .

إن الدول الكبرى ذاتها متجهة جديا إلى التفرقة بين حقوق الأمم وسلطة الدول ومعترفة بمبدأ التوسع في حقوق الأمم والتضييق في سلطة الدول ومما يؤسف له أنها لا تسمح للدول الصغيرة أن تسير في هذا الاتجاه لأنها تريد أن تبقي الدول الصغيرة لعبة في يدها تحركنا بواسطة حكام لا حدود لسلطاتهم .

أننا وجميع الدول الصغيرة المتخلفة تسير في اتجاه عكسي للتيار العالم نحو توسيع سلطان الأمة وحقوقها ويزداد هذا الاتجاه الرجعي وضوحا كلما كان الحاكم مغتصبا ولا ثقة في أمته فيه فهو يستعين بفرقة من الفلاسفة الذين يقيمون له " وثيقة الدول " التي تملك كل شئ وتستطيع أن تعمل كل شئ بالقانون الوضعي الذي لا يلزم بشريعة سماوية .

لابد من وقف هذا المد الرجعي نحو التوسع في سلطات الدولة باحترامنا المبدأ الإسلامي الأصيل وهو تقييد سلطة التشريع للدولة وإيجاد هيئة مستقلة تمارس هذه الولاية ممثلة للأمة في صورة هيئة اتحادية أو منظمة إسلامية تكون وحدها مختصة بشئون التشريع والفقه بطريق الإجماع أو الاجتهاد على أساس المصادر الإلهية للشريعة الإسلامية ولا يكون للدولة اختصاص في هذا المجال .

إن النظريات الأوربية بدأت في بيئة وثنية وكان منطق هذه البيئة أن تكون السلطة المطلقة بشرية وإنسانية وقد اكتفوا بأن أعطوها للعامة (أى أغلبية الأمة أو الشعب) وبرغم هذه البداية الوثنية إلا أنهم سائرون بخطى عملية جدية نحو الفصل بين سلطة التشريع وسلطة الحكم كما بينا ومن واجبنا أن نساعدهم في ذلك ونسبقهم إليه التزاما بمبادئ شريعتنا التي يجب أن تتمتع باستقلال كامل عن الدول .

لقد زودتنا عقيدة الإسلام بالبداية الصحيحة التي تفرض علينا في جميع الظروف والأحوال ألا نعترف بالسلطة المطلقة لأي جهة إنسانية لأن السلطة المطلقة أى السيادة الكاملة لا يملكها إلا الله وحده وهذا وهو المبدأ الذي يجب أن نقدمه على أنه مفتاح التطور الدستوري في المستقبل وإن كان بعض كتبانا يتنكرون له بحجة أنه من مخلفات " الماضي ".

وتطبيقا لهذا المبدأ فإن فقهنا (في الماضي الذي يشهرون به) نجح في إبعاد الحكام عن التشريع والفقه وإخضاعهم للشريعة (سواء كانت مستمدة من مصادر إلهية أو مصادر اجتهادية) لكن الاستعمار أدخل علينا النظريات الأوربية (العصرية في نظرهم) ذات الجذور الوثنية وابتلانا بها لمصحته رغم تعارضها مع مبادئنا ؛

ومما يؤسف له أن بعض من تسمم بالفكر الأوربي ما زال يواصل الدفاع عن هذه المبادئ المستوردة ذات الأصول الوثنية حتى أن بعضهم يهاجم مبادئ شريعتنا الإلهية بل أن منهم من ينتقد الطابع الإلهي للشريعة مسايرة للفكر الأوربي (الذي يطلق سلطان الدول بحجة ممارسة السيادة) وهذه المسايرة ليست نتيجة فكر أو بحث وإنما هي نتيجة مرضي نفسي ومركب نقص بصورة للمصابين به أن كل ما عند أعداهم هو أفضل بحجة أنه أحدث أو أنه عصري .

إن فكرة العصرية و " الحداثة " التي ينسبها بعضهم لكل ما يستوردن من أفكار أجنبية إنما تعني في نظر دعاتها وجوب التشبه بأعدائنا وكل ما يجبلونه لنا من نماذج وفلسفات وأفكار ونظريات اجتماعية ذات أصول وثنية .

إن هؤلاء لا يريدون منا أن نختار بين ما نأخذ بين ما نأخذ وما نترك من المستوردات الفكرية التي يروجونها بل يتركون أعدائنا المسيطرين علينا ليكونوا هم الذي يختارون ما يجلبونه لنا وهم يختارون لنا نظرياتهم في العلوم الاجتماعية مثل التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع ؛

وما يتصل بها مما يذيب شخصيتنا ويبعدنا عن أصولنا ويصرفنا عن التباهي بأمجادها التاريخية حتى لا نفكر في الاعتزاز بما قبل عهد الاحتلال بحجة أنه من مخلفات العصور الوسطي التي كانت في تاريخ أوربا عهود ظلام أوروبا في القرن الوسطي كان يقابله في عالمنا الإسلامي أكبر حضارة شهدها العالم في تلك المنطقة ؛

فضلا عن أنه كان عصر سيادتنا واستقلالنا ووحدتنا أن ترويج فكرة ظلام أوروبا في العصور الوسطي لا يهمنا بأننا كنا معها في هذا الظلام متعمدة له هدف استعماري وهو تدعيم المبررات التي قدمها المستعمرون لشعوبهم عندما قرروا الهجوم على أقطارنا واحتلالها إذ زعموا لهم أن الجيوش التي غزت بلادنا قدمت إلينا لنقوم بعملية تمدينية ...

وما زالوا يدعون أن سيطرتهم ونفوذهم في بلادنا تقوم بهذه المهمة التمدينية حتى أن الدعاية الصهيونية هي أيضا ترفع هذا الشعار بأنها اغتصبت فلسطين لتكون واحة للتقدم والحرية وسط مستنقع الظلام والتخلف في العالم العربي وما زال دعاة فكرة "العصرية" والحداثة أول عملائها وحلفاءها سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا .

والغريب أن شعوب الدول الاستعمارية ذاتها لم تعد تصدق هذا المبرر الزائف ولكن عملاءهم في بلادنا ما زالوا متشبثين به ومروجين له بل أصبحت عندهم حالة مرضية حتى أصيبوا بمركب النقص أو " عقيدة الانهزامية " التي تصاب بها النفوس الضعيفة للمغلوبين: وتدفعهم إلى أن يقلدوا الغالبين تقليدا أعمي فيما لديهم من خير وشر أو نافع وضار .

تشخصيات ووصايا للحركات الإسلامية المعاصرة

الأستاذ الدكتور حسان حتحوت

من تلاميذ الإمام الشهيد حسن البنا الأقربين وله يدين بصياغة شخصيته الإسلامية وكان من المتطوعين لفلسطين عام 1948 وعمل بالكويت ربع قرن من الزمان وكان أستاذا ورئيسا لقسم أمراض النساء والتوليد بكلية الطب بجامعة الكويت منذ إنشائه عام 75 حتى استقال عام 1988 ليصرف جهده إلى العمل الإسلامي في أمريكا؛

راسخ القدم في ثقافيته العربية والإنجليزية وله بجانب منشوراته العلمية التي تقارب المائة مؤلف باللغتين منها ديوانه الشعري جراح وأفراح وكتابه بالإنجليزية عن الجوانب الإسلامية لعلم أمراض النساء والتوليد إذ أدخل ذلك ضمن المقرر الدراسي لطلابه بجامعة الكويت وعدة كتب أخرى .

عضو مجلس الأمناء للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وعضو لجنة أخلاق المهنة للإتحاد الدول لأمراض النساء والولادة وعضو بعديد من الهيئات الطبية العربية والدولية من أهل الفكر والقلم واللسان والاتزان ويقفها جميعا على خدمة الإسلام .

تشخيصات ووصايا للحركة الإسلامية المعاصرة

في قصد الله ومشيئته أن يخلق الإنسان ليضيف إلى الخلائق التي يحملها هذا الكوكب الأرضي مخلوقات يختلف عنها ويسمو عليها وليس مناط هذا التفرد اختلافا في تركيب جسم الإنسان فهو كغيره من المخلوقات مركب من تلك العناصر التي تشتمل عليها طينة الأرض ؛

وإذا قارناه بما يسمي الحيوانات العليا وجدناه يشاطرها نفس الوظئاف من دورة دم وتنفس وتغذية وحركة وتناسل ومع ذلك فلسنا بحيوانات نحن أعلي منها لا بتركيب كيميائي ولا بوظائف بيولوجية ولكننا وحدنا صعدنا خطوة لم تصعدها الحيوانات هي أننا رغم جسمنا الطيني جاونا عالم البيولوجيا إلى عالم القيم ...

وفي هذا العالم زودنا بمفهوم الخير والشر وبطاقة العلم والتعلم وبملكة التحليل والاجتهاد ثم بالإرادة التي تختار اختيارها الحر الذي يقضي بها إلى موقف المسئولية الإنسان إذن مسؤول عن تصرفاته في حدود طاقته والموقف الإسلامي صرح في تثبيت هذه المسئولية ؛

فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره و من شار فليكفر والنبي مذكر لا مسيطر ولا إكراه في الدين ولا تزر وازرة وزر أخرى وما دمنا نؤمن بالحساب (إن إلينا إيابهم (1) ثم إن علينا حسابهم) فلابد إذن من أن نؤمن بداهة بالحرية لأن فكرة الحساب وعدالته تسقطان أن لم يكن المحاسب حرا, حرا في صواب عمله وحرا في خطأ ارتكبه ...

وأساس الحساب إذن الحرية والإنسان إذن ليس مخلوقا مبرمجا بغرائزه ولكن بأعمال عقله فيها وإنفاذا إرادته الحرة فمن قسره على شر أو على خير كان هذا القسر عدوانا على إنسانيته لأنه عدوان على حريته.

وإذا كان على القوانين الوضعية أو الشرعية أن تأخذ مجراها من حيث هي ضرورات لتنظيم المجتمع فما هي ببديل عن الضمير المستجيب لهدي الله والمتجاوب مع الحكمة والموعظة الحسنة وفي كافة الأحوال تظل فكرة الحساب معتمدة على فكرة الاختيار ويظل جوهر الإنسانية هو الحرية .

بهذه المقدمة أنظر إلى الجماعات الإسلامية على وجه الإجمال فيخيل لى أنها في الغالب الأعم لم يتضح لها هذا الموقع المحورى للحرية في أصل خلق الإنسان كما أراد الله له وكما بينه القرآن الكريم .

ولا زال الكثيرون في غموض من أن طبقة الأوامر والنواهي لا تلغي غاية الحرية في نواة جبله الإنسان ولقد أدي غياب الفهم الصحيح لهذه الحقيقة إلى محاذير لعل أهوتها التمهيد للملحدين أن يتهموا الدين بأنه يصادر الحرية مع أن الدين يعلمنا أن الله قصد بخلق الإنسان أن يخلق كائنا حرا ولهذا فهو مسئول ..

أو كائنا مسئولا فلهذا هو حر والحرية والمسئولية في منطق الدين المنزل والعقل والمجرد والفطرة السليمة وجهان لعملة واحدة ولهذا وجدنا لدي الجمعيات الإسلامية أفراد أو جماعة ضيقا بالرأي الآخر وتضييقا عليه من لم يكن رأيه نسخة طبق الأصل من رأي الجماعة فهو إما منشق عليها أو معاد لها .

ورأينا كثيرا من الاجتهادات المخلصة تثير الهجوم الحاد أو الدفاع الحاد ويصنف أصحابها في مراتب منها الخيانة أو العمالة أو المروق من الدين أو ابتغاء الفتنة أو تفريق الصف في غياب كامل لمفهوم الحوار الموصل الهادئ الذي ينشد الحقيقة ويرى أن لها أكثر من باب وأن للطرف الآخر حقا في رأي آخر ولا بأس بذلك وما لم ينكر معلومات من الدين بالضرورة أو يحل حراما أو يحرم حلال وأن الطرفين قد يتبادلان وجهات النظر ؛

فإذا لم يتفقا فلا بأس ولا حرج ولا خصام ولا قطيعة وما زالت البسمة على الثغر والإخوة في القلب والتعاون قائما فيما سوى ذلك ومداه طويل وعريض وننزه اللسان المسلم والقلم المسلم والقلب المسلم عن اللجاجة والطعن والتجريح وإفساد ذات البين فذاك هو الحالقة لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين .

رأينا كثيرا من الجمعيات كبيرة وصغيرة تحشد الإتباع والأنصار وتأخذ منهم العهد على السمع والطاعة لا على تكريم الإنسان والمطالبة بحريته ... وآنسنا في البعض منها تكريسا للولاء للجمعية ينافس الولاء للإسلام مع أن الإسلام غاية والجمعية وسيلة من الوسائل ..

ولو سئلت رأيي في مسألة السمع والطاعة لأجبت بما صارحت به في الأربعينيات من أن مفكرا واحدا هو للدعوة خير من ألف جندي وإنما تجب السمع والطاعة في جيش يحتشد لحرب أو يخوض معركة عسكرية أما في سياق الدعوة الطويل فالمطلوب إعداد رأي عام مسلم لا قوة ضاربة مسلمة ولعل التفكر المتدبر لدروس الماضي القريب والبعيد يدرك أن هذا هو الطريق الوحيد وإن كان الطريق البعيد ..

ولكننا نكاد نحرم أنفسنا من الاستفادة من دروس الماضي القريب والبعيد ... ليس من اهتمامات الحركات الإسلامية إن تنظر نظرة علمية تحليلية دراسة إلى حركات إسلامية سابقة لنري أين أخطأت وكيف داست على الألغام التي وضعت لها في طريقها وكيف كان من الممكن أن تتقي وتستنبط من ذلك هاديا ليومها وغدها .. وحتى لا تكون الحركات الإسلامية موجات من الفرش تندفع مجذوبة لبريق النار فيكون نصيبها الاحتراق .

موجة إثر موجه إثر موجة ... وإذا كان هذا مقبولا في عالم الفراش فليس بمقبول لدي البشر .. إن الاكتفاء باتخاذ موقف المعصوم الذي لم يخطئ أو موقف الحتمية في ما كان فليس في الإمكان إلا ما كان يحرم الإسلام من الاستفادة من التجارب كما يحرم الجماعة من التخطيط السليم للمستقبل وهذا خطأ شائع في بلادنا فما رأينا حكومة ولا حزبا ولا جماعة تعترف بخطأ سابق ؛

ومن المزعج أيضا أن المؤرخين الذين تصدوا للكتابة عن الحركات الإسلامية كتبوا من منطلق أحكام مسبقة فكان أما محامي دفاع أو محامي هجوم بحسب موقف العتيد من الإسلام أو من الحركات الإسلامية ولعل الحركات الإسلامية القادرة والمستنيرة تحسن صنعا لو حشدت أو استأجرت من يقوم بهذه الدراسات المجردة والمتخصصة ولو من خارج صفوفها ومن خارج أعدائها كذلك مع شئ من التواضع من القيادات إن لم تكن ذات دراية بالدراسات التاريخية أو التحليل السياسي ومع الحكمة والإخلاص اللازمين لمواجهة النتائج ثم الاستفادة منها .

ونعود فتؤكد أنه لا مستقبل للحركات الإسلامية إلا إذا كان أسلوب إدارتها وتعاملها مبنيا على نظام عام لا على أفراد وقراراتها صادرة عن المشورة والحوار لا على أمر القيادة فردا أو أفردا ويجب أن تكون القاعدة الشعبية ذات كلمة مسموعة ومطاعة في تسيير الأمور واستنباط النظام الذي يكفل ذلك .

والقاعدة دائما غنية بالمثقفين والعلماء والمقتدرين ممن لا يسمح الاتجاه الهرمي بوجودهم في قمة القيادة الضيق والذي رأيناه في بعض الأحوال يقع في غلطة الاستحواذ على السلطة ... إن اتجاه السمع والطاعة يجب أن يتغير فيصب من القاعدة إلى القيادة وليس العكس

وإلا استحالت القاعدة إلى عناصر سلبية تستسهل أن تأتمر بعبء التفكير وحق التفكير على القيادة وتنفض عنها العناصر الفعالة والايجابيات الفكرية المفيدة التي تحترم نفسها ولا تستطيع الإبداع والإثمار خلال نظام ديكتاتوري ...

ويظل صحيحا أن ما ننتقده في حكوماتنا نمارسه نحن فيما بيننا وفيما بيننا وبين غربنا وظللنا نبذل الوقت والطاقة والجهاد نعالج أمور الإسلام وأمور الأمة وأمورنا دون أن نتصدى للداء الأصيل والمرض الأساسي الذي يؤودنا وهو الاستبداد .

ومن الأمور الأساسية بالنسبة للعمل الإسلامي أن يدرك القائمون به أن تاريخ الاستبداد لدينا طويل . لقد جاء الإسلام ليحرر الإنسان وقد حرره فعلا .

ولكن دعونا نتصارح ونعترف بأنه منذ الفتنة الكبرى بين على ومعاوية وقعت الأمة في قبضة للديكتاتورية فلم تزل في قبضتها إلى الآن الملك الذي أقامه السيف محروسا بالسيف قد يكون الحاكم صالحا فتنصلح الأمور وقد كان ذلك فعلا في فترات من تاريخنا؛وقد يكون الحاكم غير ذلك فتسوء الأمور ؛

ولكن على الحالين كان الحاكم هو السيد المطاع والأمر الناهي على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان الواحد من المسلمين لا يتحرج أن يراجع الرسول في تصرفه كما حدث قبيل بدر ويسأله إن كان وحيا فيطاع أو رأيا فيراجع ؛

وكان الرسول يتقبل ويستمع ويمتثل للرأي الوجيه ثم انتقل الرسول إلى جوار ربه فانتقلت القيادة إلى أبي بكر بعد نقاش ا وحوار وتقليب للرأي واختلاف فيه ثم مبايعة من قبل من حضر السقيفة من المسلمين على اعتبار أنهم يمثلون من ورائهم فلم يتمرد على تلك البيعة أحد .

وتم استخلاف عمر وعثمان وعلى بصور مختلفة ولكن الدرس المستوعب منها أنه لا يوجد قالب معين على الأمة من بعد أن تتقيد به فلها أن تتخير الأصلح وأن انتقال السلطة من يد إلى يد لم يكن عنوة وأن الحاكم أجير لدي الأمة ؛

وأنها رقيبة عليه لا تتورع عن تقويمه كمثال المرأة التي ردت قول عمر وهو يحث على اختصار المهور والرجل الذي أنبأه أن لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا وكانت البيعة مشروطة ومفيدة كما قال أبو بكر أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لى عليكم فاستقر بذلك أن الأمة التي تعطي البيعة تملك أن تسحب البيعة .

انتفض ذلك كله بقيام الحكم الأموي . ومن يومها وكرسي الحكم محروس وانتقال السلطة من يد ليد بمعزل عن رأي الأمة ... واستمر ذلك حتى يومنا هذا وبينما تمكن الناس في أوروبا ومن بعدها أمريكا على استنباط وسائل تكفل انتقال السلطة سلميا وبدون انقلابا وبدون إراقة دماء واستنادا إلى اختيار الأمة عن طريق ممثليها بقي ذلك عندنا معطلا؛

ولا يخالجني ريب في الأمة الإسلامية لو استمرت في تطورها الطبيعي دون أن تعترض الفتنة الكبرى لاستنبطت نظاما قد يكون أشبه الأشياء بالديمقراطية المعاصرة لولا أنه يؤمن بالله ويلتزم بالإسلام بعكس الديمقراطية الغربية التي لا تحلل ولا تحرم إلا على أساس أغلبية الأصوات

وفي هذا المناخ الديمقراطي فعلا المفاهيم الإسلامية بما فيها الحرية وكرامة الإنسان والسعة للآراء المختلفة وسلامة الحوار ومباشرة الأمة لشؤونها لا إسنادها للفرد وعبء الأمة ينبغي أن تحمله أمة لا فرد .

وقامت حضارة الإسلام فرأت كل المجالات من علم ولغة وفن وفقه وفلسفة ولأفرادها .. فظلت هذه النقيصة هي المرض الكامن الذي سيفعل فعله مهما طالت فترة الحضانة والقنبلة الموقوتة التي انفجرت فيما بعد فأدت إلى المظالم وإلى الانقلابات المسلمة وإلى تفتيت الدولة إلى دويلات وإلى ذواء معاني الخلافة لصالح مطامع الملك الدنيوية التي لم تجد عليها رقيبا ولا حسيبا ؛

ومرت قرون نسيت فيها الأمة حقوقها وسلطانها ودورها ولقنت أن الاستسلام للسلطان الظالم أجدر بها من إيقاظ الفتنة وتعريض دماء المسلمين للإهدار بدلا من تذكيرهم بقول النبي إذا جاء على أمتي يوم لا تقول فيه للظالم يا ظالم فقد تودع منهم ولبطن الأرض خير لهم من ظهرها.

وتمر القرون ويتقدم الناس ونزداد اقتناعا بأن الاستبداد يئد الأمم .. وأن المستبد حتى إنعدل فهو يحرم الأمة ممارسة واجبها ويزيدها جهلا به وعجزا عنه والمصارع القوى أن كف عن التدريب والتمرين والممارسة ارتخت عضلاته ووهنت قوته وصار ضعيفا مهينا فهذا ما آلت إليه الأمة .

ولا زال هناك من الحكام من ينادي بأن أمته لم تتهيأ بعد للديمقراطية فإذا هو كإنسان يحمل طفلة على كتفه على الدوام لأن الطفل لم يتعلم المشئ وينسي أن الطفل بهذه الطريقة لن يتعلم المشئ ولا يزال هناك من يحاول أن يكسو الديكتاتورية بغلال من المناظر الديمقراطية وهو يعلم والأمة تعلم أن حقيقة الديمقراطية غائبة وإن وجدت صورتها ؛

ولا زال هناك من يقول بأن الشوري غير ملزمة للحاكم وتاريخ الإسلام كله إن أعطانا درسا بليغا واحدا فهو ضرورة إيجاد الضمانات التي تكفل الرقابة على تصرفات الحاكم وتعديلها أو تقويمها أو عزلة واستئجار غيره إذا دعت الحال فإنما كانت الفجيعة الكبرى والمستمرة من يوم أن وقعنا في براثن الاستبداد .

ولعل هناك من يستغرب أن نطنب هذا الإطناب في الحديث عن الحرية وعن الديمقراطية وموضع الحديث هو الحركات الإسلامية ولكننا لا نندم على هذا ولا نعتذر عنه وسنظل نكرره أن طيور الزينة الملونة التي استنبتت داخل أقفاصها لمئات من الأجيال أو آلاف قد لا تحسن الطيران حتى أن فتح لها باب القفص ؛

فهذا ما أوصلتنا إليه الديكتاتورية على مدي القرون والمطلوب إصلاح ذلك المصلح المطلوب هو النفساني الذي يحل هذه العقدة النفسية عقدة القفص عقدة الاستبداد والناظر إلى سجل الحكام في البلاد التي تنتسب إلى الإسلام لا يستطيع أن يتوسم أن الحكام هي التي ستؤدي هذه المهمة العلاجية ... ولو طاوعت خيالي فتصورت أن الحكم أوكل إلى الحركات الإسلامية غدا فلا أحسبها ستقدم للأمة هذا العلاج المطلوب لأن فاقد الشئ لا يعطيه.

وأحسبها على أحسن الفروض وأجمل الظنون ستكون ديكتاورية أخرى ولكن في الاتجاه الآخر ولا يشفع للديكتاتورية عندي أن تكون إسلامية فإن الديكتاتورية مرض مهما كان ينبغي أن يبرأ منه الحكم الإسلامي لا أن يصاب به . المسألة مسألة مبدأ وهو أن السيادة يجب أن تكون للأمة على الحاكم فهو موظف لديها لا أن تكون للحاكم على الأمة يأمر وينهي بما شاء .

المسألة مسألة نظام أفراد .. وتبقي بعد هذا عملية تكوين الأمة المسلمة الواعية بإسلامها والحارسة له والمسئولة عن إنقاذه .. وهو تكوين لا يمكن أن يكون بالقهر ولا بالعصا ولا حتى بالقانون بل هو ثمرة الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة وبهذا وحده كون الرسول أمة الإسلام عندما دعا إلى الإسلام .

الآن أشعر أنني رسمت الدور المطلوب من الحركات الإسلامية أن تؤديه ... وبدايته أن تفقهه وأن تقتنع به ثم أن تعمل به وتتعامل وتقدم النموذج الذي يجذب الانتباه والاقتناع وتكون المدرسة التي تقدم المعرفة به والتدريب عليه ولعلها تطبع عليه الجيل الجديد إن زاوله المسلم في بيته وأسرته أو أقامت له الجمعيات الإسلامية المدارس والمعاهد التي تهيئ الثمرة المطلوبة ...

على الجمعيات الإسلامية أن تعرف قدر الحرية فتطالب بها وتجاهد في سبيلها لأنها تدرك مغبة غيابها مهما أغرنا الإصلاح المنشود باختصار الطريق إلى الإصلاح على حساب حقوق البشر وفي طليعتها الحرية ..

ولا يخالجني ريب في أن باب الحرية إن فتح للجميع فالنصر في نهاية الطريق الطويل للإسلام لأن البقاء للأصلح ويمتاز الخبيث من الطيب فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ... وإذا أقفل باب الحرب فالخاسر هة الإسلام لأن شجرته لا تنمو في غياب الحرية فإن اتفقنا على ذلك فرحنا نجمع حوله الأمة فلنعلم أن أساس الدعوة المحبة .

أن المفتاح النفسي لأكثر المنتمين للحركات الإسلامية اليوم هو أن هناك عدوا نكرهه ونهاجمه ونقاومه ونشتمه ونفرغ عليه غضبتنا ونقمتنا لابد من هذا المكروه لنكرهه ونحاربه .. وهو موقف يستحق المراجعة المتأنية ...

إن الكره سلاح فعال في الهدم ولكنه لن يعين أبدا على البقاء الكرة يمكنك من خلع ملك أو إمبراطور أو القضاء على الخصوم والمعارضين ,لكن بناء الأمم ونشر الدعوات لا سلاح له إلا الحب ... ورحم الله الأستاذ حسن البنا عندما كان يكرر ويؤكد : سنقاتل الناب بالحب .

وما دام الداعية داعية فليعلم أن سلطانه الوحيد على الناس هو أن يحبوء فيحبوا ما يدعوهم إليه من حق الدعوة على الداعية أن يكون محبوبا ... لا أقصد محبوبا من نفسه ولكن من الآخرين .. من هؤلاء الذين يراهم على خطأ وعلى ضلال ويريد أن يهديهم وأن يكسبهم للإسلام لا بأمره السامي ؛

ولكن بطول الأناة والمصابرة والمثابرة والتآلف والبسمة التي لا تخبو والإحسان الذي لا ينقطع ولقد أتيح لى في حياتي أن أشهد نماذج من هؤلاء الدعاة الهادين المهديين ولكن أنظر إلى الساحة الآن فأجد هذا الطراز أندر من الكبريت الأحمر .

ألا فليعلم أبناء الحركات الإسلامية أن غلطة السابقين ولا زالت تتربص باللاحقين هي أنهم اصطدموا وما زالوا فريقا من الأمة وكان الأجدى على الإسلام وعليهم أن يصبروا حتى يكونوا هم الأمة .

ولقد أسهمت أقلام مخلصة في نقد بعض تصرفات الجماعات الإسلامية منها إنفاق العمر والطاقة في فرعيات مختلف فيها بدلا من كليات متفق عليها ومنها الجنوح إلى العنف من غير أى سند إسلامي ومنها المرارة والغلظة وحسبانهم من أساليب الدعوة ومنها محاولة بناء البيت من أعلاه لا من أساسه بالاهتمام بالشكليات والمظهريات وإضفاء صفة الفريضة على ما ليس في الدين بفريضة

ومنها السطحية في العلم بالدين وتعلمه ومنها الانكفاء على الماضي ومآسيه والانحباس فيها دون التداعي إلى التخطيط للمستقبل وقضايا المصير ومنها الإغراق في الدعوة نظريا والتنكر لأخلاقياتها في الحياة اليومية العملية

ومنها الحساسية المرضية إزاء المرأة وضد المرأة والخلط بين ما هو تراث مظلم وبين الدين وفي رؤيانا أن أغلب العاملين في الحقل الإسلامي اليوم ما زالت على أعينهم غشاوة تحجبهم عن الرأي الإسلامي الصحيح فيما يتعلق بالمرأة .

وواضح أننا سردنا كل هذه المشاكل سردا سريعا مع أن كلا منها يصلح بابا بحالة دراسة ونقاشا وكتابة .. ولكننا قصدنا قصدا إلى استعجالها لأنها في نظرنا أعراض للمرض الأصيل . هذه أعراض الانغلاق.. وستظل معنا حتى تؤدي دينا ظل في ذمتنا قرونا متطاولة وهو أن نكتب الفصل الذي وئد من فصول فقهنا : فقه الحرية .

البعد العالمي للحركة الإسلامية التجربة السودانية

د. حسن الترابي

الدكتور حسن أحمد الترابي

  • من مواليد مدينة كسلا بالإقليم الشرقي بالسودان عام 1932 م.
  • تلقي عن والده الذي عمل بالقضاء الشرعي نحو ثلاثين عاما علوم العربية والفقه والدين .
  • حفظ القرآن الكريم ببضع قراءات.
  • تلقي تعليمه الأولي بالمدارس السودانية الحكومية.
  • درس القانون في القانون " جامعة الخرطوم "
  • حصل على البكالوريوس في القوانين من جامعة لندن عام 1955 والماجستير عام 1957 م.
  • درس نحو أربع سنين في جامعة باريس وحصل على الدكتوراه في القانون المقارن عام 1964م.
  • يتكلم ويكتب العربية والانكليزية والفرنسية ويقرأ الألمانية .
  • عمل أستاذا للقانون الجنائي والدستوري وعميدا لكلية القانون بجامعة الخرطوم .
  • من مؤلفاته
  • الصلاة عماد الدين الإيمان المسلم بين الوجدان والسلطان رسالة المرأة المسألة الدستورية .
  • تجديد أصول الفقه الإسلامي .
  • البعد العالمي للحركة الإسلامية " التجربة السودانية "
  • الدين والمكان

إن الدين بمعني الحق هدي رباني أزلي مطلق لا يحده الزمان ولا المكان لكن الدين بمعني التحقيق إنما هو كسب بشري وسعي للتوحيد بين مثال التكليف الأزلي وحال الابتلاء الواقع .

فهو متأثر بالضرورة بظروف الزمان والمكان فالدين من حيث هو تدين كسب حادث تاريخي يبلي بالتقادم ويلزم تجديده كلما تقلبت صروف الزمان ليتصل أصله عبر المواقف الإيمانية المتجددة ويدوم جوهره من خلال الصور العملية تعبيرا عما هو ثابت وتكييفا لما هو مرن من معانيه وأشكاله

وكذلك يحاصر التدين بالمكان إطارا لإقامته في الأرض مسرح الخلافة والتمكن لكنه ما يتمكن بفاعليته في ناحية إلا وجب أن يمتد في سائر الأرض فهيئة التدين العصرية والمحلية ضرورة تحقق في الواقع الظرفي لكن جموده في تلك الهيئة عصبية تحجبه وتقطعه حتى يتجدد في الزمان ويتمدد في الأرض ليكون أبديا عالميا ..

وكما كانت الرسالات الأولي المتعاقبة ضرورة تحقق وتمكن بخصوصيتها وضرورة ديمومة بتعاقبها كانت القومية فيها تمهيدا لعالمية في الرسالة الخاتمة وكانت عالمية الرسالة الخاتمة ذاتها متحققة عبر مراحل : من إنذار العشيرة الأقربين إلى خطاب أم القرى وما حولها إلى هداية دولة التوالي والمهجر في المدينة إلى تذكير العرب كافة ومن حولهم إلى الاندياح العالمي القديم والمتجدد إلى يومنا هذا مرحلة بعد مرحلة .

ففي دين التوحيد يلزم التوازن بين المرحلية الزمانية والاتصال الأبدي وبين المحلية المكانية والامتداد الأرضي أو بين النسبية حسب ظروف الزمان والمكان والمطلقية خلودا ووجودا وبمصطلح آخر يمكن أن نقول: أن الدين توازن وتوحيد بين حرية تباين هيئات التدين ونظام وحدة الدين أو بين الواقعية والمثالية أو بين الإمكان والإحساب أو بين التجدد والأصالة أو بين التمحور المكاني والطلاقة العالمية .

ويكمن الابتلاء في مراعاة هذا التوازن بوجوهه جميعا وفي التماس الوحدة من خلال ازدواج المعاني وكما يولد الآدمي من زوجين يولد التدين من بين هذا المأزق والازدواج . فمن فرط في ربط التكليف بالابتلاء الواقع في الزمان أو المكان المعين لم يحقق دينا فعالا.

ومن أفرط حصر تدينه بالجمود أو العصبية ومن فرط توخي المثال التوحيدي انحط عن مقتضي الدين ومن أفرط أرهق تدينه وعوقه . هذه هي النظرية الزمانية والمكانية للدين .

العلاقات الحركية الإسلامية

تطور العلاقات كانت العلاقات الحركية الإسلامية أولي صور البعد المكاني الذي تجاوز المحلية إلى العالمية من حيث النظر والعمل فقد عوّلت الحركة لانبعاثها الأول على ورود تيار إسلامي عالمي قدم عليها من مصر باسم "الإخوان المسلمين" وطرح تصورا للدين شاملا وحركيا ونموذجا للجماعة المتدينين المؤسسة على تزكية الأعضاء وتنظيم الصف ؛

وكان التعبير عن الدين في ذلك بمستوى من التجريد قريب من الأصول الإسلامية الكلية الواحدة ولذلك تيسر للنمط أن يعبر الحدود والظروف الإقليمية المصرية إلى السودان ولكن هذا الوارد العالمي وافي وعزز مبادرة محلية سودانية أصلية انبعث بها الدين حين استفزه الباطل الليبرالي والشيوعي في الوسط الطلابي .

وكانت تلك المبادرة الطلابية هي " حركة التحرير الإسلامي " التي تكونت عند أول السنوات الخمسين وتمثلت الصلة العالمية تجاه الحركة في مصر أنذاك والبادئة الطلابية هي التي سادت وقادت في لاحق تاريخ الحركة

وامتدت تلقائيا عبر السودان فروعا وشعبا آتية على بعض الشعب التي أسسها قادمون من مصر فروعا مباشرة للحركة هناك وقد وقع من بعد شئ من النزاع بين الحركة الطلابية المنشأ السودانية الأصل والحركة الشعبية المنشأ المصرية الانتماء والتلقي

ثم طوى النزاع لتكون الأولي هي الوارثة ولتحمل اسم (الإخوان المسلمين) ولكن بعض الرافد العالمي لحركة السودان ورد من مصادر غير مصرية فقد استرفدت الحركة بالأدب الحركة الإسلامي للإمام المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان وبالكتابات الإسلامية القادمة من المغرب والمشرق العربي .

ثم أخذت السمة المحلية للحركة تتوطد مع تطور تفاعل الحركة بالواقع المحلي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي نقدا وحوارا ومنافسة وتعاونا ومقاومة وتقويما لذلك تأصل فكرها انفعالا مع الواقع الشعبي والسياسي والتاريخي للسودان ؛

وتأصلت المناهج الدعوية والحركة مع بيئة السودان وزاد مدي حرية الاجتهاد المحلي الخاص بالحركة مع زيادة فاعليتها وتفاعلها في ظرف الابتلاء السوداني المعين واتسع مدي تباينها مع الحركة في مصر وغيرها إذ تضاعفت السمات الخاصة المكانية وتعاظم الكسب الديني المتميز .

وخلال السنوات الخمسين والستين تجمدت الحركة الإسلامية في مصر وغالب البلاد العربية من جراء عوامل سياسية وذاتية وتخلفت الحركة في مواقع عالمية أخرى لصالح تيارات يسارية ووطنية بينما ظلت الحركة في السودان حية تنمو وحينما طرحت فيما تعد وثارت في وعي الحركة عالميا مسائل التمئ المحلي والتوحيد العالمي أو نظريات العلاقة العالمية انتبه الإسلاميون للمدي الواسع من التباين بين التجارب القطرية في المقولات النظرية والصور التنظيمية والمناهج الحركية

وعرضت شتى صيغ لنظام العلاقات بين التنظيمات الإسلامية المحلية وقامت مناظرة واعية بين دعاة المحلية من أجل فاعلية تمكن الدين ودعاة العالمية من أجل وحدة الدين وبين شبهة العصبية والتفريق للأمة بالمحلية المنغلقة وشبهة التسطيح للدين والتهميش لأهله بالعالمية المهيمنة . وكانت المناظرة على وجه الخصوص متوترة ومشوية برواسب قومية بين المركزية المصرية العربية والمحلية السودانية ولا أضيف الإفريقية .

مهما كان فالعلاقات في مراحلها الأولي حوالي السنة الخمسين تمثلت في اتصالات عفوية بين قيادات مصرية وسودانية غالبها بغير تدبير نظامي أو صيغة مرسومة . فمن جانب تمثلت في مجموعة الأستاذ على طالب الله رحمه الله التي كانت تنتسب إلى الجماعة الأم في مصر وفي طلاب سودانيين وفدوا إلى مصر والتحقوا بالإخوان المسلمين .

ومن جانب آخر تمثلت في تزاور بين الحركة الطلابية بالسودان والحركة بمصر وفي مشاعر انفعال بالإخوة الواحدة دون أدني وعي بالاستقلال من جانب السودان أو الاستتباع من جانب مصر

وكانت العلاقة الأوثق في اعتماد الأدب الإخواني المصري مرجعا والتجربة نموذجا فمصطلح الدعوة والتنظيم بغالبه كان على المثال المصري وقد استمرت الاتصالات القيادية وتسمي رأي الحركة بالسودان لحين (مراقبا عاما) على نهج تنظيم الإخوان المسلمين الفرعي العالمي لكن التأطير لعلاقة تنظيمية رئاسية لم يكن واردا .

ثم طرحت القضية صريحة في السنوات الستين وتهيأ إطار للعلاقة في قيام (مكتب تنفيذي) مشترك للإخوان المسلمين قاطبة شارك فيه السودانيون لكن على أساس أنهم لا يلتزمون ولا يلزمون إلا تنسيقا وتعاونا طوعا بين التنظيم السودان المسبق وسائر التنظيمات الإخوانية الملتزمة وشاطرهم في ذلك الموقف إخوة العراق ولكن وطأة المحنة التي كانت تحيط عموما بالحركة الإسلامية في البلاد العربية ودفع العلاقات الحركية الوثقية حفظا علاقة وفاق مجدية في ذلك الإطار الجامع .

ولئن كانت المرحلة الأولي في الأولي في العلاقات عفوا والمرحلة الثانية وعيا بنظام العلاقة فقد جاءت المرحلة الأولي في العلاقات عفوا والمرحلة الثانية وعيا بنظام العلاقة فقد جاءت المرحلة الثالثة للسنوات السبعين مرحلة خلاف ؛

إذ خرج القادة الإخوان المصريون وعرضوا على السودان وسواء الرجوع إلى علاقة توحيدية تضع التنظيمات في مختلف الأقطار بل الأمصار موضع الشعل التابعة رأسا للقيادة بمصر وفقا للإئحة تنظيمية متقادمة .

ومهما كان المرشد المرحوم الهضيبي مبديا زهده وعجزه أن يتمكن من ولاية أمر عالمي فقد رفضت القيادة المصرية مشروع تأطير للعلاقة صدر بعد موسم الحج عام 1972 م وجاء بنهج توفيقي بين نظرية الإلزام العالمي والاستقلال القطري بما يحفظ أصل الاستقلال المحلي الواسع ويوحد وظائف مركزية محدودة ويجعل شئونا آخري رهن التشاور المسبق

رجاء أن يتعزز التوجه نحو معادلة أوثق توحيدا في المستقبل ولقد اعتمدت فيما بعد مشروعات أخرى أحفظ للكينونة الفطرية من اللائحة المتقادمة ودون ما كان يتطلبه الإخوان السودانيون؛

ومن أسف ذلك التطور آذن بعهد من المفارقة إذ أخذ التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بالقيادة المصرية يشترط البيعة والاندارج التنظيمي الكامل ويعبر عن ضيق شديد جدا بالتباين بينه وبين السودان في الأفكار والمناهج الحركية

ثم عمد حين انشقت طائفة محدودة عن إخوان السودان إلى ضم المنشقين وبذلك تأسست القطيعة بل تطورت من بعد في الثمانين بالإصرار على عزل السودانيين من التنظيميات المنسقة والموحدة في مواطن الإغتراب بالبلاد العربية وأوربا .

من جانب آخر تطورت العلاقة الثنائية بين الحركة الإسلامية والحركات الأخرى المنضوبة تحت الإخوان المسلمين وغيرهم في البلاد العربية والآسيوية والإفريقية الأوربية وأصبحت من أكثف العلاقات الإسلامية العالمية ولعل مرد ذلك من بعد نزعة القطرة المؤمنة للأمة الواحدة إلى كون الحركة في السودان ذات أفق عالمي رحيب وذات التحام وثيق مع تحديات عالمية المغزي ؛

وربما كان ذلك أيضا من أن السودان بطبيعته لا ينطوى على روح وحدة أو عصبية قطرية أو قومية ثم أو نمو الحركة زاد من حاجتها وقدرتها لأن تتخذ بعدا عالميا تستعين به وتبسط ذراعا عالميا تؤثر به .

وقد انساقت هذه العلاقات الثنائية العامرة عبر ثلاث وسائل : الأولي طلابية . والطلاب كانوا روادا لأغلب كسوب الحركة الإسلامية . فكان من كسبهم لعالمية الحركة أن نشطوا في بريطانيا وأمريكا وأوربا في تأسيس جمعيات واتحادات وحركات إسلامية طلابية ؛

وأن كان لهم دور في عقد الصلات مع شخصيات وعناصر وحركات كانت تزور أوربا وأمريكا أو توجد فيها وأن أسهموا من خلال بسط أفكارهم وتجاربهم السودانية في تأسيس حركات إسلامية لأول مرة بين طلاب بعض البلاد الآسيوية والإفريقية منهم من رجع بها إلى الوطن لتزدهر هناك

وقد كان اتصال الطلاب السودانيين بسائر الطلاب العرب والأفارقة والمسلمين عامة أكبر قناة لنشر تجربة الحركة الإسلامية السودانية في العالم وكان نشاطهم عاملا مقدرا في حركة البعث الإسلامي في أوربا وأمريكا بين المهاجرين والمغتربين الوطنيين من المسلمين .

القناة الثانية كانت في حركة اغتراب السودانيين في سبيل الأمن والعيش بالبلاد العربية البترولية وغيرها فقد اتصل أولئك المغتربون بالعناصر الوطنية في تلك البلاد ونقلوا تجارب العمل الإسلامي السوداني وعقدوا علاقات تعارف وتعاون نفعوا بها حركة الإسلام هناك وعادت بالنفع على الحركة بالسودان

وكانت القناة الثالثة هي تنظيمات الحركة المتخصصة وقد كانت حرية بعض هذه التنظيمات في الامتداد الخارجي أوسع بما لوظائفها الخاصة من مغزى محدود لا يثير ريبة في التقبل أو التعامل .

فالدول لا تبالي والشعوب لا تحاذر من منظمة طلابية أو نسائية أو دعوية أو خيرية أو اقتصادية تمتد وراء حدودها أو ذات بعد عالمي تتصل بنظيراتها أو تؤدي خدماتها أو تلتمس الدعم العالمي ومثل هذا الاتصال مهما كانت أغراضه المباشرة محدودة سبب لتمهيد علاقات ذات معني أوسع وجدوى أنفع لصالح حركة الإسلام ووظائفها العامة .

أما القناة الأساسية لعالمية الحركة فقد كانت في الاتصال المباشر من مركزها القيادي نحو العالم الإسلامي تراسلا وتزاورا وائتمارا عالميا وإذا رتبنا مغازي هذا الاتصال حسب القوة فيمكن أن نذكر أولا ما كان منه اتصال أخبار فالحركة الإسلامية في السودان بكسبها ووقعها العظيم تجاوزت السودان بإشعاعها؛

وانتشرت أخبارها وأصداؤها في الصحف الإسلامية وسائر وسائل الإعلام العالمي وانتقلت أنباء مواقفها من القضايا الإسلامية عامة فغدت قريبة جدا من الإسلامي ينفي كل مكان لأن المسموع منها كثير جدا ولأن في نموذجها الحركي متأملا ومعتبرا إذ حققت بالفعل أثرا إسلاميا كبيرا بالقياس إلى أخواتها وبسطت قضايا جديدة مثيرة في الفكر والتنظيم والعمل تستفز الإعجاب أو الإنكار ثم أصبح الاتصال بالحركة اتصال اعتبار .

إذ غدت قدوتها منتصبة أمام الإسلاميين وتأثرت بها عناصر في حركات كثيرة خاصة في إفريقيا وامتدت عبرتها وراء ذلك لا سيما في مرحلة استوائها حين برزت تجاربها المتميزة في مجال العمل الطلابي والنسائي وفي منهج التنظيم ووسائل التعبئة الشعبية والتحرك السياسي وفي الكسب الاقتصادي والثقافي والدبلوماسي وقد كان من علاقات الحركة ما هو استنصار استدعاء للتأييد والتضامن الإسلامي أو إسداء .

وقد استفادت الحركة من علاقاتها الإسلامية العالمية تعزيزا لمشاعر الإخوة مع الأمة عامة والاتحاد بوجه خاص مع الحركة الإسلامية العالمية عبر الأقوام والأقطار والانفعال بشتى القضايا والأحوال والتطورات التي تعني الإسلام في الساحة الدولية

وقد تلقت الحركة دعما من إخوان الدعوة والجهاد لمشروعها الإسلامي المحلي بما قدموا من القدوة والتجربة وبما أسدوا من المناصحة والمشورة وبما أدوا من المناصرة بالدعاء المرفوع والكلمة المنشورة و بما أعانوا بالمال المبذول والخدمة الميسورة .

وقد أعطت الحركة من جانبها نصرة معنوية ومادية للمستنصرين والمستضعفين من الحركات الإسلامية الممتحنة وقدمت نصحا وأهدت تجربة وبذلت عونا للدعاة والمجاهدين السالكين على طريق لانبعاث والتجدد والانتهاض الإسلامي في العالم قاطبة؛

وقد تمثل أخذ الحركة وعطاؤها بالعلاقات الإسلامية الخارجية خير تمثيل في ثنايا علاقاتها التاريخية بالإخوان المسلمين في الشرق العربي وبالجماعة الإسلامية في باكستان وبسائر الحركات الإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوربا فكانت لأول أمرها تأخذ ثم انقلبت تعطي أكثر أو تكافئ؛

ولكن أسرار توحد الأمة وتلازم الظاهر الدينية وتداعي نهضات الإسلام وتعاضدها عبر المكان تجلت بقوة حين الثورة الإسلامية في إيران ثم الجهاد الإسلامي في [أفغانستان[]] ففي ذلك بادرت الحركة تظاهر الثورة بتأييدها وتنصر المجاهدين وسعها باليد واللسان؛

ولكن ما عاد للحركة من جراء ذلك الاتصال كان أجل بكثير مما أعطت فمهما استغرقت الثورة أهلها أو الجهاد أهله أن يجاوبوا مددا بمدد فإن المثال والعبرة في ثورة إسلامية تتصدي لمهام التحرير والتطهير بقوة الإسلام الشعبية في وجه أعتي التحديات الطاغوتية؛

وفي جهاد إسلامي يتصدي بالقتال لحكومة باطشة تمدها حشود دولة عظمي ذات جبروت إن مثال التصدي وعبرة الانتصار لمما يلقي في نفس كل مسلم موصول ثقة بقوة الإيمان وتوكلا على الله القوي العزيز وقد نال الحركة من ذلك خير كثير تأيدت به مجاهدتها المحلية وتبينت بركات الوحدة الإسلامية .

منهج العلاقات لما طرحت بوعي قضية العلاقات الحركية العالمية اتخذت فيها الحركة موقفا فلما دار حوله الجدل تحررت حيثياته الفقهية وكانت الحركة تؤصل موقفها بما سبق من سنة تدرج الرسالات من القومية إلى العالمية ؛

ومن مرحلية تطور رسالة محمد صلي الله عليه وسلم الذي بعث للناس كافة ولكنه لم يؤمر بالسياحة في البسيطة قاطبة لينشر الدعوة فيها رقيقة وإنما أوصي في بسط الدعوة بخطاب الإطار المحلي الأقرب فالأقرب دون تجوز ولا تحيز عشيرته فأهل مكة .

فالعرب فمن حولهم وأوصي في تطبيق نظام الدين ببناء المركز الأمكن في المدينة تقتصر ولايته على المؤمنين المهاجرين إليه دون غيرهم وتؤسس فيه قاعدة للدين متينة منيعة ثم تمتد لتتوطد في جزيرة العرب قاطبة؛

ثم تنداح بالدعوة المرسلة سباقة إلى سائر تخوم الأرض تتلوها الفتوح والدولة المتمكنة وتتابع تحت لوائها وولائها الأقوام والأقاليم بل إن دار الإسلام الوسيعة الموحدة لم تؤسس عن مركزية مطلقة؛

وإنما روعي فيها تباعد الأقاليم وتباينها وتركت الأمصار تستقل بمذاهبها الفقهية دون نمطية رسمية قاهرة وبولاتها وزكواتها مع حفظ مركز الوحدة والإمامة بل دعت ضرورات الواقع الإقليمي والسياسي أحيانا إلى الاعتراف بمشروعية تعدد الأئمة .

هكذا نجد أن الإيمان الفاعل وهو الهدف مقدم على الوحدة التامة وهي وسيلة موقوفة عليه وقد يلزم فبفضله يتحد ما كان قبله مفرقا ولأنها وسيلة وثمرة من الإيمان كانت فرضا وسمة للمؤمنين فمغزاها أن تنحشد الفعاليات الإيمانية بأوسع مدي في الإمكان وأوقع أثر من التمكن ثم أن تنفتح

لاستيعاب سائر أهل التوبة إلى الإيمان ثم أهل الفطرة القابلين للإيمان من البشر والحكمة كلها في التوفيق المرحلي بين التمكن الواقعي والوحدة المثالية فتصويب الخطاب الديني أولا إلى واقع محلي معين أبلغ في الدعوة وتكوين الجماعة الدينية أولا في محيط محدودا حكم في التنظيم ؛

والبدء بأساس من الدعوة المؤثرة والجماعة القوية شرط ضرورة للبناء الإسلامي الممتد وقد يكون ذلك الترتيب أيضا هو وحده المستطاع حسب إمكانات واقع الدعاة أو هو حد المأمون في وجه ابتلاءات التعويق والكيد في الطبيعة والمجتمع ؛

فتباين ألوان الخطاب الديني ولا مركزية الصف المسلم من ضمانات نشوء حركة إسلامية فاعلة آمنة في كل موقع محلي متميز وقد يدرك المرء حكمة السيرة الإسلامية الأولي الاعتبار المحلي حين يلاحظ كيف تتباين صور خطاب الدعوة وخطط الحركة اليوم حسب العلة والحالة الدينية في كل مجتمع قطري معين وحسب ثقافته وتراثه؛

وحسب تركيب القوى العاملة في ساحته والأوضاع المادية أو السياسية في حياته وكيف يتعسر على الدعاة أن يبلغوا إلا بلسان قومهم أو يطرحوا من القضايا إلا ما يعني واقعهم أو يؤثروا إلا بالالتحام الوثيق بمجتمعهم أو يجدوا أمنا وحرية في العمل الإسلامي عبر الأقطار .

وقد راعت الحركة الإسلامية بالسودان مع وحدتها اعتبار المحلية لضمان الفاعلية في نشاطها فهي تلاحظ محليات السودان ومناحي حياته المتميزة وتتخذ في كل منها قملا إسلاميا ذا ولاية واستقلال نسبي ليختص بالثغرة التي تليه ويكيف المقولات الدعوية والمناهج التنظيمية والحركية بما يناسبه مع حفظ الأنماط الكلية المرعية في كل السودان

أما القوميات المغتربة في السودان من غير أثله لاجئة لطلب العلم أو العيش أو الأمن المؤقت فإن سياسة الحركة معها أن ترعاها حق رعايتها على أن تحفظ لها اعتبارها القومي واستقلالها الحركي الذاتي لتتفرغ لهمومها الخاصة عاجلا ولتتهيأ للاستجابة المخصوصة لتحديات بلادها آجلا مما لا يتأتي ولا يؤمن بالاندماج في نظام الحركة السودانية إلا تنسيقا وتعاونا وتوحيدا لبعض المناشط مما تستدعيه الإقامة في مواطن مشترك .

وقد لا تكون المناظرة بين المحلية والعالمية عن تقدير فقهي محض فلعل الحركة الإسلامية بالسودان لم تبرأ في توجهها المحلي من بعض الإنفعال حين منشئها بروح الاستقلال الوطني بل بتاريخ السودان المسلم المنزوي شيئا ما عن مجو النشاط الإسلامي العربي ولعل الحركة في مصر أيضا لم تبرأ حين منشئها من الانفعال بذكري الخلافة المضيعة وحين ازدهارها بمحورية مصر عامة ورائديتها للصحوة الإسلامية ولعل الحركتين لم تبرءا معا من عدوي التوتر السياسي السودان المصري الناعم .

ولكن الحركة السودانية لا تنشغل ولا تنحصر بالوقع المحلي عن آفاق العالم اهتماما بأمر المسلمين بل بأحوال العالم وإدركا أن العالم غدا رقعة واحدة وثيقة الاتصال فكما عني المسلمون في مكة وهم في قلة وذلة بأن تغلب الروم أو الفرس وفي المدينة باستصراخ المستضعفين في مكة وكما مدّ المسلمون الأوائل وهم محصورون نظرهم وأملهم نحو مرامي الدعوة والفتح وراء الجزيرة العربية ؛

فإن الحركة في السودان ما كان لها إيمانا بعالمية الرسالة الدينية التي تنزع نحو المطلق ولا يحتويها ظرف المكان وبوحدة الأرض التي وضعت وسخرت للأنام وأتيحت لمسعاهم بالحق والنفع ولابتلائهم بالخير والشر ما كان لها إلا أن تتجه نحو العالم باهتمام رجاء وخيفة ؛

وأن تقبل عليه مسلما وكافرا وليست هي في شئ من الغرور بالعصبية الوطنية أو من الجهالة بمغزي البعد العالمي بل إن سائر بني وطنها المركب الطبيعية قد سلموا من العطب بقومية أو الانغلاق في وطنية وأولعوا بتتبع شئون العالم والتفاعل مع ظواهره وقواه .

هكذا ذهبت الحركة إلى مذهب التوازن بين المحلية والعالمية أو الخصوصية والعموم وإلى أن الوحدة المتمثلة في العالمية والعموم هدف لا يبلغ بالقفز إليه رأسا بل يقارب بالمجاهدة المتقدمة في المراحل المترقية في المقامات بدءا من المحلية والخصوصية على مثل ما يبدأ الدين في كل شأنه من المبتدأ القاصر ثم يتقدم ويترقي تدرجا نحو الكمال ولذلك لم تقبل الحركة نظام التبعية والبيعة المركزية منهجا أوليا لعلاقات الحركات الإسلامية .

ولئن كان في مصطلح " البيعة " بأصله سعة ونسبية فإنه حين يطلق في هذا السياق إنما يستعمل قياسا على البيعة السياسية التامة لإمام متمكن السلطان وذلك أمر غير متحقق بالطبع إلا أن يعدل بالقياس إلى تقاليد بيعة الهيئات الصوفية والحركات الجهادية غير المتمكنة ؛

ومهما يكن فإن تاريخ المسلمين قد اكتف مصطلح البيعة بمعاني الإتباع والطاعة والتسليم لمحور شخص واحد وغالبا ما أوحي ذلك بأن الأمر كله إشارة من الإمام دون شورى من جماعة الأتباع بل غالبا ما زين لواحد بايعه طائفة من الناس أن يضفي على ذاته شرعيه مطلقة يرمي من لا ينخرط فيها بالمروق والبغي .

وقد انتهت البيعة الكبرى ذاتها إلى وضع اختلت فيه عناصر الوحدة بين صور الدين الفعلي والمثالي فأصبح الخليفة المبايع رمزا منصبا على خواء عاطلا من أسباب الوحدة المؤثرة ولم يبق له إلا أن تضرب باسمه السكة ويدعي له على المنابر؛

ولقد بدأت سنة البيعة في الحركات الإسلامية الحديثة تقليدية ومحدودة ثم تقومت من بعد بالشوري لكنها حين طمحت نحو العالمية عوقها تباعد الواقع وتباينه وخذلها العجز عن التمكن فعادت في بعدها العالمي رمزية لا تمثل محور توحيد فكري أو عملي فعال ؛

ولربما يزين اتخاذ الرمز ولو كان غير فاعل حفظا للمثال ورجاء وأملا ولكن الحركة الإسلامية بالسودان آثرت العدول إلى مصطلح (الالتزام) لا (البيعة) لاتقاء ظلال المعاني التقليدية ولحين استيفاء شروط التمكن ؛

ورأت الالتزام المركزي الشامل اليوم اعتسافا للمراحل وجنوحا بالتوازن بين الوحدة والفعالية إلى ما يوقع خللا ويحدث ضررا بالتدين المحلي فالحركة الإسلامية في العالم أولي في هذه المرحلة بأن تبقي فكرا واحدا مشتركا دون إلزاما وتجربة واحدة تتجاوب دون تقليد؛

وجبهة تتناصر دون رهق أو حرج لذا اقترحت الحركة منهجا للعدل بين التركيز المحلي تمكينا وتأمينا بغير تعصب والامتداد نحو الوحدة الإسلامية العالمية بغير تسيّب وأرادته تنسيقا وسطا بين الانقطاع الاندماج الفوري وأعلي من مجرد التعاون العفو الوارد بين أي جهتين لخصوص علاقة الحركات الإسلامية فالتعاون درجة قد يلحظ فيها الطرفان شرط تكافؤ المعارضة واستواء المنافع العائدة إليهما؛

ولكن ما يبذل المسلم لأخيه مبتغيا وجه الله عمل يجزي عنه عاجلا أو آجلا من حيث لا يحتسب وما مد المسلم أخاه بقوة إلا عادت إليه حتما ولو بوجه غير مباشر من تلقاء فطرة المسلمين الذين يدعون بالخير بعضهم لبعض ويتداعون بالنصرة ويتراءون بالقدوة ومن تلقاء فطرة الوجود التي تتلازم فيها ظاهرات الحق وتتحد مصائره في وجه اجتماع الزاهقات من الباطل فمن خلال المنهج التنسيقي يتحقق التعارف والتناصح الوثيق ويتم تبادل التجارب الحركية وتنعقد أسباب التعاون والتناصر؛

وقد طورت الحركة علاقة التنسيق من مستوى التفاهم العارض إلى الاتفاق الثنائي الموثق مع حركات كثيرة مما يشتمل على عهد ملزم يهدف لتوثيق الصلة وتعزيز التعاون في مجالات شتى ويتوسل إلى ذلك بالاتصالات النظامية تراسلا أو تزاورا وباللقاءات الدورية بين القيادات أو القطاعات المتضاهية أو اللجان المشتركة أو بتأسيس ما تيسر من الأعمال والمرافق الموحدة ؛

ذلك كله بقنوات اتصال حر دون وحدة عضوية تنظيمية أو مبايعة مركزية على أن الحركة تؤمن بأن ترتفع بمعادلة التنسيق الثنائي المرحلي المرن نحو مثال أقرب إلى الوحدة كلما واتت الظروف وتقدمت المراحل دون تبطئة يثقلها التدابر بالعصبية والتخاذل عن حق الإخوة الإيمانية ودون تعجل يجر إلى التوتر والشقاق والإضرار بواقع التدين .

وحين عمرت علاقة الحركة الثنائية بالحركات الإسلامية على نحو ما تقدم وتعاظم هم الحركة العالمي دعت الحركة وسعت لإقامة مؤتمر عالمي دائم للحركة الإسلامية وقدرت أن ذلك المشروع تجسيد وتطوير لمفهوم التنسيق لأنه ينبني بتدبير نظامي ثابت على صعيد جامع ينتظم العالم متجاوزا للدائرة الإقليمية العربية وغيرها ؛

وتصورته الحركة توفيقا بين شتى الاعتبارات إذ يراعي تعدد صور الاستجابة الإسلامية في العالم اجتهادات رأي وأنماط تنظيم وتشكيل بسبب اختلاف الرؤي أو تباين واقع البلاد كما يحاصر دواعي الانقطاع والتباعد الإقليمي والتجافي بعصبية الولاءات التنظيمية؛

ومهما كان الانتماء نظاميا راتبا يتيح محورا للتعارف والتعاون والتفاعل في شتى الأطر و المجالات فإنه غير إلزامي لا نؤسس على علاقة رئاسية مجبرة كابتة إلا أن يتمخض التشاور الائتماري عن إجماع والتزام ؛

وقد اقترحت الحركة أن يضم المؤتمر الحركات العامة والتنظيمات الوظيفية المتخصصة والشخصيات من كل إقليم بكل لغة عالمية ولو تعدد وتمايز المشاركون من البلد الواحد فلا بأس بالتعددية ما دامت الأسرة المؤتمرة كلها تجديدية النزعة جهادية المسعي شمولية التصور تؤمن بالتزكية الفردية الصادقة والتنظيم والعمل الجماعي الملتزم

هذه صورة تنسيقية جماعية سمحة تتسع لرؤي الحركات الإسلامية كافة ولا تكلف أيا منها ما لا تقبله أو تطيقه وتنفتح نحو علاقة توحيدية مرجوة بين الأمة الإسلامية .

العلاقات والسياسة الخارجية

الهم العالمي الإسلامي:

لقد استتبع الصحو الديني والانتماء الجماعي لمنشأ الحركة الإسلامية في منتصف هذا القرن الميلادي وعيا بالهوية الإسلامية وبالنسبة التي توحد الملة والأمة وتميزها عن الملل والأمم الأخرى في العالم ؛

ولئن كان لروادها الحركة من تلقاء ثقافتهم العصرية علم وبعض اهتمام بالضرورة بأحوالهم العالم وأحداثه عامة فإن همّهم الخاص إنما صوب نحو العالم الإسلامي بل نحو الصحوة الإسلامية فيه دون سائر شئونه إذ شعروا إزاءها بأخوة ورابطة مخصوصة ورأوا لها مغزي متحدا مع ما هم فيه ؛

فالكتب والمنشورات التي حملت فكر الدعوة الجديدة والإعلام الذين نطقوا بصوتها وقادوا مجاهداتها والحركات التي مثلّت وقعها في مجتمعات المسلمين ووعدها في مستقبلهم تلك كانت مواضع الاهتمام الخاص التي انجذب إليها الإسلاميون الجدد.

الذلك كانوا يتطلعون إلى أخبار أو آثار أو زوار من تلقاء مصر أو باكستان أو سوريا أو العراق أو غيرها من مراكز البعث الإسلامي .

وكانت الحركة تعني أيضا بالقضايا العالمية ذات الوجه الإسلامي الصريح وبأى نزاع دولي يمس شأن المسلمين وربما تجاوبت مع تطوراته بالتعبير عن التضامن والانتصار لجانب الإسلام فيه أو بالحملة والإنكار على الجانب الآخر ...

فمن ذلك قضايا التحرر الوطني الإسلامي الشعار في إفريقيا وآسيا (كأندوبيسيا وباكستان والجزائر) وقضايا الحركات الإسلامية وجهادها تحت وطأة النظم الغاشمة (في مثل مصر وإيران) وقضايا كفاح المسلمين لتقرير مصائرهم المتميزة في وجه طوائف أخرى (كما كان في فلسطين وكشمير ونيجريا)

ولعل من أولي القضايا التي مست الحركة مسا مباشرا هي قضيتا إرتريا وتشاد إذ تمثلنا في محنة شعب مسلم جار مغلوب على أمره سياسيا ووردتا إلى داخل الساحة السودانية بدخول اللاجئين السياسيين فوجدت الحركة نفسها تلقاء مناصرة لأصحاب القضيتين بالدعم المباشر ومعنية من جراء ذلك بالأطر والأبعاد الدولية للقضيتين .

أما وراء ذلك فقد ظلت الحركة لنحو عشرين عاما بعد قيامها لا تعني إلا بكليات الوضع الأمي ولا تكاد تميز إلا الكتلتين الغربية والشرقية لغرض الانحياز دونهما إلى الكتلة العالمية الإسلامية بدافع الولاء والانتماء لأمة المسلمين وكأن الحركة لم تكن معنية بخريطة التكتل الدولي لذاتها أو مدركة لمغازيها في مصائر العالم ؛

بل كانت تنفعل أصلا بوضعها المحلي بين تحدي التيارين اليبرالي والشيوعي المحيطين بها حين نشأتها في القطاع الحديث بالسودان فمن مقابلتها ومنافستها لهذا وذاك امتد وعيها للكتلتين الشرقية والغربية وللعالم الإسلامي من دونهما وارتفع شعارها المشهور (لا غربية ولا شرقية إسلامية إسلامية) .

فلا اهتمام ولا علاقة بغير الظواهر العالمية المتصلة بالإسلام عن وجه صريح مباشر ولا دراسة ولا سياسة ولا ممارسة للعلاقات الدولية بل كانت الحركة ترهب الدول عموما وتنفر من الدول غير المسلمة خاصة تعدية لمفهوم البراء من الكفار إلى صعيد العلاقات وعقدة من شبهة الاتصال الدبلوماسي كأنه مباشر نجس غريب أو مقاربة خطر خبيث ؛

أما ما عهدته الحركة بعد الاهتمام بالشئون والقضايا الإسلامية من علاقات إسلامية مباشرة فقد كان قاصرا على الإسلاميين والحركات الإسلامية وما كان في ذلك من عمل خارجي كبير يعمر تلك العلاقات ولا تصور منهجي لنظامها إلا انشدادا بعاطفة الإخوة والنصرة أو التماسا لفائدة المثل والعبرة .

مرحلة العمل الخارجي:

من بعد قدوم السبعينات تطور الاهتمام بالعالم من بعيد إلى بعض عمل في الساحة العالمية يعبر عن تركز التوجه الخارجي للحركة وتعزز ذارعها الممتدة خارج السودان

وقد ذكرنا صور خروج الحركة من الحدود القطرية بابتعاث الطلاب وهجرة المغتربيين وما وصله أولئك من علاقات إسلامية حية وما أسسوه من تنظيمات مشتركة وما عمروه من أسباب تعاون فعلي مع الحركات والهيئات الإسلامية وقد استوى منهم نفر طوروا علاقات مع بعض الدول المسلمة كالسعودية وليبيا .

من جانب آخر نفي جانب من عمل الحركة السياسية إلى خارج البلاد هجرة أمن ولجوء من قهر النظام المايوي أو هجرة خروج واستنصار عليه وسعي لإحكام عزلته الخارجية وقد باشر الخارجيون من عناصر الحركة الإسلامية بالتعاون مع حلفائهم الوطنيين اتصالات بجهات إعلامية عالمية للتشهير بالنظام وفظائعه وبجبهات تحريرية وثورية تضامنا وتعاونا أو معنويا أو أباحوا الاسترفاق بأرضهم أو شعبهم ضد النظام المايوي .

وهيأت هذه الضرورة السياسية للحركة الإسلامية أن نعقد صلات مع تلك الدول ز بدأت حيية تتشفع بوجاهة رجال الأحزاب الوطنية الحليفة ثم تعززت بما يتجاوز حاجة الأزمة السياسية الراهنة وزمنها المحدود وبما يضع رصيدا لتطور لاحق ؛

وإذ توافر عدد من قادة الحركة بالخارج وسدت منافذ الحرية واعتقل الرجال وعوقت الأعمال بالداخل انتقل ثقل كبير من طاقة الحركة إلى العمل الخارجي تنظيما وتعبئة للوجود المغترب المتكاثر من عناصر الحركة وتكثيفا للعلاقات الإسلامية المباشرة بمدها إلى كل مركز في العالم للنشاط الإسلامي ؛

وتدبيرا لحركة إعداد المجاهدين لمقاومة النظام السودانيا أو لقتاله بالسلاح وحشدا لكل أسباب الدعم العالمي الإسلامي لصالح الحركة الإسلامية بالسودان ونشرا لشأن الحركة ونقلا لتجاربها وعرضا لنموذجها في الخارج .

وتأكد من قيام جانب كبير من الحركة بالخارج وانشداد الجانب الداخلي إلى شطره الخارجي تأكد البعد العالمي فيها واشتد الوعي والاهتمام و تطور ذلك إلى تجارب عملية في التعرف والاتصال وإلى مشروعات فعلية من التعامل والتعاون وقد أثمر ذلك بعثا لفقه العلاقات العالمية ؛

فما كان من توجه همّ ثم عمل خارجي عفوي تلقاء العالم الإسلامي تطور إلى تفقه في منهج العلاقة الإسلامية العالمية ما كان حذرا من الدول أو نفورا من العلاقات الدولية ارتفع بداعي الضرورة السياسية واطمأن بأثر التجربة وبفضل القوة الواثقة التي أكتسبتها الحركة؛

وتحول إلى إدراك لخطر العلاقات الدولية ومغزاها وإقبال على عمرانها وتوظيفها لصالح حركة الإسلام وإلى محاولة تفهم لمسالك تلك العلاقة وتبصر لمآزقها ومشكلاتها وتحوط لمحاذيرها ومغباتها .

العلاقات العالمية:

كانت السنوات الثمانون الميلادية بما تمهد من رصيد التجارب السالفة وبما واتي من ظروف المصالحة والمشاركة السياسية والنمو والاستقرار فاتحة عهد جديد للحركة الإسلامية عامر بالعلاقات الدولية والعالمية

فقد حفظت الحركة ورعت كل صلة خارجية تهيأت سابقا مع أى شخصية أو هيئة أو حركة إسلامية أو مع جهة إعلامية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو شعبية مسلمة أو غير مسلمة

أو مع دولة أو منظمة عالمية وحيث تحولت الحركة قبيل الثمانين إلى المنهج المخطيطي الشامل في أهدافها وأعمالها كافة وأصبحت لها مصالح ومرام متعاظمة تتعدي السودان فقد كثفت صلتها نحو الإحاطة بالعالم تطويرا لكلما سبق وامتدادا شاملا بكل نحو يتيسر .

لا سيما أن تعاظم شأن الحركة وتعاظم شأن حركة الإسلام في العالم عموما وتواتر أخبارها وتظاهر آثارها دعت قوي كثيرة في العالم إلى مضاعفة مبادراتها نحو الحركة الإسلامية بقصد الاستطلاع أو التعاون أو التقيه أو الكيد

ثم إن السودان موطن الحركة وهو بلد ذو وشائج عالمية وثيقة وكثيفة بوضعه الجغرافي وتركيبه السكاني والثقافي أخذ يعتريه وما حوله الاضطراب والضعف الاقتصادي والسياسي وجعله عرضة لداخلات اللجوء والاختراق والغزو والضغوط بتصريف الدعاية والإعانة وتسليط الترهيب والترغيب وذلك مما دعا لحركة لمزيد من الاهتمام بالعلاقات الخارجية المؤثرة على السودان .

هكذا أدرات الحركة اتصالا وحوارا واسعا بالدوائر العلمية والإعلامية والسياسية في العالم حول أحوال الإسلام الناهضة وحول أوضاع السودان ومصائره لا سيما قضية الشريعة ومسألة الجنوب وأزمة الديون والمعونات الاقتصادية الخارجية وضاعفت الحركة اتصالها وتعاملها وتعاونها مع الحركات والشعوب الإسلامية بنحو ما سبقت الإشارة

ومع الشعوب والحركات والدول الأخري عربية وإفريقية وآسيوية وأوربية من أجل التعريف بالحركة ومحيطها الوطني والسعي في مصالح السودان تبادلا ثقافيا وتجاريا وتعاونا فنيا وسياسيا ؛

وفي سبيل ذلك تعددت زيارات وفود الحركة الخاصة والرسمية إلى دول عربية وآسيوية وأوربية وإفريقية واستدعت زيارات وفود خارجية رسمية وشعبية وتبادلت حضور المؤتمرات وتوزيع المنشورات ومقارنة الخبرات

وعقدت اتفاقات تنسيق نظامي مع حركات وهيئات إسلامية مختلفة ونظمت مشروعات تعاون مع جهات ودول شتى قريبة وبعيدة وأدارت حوارا حرا مع جهات بعضها مسيحية أو يسارية أو علمانية ومع دول بعضها مواد وبعضها معاد لها وللسودان .

وقد تجاوزت الحركة الإسلامية بمدى علاقاتها دوائر علاقات سائر الأحزاب والتيارات السودانية فمهما كان بعض هذه مدفوعا للخارج بتوجهاته الشيوعية أو القومية أو علاقاته التاريخية وكان بذلك مرتهنا لوجهة معينة فإن الحركة الإسلامية كانت متحررة من كل ارتهان وانحياز؛

فالاستقلال أصل في سياستها الخارجية وعامل اتساع لدائرة علاقاتها وقد تجاوزت الحركة كسب غالب الحركات الإسلامية التي قعد بها الحذر والتحفظ أو ضآلة الواقع فزهدت في العالم وزهد فيها .

وقد قدمنا ما في طبيعة الحركة السودانية من جرأة وتوكل في الفكر والعمل كما قدمنا التحامها الوثيق بمسرحها الداخلي مما يتوهم أنه قد يشغلها ويحصر لها لكنه في الواقع نبهها لخطر العامل الخارجي ومغزاه ونبه إليها العالم الخارجي .

ومهما بلغت الحركة في العلاقات الخارجية والعمل الدبلوماسي فلابد أن نذكر أن كسبها في ذلك المجال جاء متأخرا نسبيا ذلك أن الموقف الفكري الذي بدأت به مثل الأدب الإسلامي الذي كانت تتغذي به كان قاصرا على التوجه العالمي العاطفي المجمل ,فلم يهيؤها لمباشرة العلاقات الخارجية الفعلية بقوة .

ثم أن الوظيفية الخارجية للحركة إنما ترتبت عن تطور وظائفها الأخرى إذ نمت حاجتها للعالم وقدرتها في الامتداد إليه وسما قدرها عند العالمين ويحكي تنظيم الجماعة المعني بالشئون الخارجية قصة تطور وظيفة الحركة الخارجية ؛

فقدكان قيادتها يوما عاطلة من أى جهاز مخصص للشئون غير السودانية التي يتولاها القادة عفوا حين تطرأ ثم استدعي اغتراب طائفة كبيرة من أعضاء الجماعة إنشاء مكتب للإتصال وكان طبيعيا بعد تضخم العمل الخارجي في عهد مقاومة النظام المايوى ؛

وما ساق من علاقات خارجية واسعة أن يعبر تنظيم الحركة عن حجم هذا الهم المتعاظم بإقامة أمانة مستقلة للشئون الخارجية تطورت فيما بعد لتترك رعاية المغتربين لجهاز التنظيم الأساسي أو لأمانة أخرى ولتتفرغ لمهام الوظيفة الخارجية بشعابها المختلفة المعنية بالعلاقات الحركية الإسلامية أو بالعلاقات الدبلوماسية أو الشعبية العالمية عامة أو بقضايا حركات التحرير والجهاد .

السياسة الخارجية

لما تقدمت السنوات الثمانون بحصيلته الضخمة من العلاقات العالمية وتقدمت الحركة فيها نحو النضج والاستواء والنظر الاستراتيجي تطور كسب الحركة من الهم والعمل والتفاعل الخارجي إلى الفقهيات والاستراتيجيات والمنهجيات والسياسات في التوجه العالمي .

ففي جانب العلاقة بالحركات الإسلامية كان الموقف الذي يحبذ التعددية العالمية والتنسيق السوى ويأبي البيعة والمركزية الآلية قد تجسد في جملة من مشروعات التعاون العفو .

ثم انتظمت العلاقة في نمط اتفاقات ثنائية ترسم أهدافا واسعة لتعاون ممكن وتثبت التزام السعي نحوها بوسائل مقررة أما في هذه المرحلة فقد اتجهت الحركة إلى منهجية تنسيقية كلية وخطة مؤتمر عالمي للحركة الإسلامية يجمع عناصرها المتعددة في العالم ويحيط بأغراض التعارف والتعاون التناصر بينها ويستقر بوسائل السعي التوحيدي الإسلامي على نحو ما تقدم .

وقد تمحص فقه الحركة في شأن العلاقات الحركية الإسلامية من خلال المناظرات والمشاورات مع الإخوة الآخرين ليتمخض عن مذهب متكامل بأدلته الشرعية وحيثياته الواقعية ومقتضياته العملية على نحو ما تقدم أيضا وما اشتملته أوراق منشورة .

أما في السياسة والعلاقات الخارجية عامة فقد كان تحرك الحركة يندفع بدواعي الوعي والهم العالمي إجمالا لكنه في هذه المرحلة أصبح موجها بمقتضي الاستراتيجية الموضوعة للتمكن الإسلامي ومصوبا بما يقوم القوة العالمية تعزيزا لما هو موال وكبتا لما هو معاد للمشروع الإسلامي بالسودان ومحسوبا بما يسد ثغورا بادية ويتم شرائط لازمة وبما يدفع عن السودان والإسلام أو يعين .

وقد أدارت الحركة حوارا فقهيا في الشئون العالمية والدولية ووضعت من نتائج اجتهادها ورقة منشورة في السياسة والعلاقات الخارجية تؤصل المعاني على على تعاليم الدين والشرع وتصاريف الواقع المحلي والعالمي؛

وتعين الأهداف وتوجه السياسات وتحدد الوسائل وتنزل القول وتفصله في علاقات السودان والحركة الشعبية والرسمية مع العالم دولة وأهله وقضاياه وأخذت الحركة تتناول وتعالج قضايا فكرية فقهية في السياسة والعلاقات الخارجية مثل : التوحيد بين مصلحة الحركة ومصلحة السودان .

والتوفيق بين قيم الإسلام ومعايير المطلقة ومقتضيات المصلحة والضرورة الوطنية أو الحركية في التعامل الخارجي أو التوفيق بين الاستقامة والوضوح في الموقف أو المعاملات ومراعاة أعراف الدبلوماسية وطرائقها والجمع بين العلاقة الإسلامية الحركية الأخص والعلاقة بالشعوب المسلمة عامة ثم بالدول المسلمة؛

لا سيما حين تتناقض المقتضيات والتوازن بين الإيجابية المقبلة على العلاقات الخارجية مع من اتفق والتحفظات في موالاة دول الظلم أو الكفر التي لا تنفك عن كيد للإسلام والمسلمين وإن لم تثر مسائل السياسة الخارجية الفقهية خلافات أو زوابع بين أعضاء الحركة على دقة مآزقها ومحاذيرها فذاك أنها وافت الحركة وقد نضج فقهها التطبيقي في كل مجال واستوي فيها مبدأ رفع الحرج في اجتهادات السياسة الشرعية .

ومن ضوء الاستراتيجية وهدي المنهج ونظام السياسة ورشد الفقه مما تم للحركة الإسلامية أخيرا اتجه بها الأمر إلى التوازن والتوحيد بين كم عملها الخارجي المتبارك وكيفه الحكيم الرشيد بل بين كسبها الديني الداخلي والخارجي تكافؤا في الواقع وتماثلا في النهج وتعادلا بين التمحور المكاني الفعال والامتداد العالمي المطلق وتكاملا في التدين عمقا وافقا .

الاتجاه الإسلامي الموقف العام من القضية الفلسطينية نقد وعرض

بقلم: خالد صلاح الدين

  • من مواليد فلسطين ومهتم في الشؤون الإسلامية وتعبر مقالته هذه عن تيار إسلامي عامل حاليا في فلسطين

إذا كانت الثورة الفلسطينية قد أخطأت الطريق الصحيح في النتائج التاريخية النهائية بعدم الانطلاق الواضح من الإسلام فإن الحركة الإسلامية قد ارتكبت خخطأ فادحا في عدم طرح إستراتيجية الممارسة الجهادية الثورية أى أن الثورة الفلسطينية قد أسقطت التجسيد العملي الجهادي لإطارها النظري .

ولذا فإن الحركة الإسلامية حين تنحو باللائمة على الثورة الفلسطينية أو تطالبها بأن عليها أو بأنه كان عليها أن تنطلق في نضالها من الإسلام فإنها تلزم نفسها مبدئيا بضرورة أن تجسد بنفسها ما أسقطه الآخرون:

نظرا وممارسة وهذا الوضع أدي بالحركة الإسلامية إلى أن يدور موقفها من القضية الفلسطينية والكفاح المسلح في إطار :

الطرح النظري الخالص الذي يقوم على تقرير المبادئ العامة والآمال المعلقة على حتمية تاريخية إسلامية في المستقبل فالحركة الإسلامية لا تفتأ تدعو إلى الجهاد وتدين عجز الأنظمة وتخاذلها وسياساتها .
الاستراتيجية العامة للاتجاه الإسلامي العريض وأثرها على الموقف من القضية إن إستراتيجية الخط الأساسي التاريخي في الاتجاه الإسلامي تقوم في واقع الحال على خلق تيار شعبي فكري وشعوري واسع يمكن مع الزمن أن يشكل قوة ضاغطة على الأنظمة الحالية لتبني الإسلام والجهاد
استجابة للروح الشعبية الإسلامية المتصاعدة وبهذا فإن خط هذه الاستراتيجية يتجه دائما إلى " الآخرين " الذين يملكون القرار العمل أو أدوات القوة المادية الفاعلية سواء كانوا أنظمة أو منظمات ؛
وبحكم هذا المنطلق لابد أن يقتصر موقف الحركة الإسلامية على اقتراح الإطار النظري ومحاولة إقناع الآخرين به أو انتقادهم لعدم تبنيه أو الضغط الأدبي عليهم لاختياره ووضعه موضع الممارسة أو استخدام أخطاء الآخرين وفشلهم دليلا على صحة الطرح النظري للحركة الإسلامية وبإيجاز فإن موقف الحركة الإسلامية من هذا الجانب يتمثل في تقديم الوصفة لمن يملكون القدرة على تطبيقها أو عدم تطبيقها

وبعبارة أخرى: التعليق على فعل الفاعلين ما الذي يجب أن يفعلون وما الذي كان يجب أن لا يفعلوه أما أن تأخذ الحركة الإسلامية بنفسها زمام المبادرة الجهادية الشعبية فهذا مع الأسف ما تجاهلته الحركة الإسلامية أو تجنبته متذرعة بعدة مبررات منها:

إن هذا الخيار غير عملي أو غير ممكن من الناحية التطبيقية في الآونة الراهنة وضمن ظروف القمح الحالية فالجهاد الشعبي الإسلامي يجتاح إلى ظهير يحميه ويتيح له فرصة الانطلاق في صورة دولة أو نظام إسلامي وبذلك فإن انطلاقه بغير ذلك الظهير لابد أن يصطدم مع القوى الرسمية التي ستحول بين الحركة الإسلامية وبين ممارسة الجهاد .
ومثل هذا الموقف لابد أن يقود إلى ترسيخ إستراتيجية الحركة الإسلامية التي أشرنا إليها آنفا وهي العمل على توسيع التيار الفكري الإسلامي بوسائل غير عنيفة ولا تؤدي إلى الصدام مع الأنظمة في وقت مبكر على الأقل ومن ثم استخدام هذا التيار للضغط على الأنظمة والمنظمات لتبني الإسلام وإعلان الجهاد العام أو على الأقل إتاحة الفرصة أمام الإسلاميين والمسلمين المتعطشين إلى الجهاد بصدق لكي يمارسوا دورهم الجهادي .

ردود الفعل النظرية تجاه ممارسات القوى الأخرى الفاعلة في ساحة القضية

ومن نتائج هذا الموقف العام أن المواقف الفرعية المنبثقة عنه تجاه القضية الفلسطينية والكفاح الشعبي المسلح كانت تقوم في معظم الأحيان وما زالت كذلك على ردود الفعل إزاء مواقف الآخرين العملية أى التعليق النظري على الأحداث من خارج الانخراط العملي المباشر فيها ؛

مما كان دائما يضعف من مصداقية هذه التعليقات ومواقف الحركة الإسلامية بل كان يضع الحركة الإسلامية في موضع التهمة وبخاصة فيما يتعلق بتعليقات على مواقف المنظمات الفلسطينية الفاعلة وأخطائها فمهما بلغت هذه التعليقات من دقتها وموضوعيتها يسهل اتهامها بأنها محاولات لتشكيك في تضحيات الآخرين وجهودهم العملية من موقع الركود إن لم يذكر العجز.

تأجيل قضية فلسطين ريثما يتم تحقيق مقدمات العودة الذاتية الداخلية للإسلام بأساليب الدعوة الفردية وخلق تيار فكري عام والتربية والتوجيه والإرشاد .. الخ ..

ومن نتائج هذا الموقف أيضا ونظرا لاشتراط توفير الآخرين مناخا حرا للإسلاميين والمسلمين لممارسة الجهاد إن لم يعلن الآخرين بأنفسهم قبول الخيار الإسلامي العام والجهاد الإسلامي نظرا لذلك كله لابد أن تجد الحركة الإسلامية نفسها منساقة إلى تأجيل قضية فلسطين ريثما يتم تحقيق المقدمات العامة وهي بعبارة موجزة: العودة الذاتية إلى الإسلام .

ولما كان الخط الأساسي التاريخي لإستراتيجية الحركة الإسلامية كما أسلفنا لا يأخذ صيغة ثورية ويكتفي بهدف خلق تيار فكري إسلامي ضاغط على الآخرين ويتجنب استخدام ما يوصف بوسائل العنف الثوري

فلابد أن يتخذ أسلوب الدعوة إلى تحقيق مقدمات العودة الذاتية إلى الإسلام أشكال الوعظ والتنبيه والترغيب والترهيب إلى أن يصل ذلك إلى مفاهيم مبدئية مفرطة في عموميتها النظرية الوعظية من مثل المقولات المتكررة التالية:

  • إن علينا أن نعود إلى الإسلام وإلى محاسبة النفس وتنقيتها من الشوائب والأفكار الداخلية لكي نستحق النصر .
  • إن عدنا إلى الإسلام وبدأنا بأنفسنا فطهرناها من الذنوب والعيوب جاء نصر الله ودمرنا اليهود .
  • إن الله إنما يعذبنا باليهود لأخطائنا وذنوبنا .
  • أننا نستحق ما جري علينا لانحرافنا عن جادة الحق وانهماكنا في الحياة المادية الفانية ونحو ذلك .

وقبل أن يسرح البعض باتهامنا نقول: إننا لا نعارض هذه المقولات من الوجهة الدينية المبدئية.ولكن الخطأ كل الخطأ يكمن في الإطار الاستراتيجي العام الذي تصدر منه فإلى من يتوجه الخطاب في هذه المقولات ؟! إلى الإسلاميين المؤمنين؟ إن هؤلاء هم الذين يخاطبون مجتمعاتهم بهذه الأفكار . فهل يكون المخاطب بكسر الطاء هو عين المخاطب بفتح الطاء ؟ هل يكون الداعية هو المدعو ؟

إن الدعوة إلى العود إلى الدين والتطهير من الآثام والذنوب والتخلص من مظاهر الشذوذ والانحراف عن جادة الإسلام تفترض إن الخطاب فيها موجه إلى من يتمثل فيهم الانحراف والزيغ والضلال في إطار المجتمع الكلي ومن ضمنهم : الأنظمة ممثلة في مسؤوليتها والمؤسسات وأصحاب الاتجاهات الفكرية والحزبية غير الإسلامية والمسلمين بالهوية والفساق والملاحدة ...

وكل من يعتبر مسئولا عن مظاهر الانحراف العامة إضافة إلى مظاهر انحراف السلوك الفردي فهل يتوقع أن يكون أسلوب الوعظ والتنبيه والتذكير كافيا مع مرور الزمن اللا محدود لكي يتغير هؤلاء ويعترفوا بأخطائهم ويتوبوا عنها ويعودوا إلى الإسلام في صحوة عامة للضمير ؟ّ!

إن هذا النوع من التفكير ينطلق من عدة افتراضات ومفاهيم خاطئة أهمها:

الفهم المخطئ لطبيعة المجتمع ومن ثم لأسلوب تغيير فهو يفترض أن المجتمع هو مجموع الأفراد فيه وحسب سواء كانوا حكاما أو محكومين مسئولين أو غير مسئولين وبالتالي فإن تغيير المجتمع يعني أن يتغير مجموع أفراد المجتمع أو معظمهم بوصفهم أفرادا وعلى نحو كمي متصاعد .
فالقلة المؤمنة مثلا تصبح من الزمن كثرة بوسائل الوعظ والتربية والتنبيه والتذكير والإقناع الشخصي حتى يتكون من ذلك تيار عريض واسع بشكل قوة ضاغطة على أصحاب القرارات لتبني الحلول الإسلامية وإزالة مظاهر الانحراف إن لم يكن ذلك اقتناعا منهم فاضطرار أمام الرغبة العامة لتيار المجتمع العريض .

ويفترض هذا الفهم أيضا أن معظم أفراد المجتمع هم مسلمون مؤمنون بالإسلام ولكن فيهم الكثير من مظاهر الجهل الديني والانحراف السلوكي .

ولذا فإن أسلوب الوعظ والتنبيه والإقناع كفيل بإعادتهم إلى الفهم الصحيح للإسلام ومن ثم إلى السلوك الإسلامي القويم إن هذا الفهم يغفل الحقائق التالية:

إن المجتمع ليس ببساطة المجموع الكمي لأفراده إنما هو نظام اجتماعي أو تركيب اجتماعي تتمثل فيه العلاقات المادية للمجتمع والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية والقانونية ... الخ .
وهذه المؤسسات التنظيمية المختلفة مترابطة عضويا تتبادل من خلاله التأثر والتأثير وتعكس بجملتها الواقع الموضوعي العام للمجتمع .
والنظام السياسي على رأسها يجسد هذا النظام الاجتماعي ويتمثله ويمتلك أدوات القوة للحفاظ عليه ومن ثم الحفاظ على مصالحه ومصالح من يهمهم بقاء المجتمع على حاله لضمان استمرار هذه المصالح .

وهؤلاء لا تخضع خياراتهم الأيديولوجية للقناعات العقلية التي يمكن التأثير فيها من خلال الوعظ والتذكير والتأثير وإنما تخضع لمصالحهم المادية في المقام الأول وإذا كان ممثلوا النظام الاجتماعي هذا يقبلون ببعض مظاهر الإسلام في الأطر الرسمية والتنظيمية بدرجات متفاوتة فإنما يعود ذلك إلى الطبيعة الانتقائية للثقافة التي تمثل هذا النظام .

أما إن يؤخذ بالإسلام نظاما اجتماعيا عاما للمجتمع فهذا يعني القضاء على مواقعها ومصالحها وارتباطاتها . فهي لا تأخذ منه في أحسن الحالات إلا بالقدر الذي لا يهدد تلك المواقع والمصالح والارتباطات والذي يكفي لامتصاص المشاعر الإسلامية الشعبية النامية ويوحي بأن النظام لا يتعارض مع الإسلام أو أنه أكثر من ذلك يسير مع الزمن في اتجاهه .

أما إذا اشتدت المطالبة الشعبية لطرح البديل الإسلامي الاجتماعي الجذري الشامل إلى حد لا تنفع معه وسائل التطمين والامتصاص وطرح الشكليات الإسلامية الجزئية فإن ممثلي النظام يلجأون إلى وسائل القمع العنيفة كما حدث فعلا في تاريخ الاتجاه الإسلامي

حتى لو لم يظهر الاتجاه الشعبي الإسلامي أى مظهر مباشر من مظاهر العنف إذ يكفي أن يأخذ شكل المعارضة السياسية المنظمة المؤثرة أما التدين الشخصي فهذا ما لا يمانع به النظام عادة كما إنه لا يمانع بالإلحاد الشخصي إذا لم تترتب علي هذا أو ذاك أية مواقف سياسية معارضة للنظام هذا على مستوى ممثلي النظام من حكام وساس وأصحاب نفوذ .

أما على مستوى القاعدة الاجتماعية الشعبية العريضة فمنهم من يمكن أن تؤثر فيه الدعوة الفردية بدرجات متفاوتة تتراوح بين تحويلة إلى داعية فعال وبين التأثير المحدود في مشاعر العامة وسلوكه ومنهم من لا تؤثر فيه الدعوة إطلاقا

ولكن المهم أن ثمة بين أوساط القاعدة الشعبية العامة للمجتمع من لا يكتفون بعدم الاستجابة للدعوة الإسلامية الفردية وحسب بل هم يعادونها ويعملون ضمن عقائد وأطر فكرية أيديولوجية غير إسلامية منظمة وغير منظمة وهم يرون ضرورة تغيير المجتمع , ويمارسون نشاطهم في هذا الاتجاه ولكن من خلال العقائد الجاهلية المعادية للإسلام .

فكيف يتوقع إذن أن يتم تغيير المجتمع إسلامية وتحقيق مقدمات العودة الذاتية للإسلام بوصف ذلك شرطا لجهاد العدو الخارجي بوسائل الوعظ والتنبيه؟! إن تشخيص المرض واقتراح الدواء مبني على تعريف مسبق من العقيدة التي يؤمن بها الشخص وبذلك فإن ما يراه الداعية المسلم مرضا اجتماعيا أو انحرافا عن السوية لا يراه كذلك غيره من أصحاب الاتجاهات الأخرى المخالفة فهل يمكن اقتراح دواء لمن لا يعترف بوجود المرض فيه ؟!.

إننا لسنا ضد الوعظ والتنبيه والتذكير ولكن يجب أن لا نبالغ في دوره ونتائجه في عملية تغيير الواقع الكلي المتمثل في النظام الاجتماعي العام وعلاقاته ومؤسساته ومن مظاهر أسلوب الدعوة الفردية والتوجيه والتربية ذلك لا مظهر العام الذي يجري فيه النصح والإرشاد وانتقاد الأخطاء والانحرافات والمظاهر اللا إسلامية من على المنابر العامة وهذا يشارك فيه رجال الاتجاه الإسلامي المنظم ؛

ولكن بصفتهم الفردية كما يشارك فيه أعوان النظام أنفسهم فالنظام كما أسلفنا لا يعارض الإسلام بكليته بوصفه دينا وموجها للسلوك بل يعتبره مصدرا من مصادر التشريع الكثيرة في صيغة أكثر تقدما في مجاملته للحس الإسلامي طالما أن ذلك لا يأخذ صيغة المعارضة السياسية المباشرة للنظام؛

بل هو مستعد لتشجيع هذه الممارسات الوعظية التوجيهية في إطار وجوده الذاتي والأنظمة العربية كلها تقريبا تنص في دساتيرها على أن دين الدولة هو الإسلام وتفرد للأوقاف وللشئون الإسلامية وزارة رسمية وتسمح بوجود مؤسسات إسلامية خيرية أو نحوها إلى جانب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تمثل الواقع الإجمالي غير الإسلامي ؛

فلا غرابة إذن أن نشاهد رجال السلطة أنفسهم وممثلي وزارات الأوقاف وشيوخ النظام يتحدثون ويخطبون بنفس ما يتحدث ويخطب به رجال الاتجاه الإسلامي المنظم على المنابر العامة من ضرورة الرجوع إلي الدين لكي يتحقق النصر؛

ومن ضرورة أن يبدأ الفرد بنفسه ثم بغيره في نطاق مسؤوليته وضرورة إزالة مظاهر الفسق والانحراف التي عوقبنا بالعدو الخارجي بسببها ومن الممكن أيضا أن يشن رجال الدين مع تحفظنا على هذه التسمية المرتبطين بالسلطة حملة عنيفة قاسية على مظاهر الانحراف العامة من مثل وجود الخمارات والمسابح المختلطة والأزياء الخليعة والأفكار الداخلية ودور اللهو ... الخ .

وأكثر من ذلك لا يمتنع هؤلاء من الدعوة بحماس عام للجهاد والنظام لا يري في ذلك كله أى بأس , لأن هذا الاتجاه بمنطوقه الخفي العام يتضمن ما يلي:

صرف التهمة عن النظام نفسه وعن دوره في إفراز هذه المظاهر اللا إسلامية المنحرفة وفي التقاعس عن مواجهة العدو الخارجي وفي تعطيل الجهاد الشعبي والرسمي العام وتعطيل أحكام الإسلام بل التآمر على القضية والتبعية للقوي الخارجية الاستعمارية
ومن ثم تجزئة المشكلة إلى مظاهر متفرقة في سلوك الأفراد والاتجاهات الأخلافية . بحيث تتوجه التهمة إلى الناس أفرادا وبدلا من أن يتجه مطلب التغيير الإسلامي إلى النظام الاجتماعي الجاهلي برمته يتجه إلى أفراد الشعب ضمن هذا النظام فإذا كان لابد من تحميل مسئولية الهزائم لأحد .

فالشعب هو المسئول وإذا كنا نطلب النصر حقا فهذا مرهون بمدى استجابة أفراد الشعب للمواعظ الأخلاقية وإلى أن يحدث هذا فعلا فلا أمل في النصر ولا مبرر لتحميل المسئولية للسلطات النظامية وهكذا يجري تأجيل قضية الجهاد والتحرير عمليا إلى أمد غير مسمي ويتخذ من الهزائم والمصائب والانتكاسات العامة حجة على الشعب ومجموع أفراده

ويجري تدجين المسلمين بهذا الأسلوب لتقبل الهزائم وبوصفها عقوبات عادلة لأخطائهم وانحرافاتهم وينصب النقد والتقريع على المظاهر الجزئية الخارجية دون الأسباب العميقة والإطار الاجتماعي العام الذي أفرز هذه المظاهر ولابد أن يفرز غيرها طالما بقي مستمرا .

إن النتيجة النفسية التي يصل إليها هذا الأسلوب متعددة الجوانب والمظاهر في سلبيتها إذ يصرف الاهتمام عن ميدان المعركة الموضوعي الواسع الذي يشتمل في إطاره على كل الجزئيات وعوضا عن ذلك يحصر ميدان المعركة بكل عناصره المتضاربة في ذات الفرد ونفسيته فالفرد هو العدو وهو الضحية

وهو الذي يظلم نفسه وهو نفسه وهو الذي يتحمل عواقب هذا الظلم وهو المعتدي بانحرافه وضلاله وهو المعتدي عليه ولما كان العدل من مقتضي حكم الله , فإن كل ما يقع علينا من الهزائم والضربات ما هي إلا مظاهر من انتقام الله العادل؛

وبذلك يجري امتصاص مشاعر الغضب والنقمة ضد العدو ويجري تحويلها ضد الضحية وانسجاما مع هذا الموقف يستخدم مفهوم مجاهدة النفس بديلا عن جهاد العدو يزداد التركيز السلبي على أولوية جهاز النفس بوصفه الجهاد الأكبر وتعزل معاني الآيات الكريمة من مثل (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)

عن موضوعها الصحيح من سياق المنظومة الإسلامية الشاملة أما الفرد الذي يصبح عبر هذا النوع من التفكير هو ميدان المعركة وعناصرها فهو شخصية معنوية مطلقة لا تحديد لها ومن هنا تضيع حدود المسئووليات الاجتماعية والسياسية : مسؤوليات الهزائم ومسؤوليات التغيير ويغرق الناس في حالة من القدرية السلبية المستسلمة التي لا تنسجم مع روح الإسلام وشخصيته الفاعلة.

ويظهر هذا الموقف في أقسي صوره حينما يأتي في وقت يمارس فيه العدو أبشع أساليب غطرسته ووحشيته خلال الغزو العسكري والمجازر الدموية الرهيبة التي لا تنال من القوى المقاتلة قدر ما تحصد من أرواح المدنيين من شيوخ وأطفال ونساء

ويذكرنا هذا الموقف بالقصة التمثيلية المعروفة التي تدور حول رجل سرقت منه دايته فاجتمع الناس عليه يلومونه ويقرعونه لأنه لن يحسن رباطها ولم يتحوط لها من السرقة فلما بالغوا في ذلك وقتا طويلا ذكرهم بأن عليهم أن يسبوا اللص ساعة واحدة على الأقل .

فلا عجب إذن أن تشجع السلطة هذا النوع من التعبير الإسلامي وأن تستثمره للتهرب من المسئولية ولاحتواء الاتجاهات الأكثر ثورية في الفكر الإسلامي السياسي بل إن بعض الأنظمة الأكثر تساهلا ودهاء لتسمح بما هو أكثر ؛

وبخاصة في ظروف تفاقم النقمة العامة على التقصير والتخاذل فتترك للخطباء المتحمسين المخلصين وغير المخلصين أن يكيلوا الاتهامات ضد المواقف العربية العامة ومن ضمنها المواقف الرسمية بشرط أن تتسم هذه الاتهامات بالعمومية المفرطة التي تضع الجميع في سلة واحدة : حكام العرب جميعا دون تحديد والشعوب العربية جميعا دون تمييز للمواقف والمواقع

ولكن حتى في حدود هذا المظهر التعبيري العام الذي يجري من على المنابر العامة فإن السلطة لا تسمح له بتجاوز حدا معينا على الرغم من أن أصحابه ينطقون به بصفتهم الفردية فإذا ما حدث وتجرأ أحد الخطباء أو الدعاة بإدانة موقف السلطة المحلية مباشرة فإنه يصطدم مع أجهزة الزمن والقمع وهذا ما حدث مرارا وما يزال يحدث .

إضافة إلى المظهر العلني أمام العام من على المنابر العلنية والذي تحدثنا عنه آنفا يتخذ أسلوب الدعوة الفردية والتوجيه السلوكي والأخلاقي الديني صيغة أكثر تحديدا وتطورا ونعني بها الصيغة التنظيمية فالتيار الفكري الشعبي الذي يطمح الخط الأساسي في الاتجاه الإسلامي إلى تعميقه وتوسيعه يقوم على بعدين أو خطين : خط الحركة المنظمة وهي التي تشكل الجسم الأساسي المتماسك لهذا التيار وخط التأثير الشعبي العام الذي يمكن أن تثيره الدعوة المنظمة في وسطها الاجتماعي؛

ولكن إستراتيجية هذا التيار بجسمه المنظم ومحيطه التأثيري تظل تدور كما أسلفنا حول هدف خلق أداة شعبية ضاغطة على الآخرين (الأنظمة وأصحاب القرار) للمبادرة إلى اتخاذ وتطبيق القرارات الكفيلة بتحقيق مقدمات العودة إلى الإسلام

ومن ثم إعلان الجهاد المعطل أو على الأقل توفير الحرية للراغبين في الجهاد لكي يمارسوا واجبهم وقد سبق وناقشنا أخطاء هذا التصور وعمقه ويكفي هنا أن نشير أن هذا الأسلوب بمظهره التنظيمي على الرغم من أنه لا يطرح صيغة ثورية لتغيير المجتمع إلا أنه محظور في معظم الدول العربية لمجرد أنه يتخذ طابعا تنظيميا يقترن عادة بالبعد السياسي وفي الدول التي يسمح له فيها ممارسة نشاطه فإن ذلك يجري في نطاق محدود لا يسمح له بتجاوزه إطلاقا .

وقبل أن نمضي في هذا التحليل النقدي ولكي نسهل على القارئ ربط أجزائه يحسن بنا أن نلخص إلا ما شرحناه آنفا حول موقف الاتجاه الإسلامي العام من القضية الفلسطينية وما يتصل بها من موضوع الجهاد والمنطلقات الاستراتيجية لهذا الموقف

وذلك في النقاط التالية:

الطرح النظرى الخالص الذي يقوم على تحليل وتقييم مواقف القوى الفاعلة الأخرى (أنظمة أو منظمات) بمعيار الإسلام انتقادا أو لوما أو نصحا أو توجيها وبإيجاز تقديم الوصفة النظرية الإسلامية للقوي الفاعلة .
وينبع هذا الموقف من الخط الاستراتيجي الأساسي للاتجاه الإسلامي الذي يقوم على الدعوة الفردية (المنظمة وغير المنظمة) والذي يطمح في أكثر صيغة تقدما إلى خلق تيار شعبي عام يكون بمثابة أداة ضاغطة على أصحاب القرارات والقوى الفاعلة .
وينبع هذا الموقف من الخط الاستراتيجي الأساسي للاتجاه الإسلامي الذي يقوم على الدعوة الفردية (المنظمة وغير المنظمة) والذي يطمح في أكثر صيغة تقدما إلى خلق تيار شعبي عام ويكون بمثابة أداة ضاغطة على أصحاب القرارات والقوى الفاعلة لتبني الحلول الإسلامية والاستجابة لعمليات النصح والتوجيه بحيث يتوازي هذا الضغط على القوى الفاعلة وأصحاب القرار مع إشاعة الروح الإسلامية بين عامة الناس والتأثير على سلوكهم ومفاهيمهم .
أحد النتائج الفرعية لهذا الاتجاه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية هو تأجيل هذه القضية وتأجيل مطلب الجهاد عمليا ريثما يتحقق شرطه الاجتماعي الداخلي: عودة المجتمع إلى الإسلام أفرادا ونظاما لكي يتوافر بذلك مناخ حر لممارسة الجهاد الرسمي والشعبي أو الشعبي على الأقل دون موانع من السلطة .
وينتهي هذا الموقف إلى توجيهات وعظية عامة تنصب في معظمها على مظاهر الحياة الاجتماعية المنحرفة عن سوية الإسلام وإلى تجزئة المطلب الإسلامي الكلي وإلى تعميم الاتهام وإلى جعل الفرد ميدان المعركة .
إغفال العلاقة العضوية الجدلية بين هدف التغيير الذاتي العام وهدف التحرير الخاص .

ونتابع الآن مناقشتنا النقدية لهذا الاتجاه العريض ونسجل ابتداء أننا لا نتجاهل الدور الايجابي الذي لعبه هذا الاتجاه متمثلا بصورة خاصة في النجاح في استقطاب أعداد كبيرة من الشباب ضمن التيار الإسلامي؛

وهؤلاء كان يمكن أن ينجرفوا مع التيارات الثقافية كذلك في أحداث نوع من التوازن النسبي في المجتمع يحول دون التمادي العلني المطلق في الانجراف بعيدا عن الإسلام و لا شك أن الأعداد الكبيرة من الشباب الذين نجح هذا الاتجاه في استقطابهم سيكونوا مصدرا بشريا كبيرا في المستقبل (إن شاء الله) لصيغة ثورية جهادية أكثر تقدما

ولكن حتى الآن يجوز لنا أن نطرح التساؤل التالي :

لقد شهد هذا التيار الإسلامي اتساعا مشهودا على المستوى الكمي الأفقي ومع ذلك فإن مجمل الأوضاع الاجتماعي أو النظام الاجتماعي في علاقاته الاجتماعية الأساسية العامة ومؤسساته وتنظيماته لم يتغير
وإذا كانت القدرة على مواجهة العدو وتجنب الهزائم إن لم نقل إحراز النصر هو مقياس درجة التغيير الإسلامي داخل المجتمع فإن الهزائم المتلاحقة والمتنامية في حجمها وتأثيرها دليل على أن التغيير المنشود لا يسير في طريق التقدم الفعلي الذي يتجاوز الأفراد والاتساع الكمي للتيار الإسلامي والمظاهر الإسلامية الجزئية إلى قواعد المجتمع والنظام الاجتماعي برمته ؛

ونستنتج من ذلك أن هذه الاستراتيجية في العمل الإسلامي وفي تناول القضية الجهادية حول فلسطين إذ تؤجل الموضوع الفلسطيني الجهادي بدعوي أولوية تحقيق مقدمات التغيير الإسلامي الداخلي بأسلوب الدعوة الفردية والتجمع الكمي للتيار الإسلامي وتقديم الوصفة النظرية الإسلامية للقوى الفاعلة وأصحاب القرار فأنا تنهي إلى الفشل في كلا الهدفين .

تحقيق شرط التغيير الداخلي

وبالتالي التقدم العلمي نحو موضوع الجهاد حول فلسطين .فكما أن هذا الاتجاه يفترض أن المبادرة الشعبية الإسلامية إلى الجهاد تصطدم بالقوى الرسمية فإن عليه أن يدرك أن تغيير المجتمع داخليا يصطدم بنفس القوى ولنفس الأسباب

وإذا كانت هذه القوى في بعض الحالات الاستثنائية تسمح لهذا الاتجاه بممارسة نشاطه في خلق تيار إسلامي شعبي عريض إلى جانب التيارات الأخرى فإنها تفعل ذلك ضمن حدود معينة لضبط سلوك هذا التيار داخل إطارها العام

فإذا ما تجاوز هذه الحدود ولو بغير أن يتبني وسائل عنيفة فإنها تعترضه بكل وسائلها التي يمكن أن تصل أخيرا إلى حد القمع التام وإذا فإن تأجيل القضية الفلسطينية لم ينفع مسألة التحرير والجهاد المؤجلة كما لم ينفع في حل المشكلة الاجتماعية الداخلية المقدمة .

والقوى المعادية في كلا الحاليين واحدة : الأنظمة الداخلية والعدو الخارجي معا ونعني بذلك أن العدو الخارجي الذي سيقاوم الجهاد الإسلامي ضده بالضرورة سيقاوم بنفس القوة عملية تغيير الظروف الداخلية نحو مجتمع إسلامي قوى مجاهد

لأن هذا يشكل الخطر الأكبر عليه فلا يتوقع منه أن يصبر حتى يقوم مثل هذا المجتمع ثم يدخل معه في صراع وفي المقابل فإن الأنظمة الداخلية التي تحول بين القوى الشعبية وبين الجهاد هي التي ستقاوم عملية تغييرها بالضرورة الحتمية أيضا .

وإذن فإن القوى المعادية الداخلية والخارجية تدرك العلاقة العضوية بين تغيير الوضع العربي الفاسد وبين قضية التحرير ومجاهدة العدو الخارجي وعندما نذكر " العلاقة العضوية " فإننا نعني بذلك أن شقي العلاقة (الوضع الداخلي والعدو الخارجي) لا يسبق أحدهما الآخر مرحليا بل هما عملية واحد ة .

وإذا كانت القوى المعادية تدرك حقيقة هذه العلاقة وتنصرف بالتالي على أساس هذا الفهم فإن على الاتجاه الإسلامي أن يدركها أيضا في وضع إستراتيجية وهذا بالضبط ما فات هذا الاتجاه أو أنه أغفله ؛

ومعظم أخطاء الاتجاه الإسلامي الرئيسي في معالجة المسألة الفلسطينية ومسألة التغيير الداخلي نابعة من الفشل في فهم هذه العلاقة العضوية الجدلية ويتصل بذلك ما سبق أن أشرنا إليه من غياب الفهم الصحيح لطبيعة المجتمع ومن ثم لأسلوب تغييره .

وبناء على ذلك فنحن لا نعترض على أن تحرير فلسطين والانتصار على العدو مشروط بالعودة الذاتية إلى الإسلام ولكننا نعترض على فهم الاتجاه الإسلامي الرئيسي لطبيعة هذه العلاقة الشرطية وأسلوب تحقيقها؛

فالذي تنطق به الحقائق الموضوعية أنه يقدر ما أن العودة الذاتية إلى الإسلام شرط لفاعلية التحرير فإن الجهاد التحريري شرط في الوقت نفسه للعودة الذاتي إلى الإسلام أى أن العلاقة بينهما مزدوجة في الوقت نفسه وليس مرحلية كما تتضمن إستراتيجية الاتجاه الإسلامي الرئيسي حتى الآن ؛

وذلك مقابل الترابط العضوي بين فساد الأوضاع العربية الداخلية وبين الوجود الإسرائيلي والذي نريد أن نثبته في هذا السياق هو أن الجهاد لا يمكن أن يكون نتيجة بل هو الأسلوب أو الاستراتيجية الصحيحة للعمل الإسلامي لتحقيق كلا الهدفين المترابطين:

تغيير الأوضاع الداخلية وتحرير الأرض المقدسة ونعني بذلك أن الجهاد لا يمكن أن يكون هدفا مؤجلا يأتي نتيجة لتغيير الأوضاع الداخلية إسلامية إذ أن تغيير الأوضاع الداخلية لا يتم بغير الجهاد أنه أسلوب التغيير وليس نتيجة التغيير .

فالدعوة الفردية والتجمع التنظيمي الكمي والضغط الأدبي مع التوجيه والنصح والإرشاد لن يغير النظام الاجتماعي الكلي للأسباب الكثيرة التي أوضحناها في مواضعها سابقا .

ونعود فتذكر أن هذا الاتجاه حتى لو لم يستخدم وسائل العنف محظور في صورته المنظمة في معظم الدول العربية ويتعرض أفراده للقمع الوحشي أما إذا سمح له في بعض الحالات الاستثنائية ففي حدود مرسومة لا يجوز له تجاوزها وإلا تعرض لقمع مماثل؛

إلا إذا توهمنا أن نظاما عربيا ما سيصحو ضميره في يوما ما بخيار ذاتي خالص استجابة لتوجيهات الاتجاه الإسلامي فيثور على نفسه بنفسه وهذا ما لا يمكن أن يحدث أبدا ومجرد توهمه يدل على سذاجة متناهية وجهل تام ؛

وتاريخ الاتجاه الإسلامي رغم طوله النسبي أوضح شاهد على أن هذا الأسلوب المتبع لم ينجح حتى الآن في تغيير مجتمع عربي واحد إلى النظام الاجتماعي الإسلامي مما يستدعي إعادة النظر جذريا فيه .

الحركة الإسلامية مستقبلها رهين التغييرات الجذرية

صلاح الدين الجورشي رئيس تحرير مجلة 15- 21 في تونس

صلاح الدين الجورشي (تونس) من مواليد 1954

  • التعليم في معهد الصحافة وعلوم الأخبار يشتغل في المجال الصحفي منذ 12 سنة تحمل مسؤولية مدير تحرير ثم رئيس تحرير مجلة " المعرفة " التي كانت تنطق باسم الجماعة الإسلامية في تونس ثم رئيس تحرير مجلة " المغرب العربي" ورئيس تحرير مجلة " 15 -21 ".
  • له رسائل تم نشرها على التوالي " تجربة في الإصلاح" "مالك بن نبي" " الوعي بالذات " (صياغة جماعية وأول نقد ذاتي داخل الساحة الإسلامية) الحركة الإسلامية في الدوامة ومناقشة أفكار سيد قطب" "الانتفاضة" فلسطين المحررة أم فلسطين الإسلامية "
  • ويسهم في تنشيط مجموعة تدعي " الإسلاميون التقدميون" وهو عضو بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي (مؤسسة دستورية) ونائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .

الحركة الإسلامية مستقبلها رهين التغييرات الجذرية

لم يعد يشك أحد في أهمية الحضور الذي أصبحت تتمتع به الحركات الإسلامية داخل قطار ما يسمي بالعالم الإسلامي ويكاد يجمع الباحثون المختصون في شؤون محور (نواق شوط – جركاتا) أن كل حديث عن المستقبل السياسي والاجتماعي لهذه الرقعة الجغراسياسية يخلو من الأخذ بعين الاعتبار دور هذه الحركات هو حديث غير علمي

ولا يعتمد لهذا ليس عبئا أن تتولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في سنة واحدة (1983) التمويل الكامل أو الجزئي لأكثر من مائة وعشرين مؤتمر أو ندوة في موضوع واحد هو " الصحوة الإسلامية "

ففي ذلك دليل قاطع على تنامي هاجس الخوف من هذه الظاهرة لدي مراكز الاستخبارات والشؤون الاستراتيجية التابعة للدول الكبرى وهو هاجس بدأ منذ اغتيال الشهيد حسن البنا (12 فبراير 1949) وبلغ أقصاه بعد قيام الثورة الإيرانية لكن إذا كانت هذه تقديرات المختصين والخصوم فهل الحركات الإسلامية واعية بأدوارها وقادرة على تضمين مستقبلها؟

أى بتعبير آخر هل ترشحها أوضاعها الداخلية ومرتكزاتها النظرية وطبيعة علاقاتها ببعضها وببقية الأطراف الفكرية والسياسية إلى استدراك ما فاتها لتكون تحديات نوعية ستضاف إلى التحديات الحالية ؟.

حركات غير متجانسة

بماذا تتميز الحركات الإسلامية عن غيرها من التيارات السياسية والأيديولوجية المنتشرة في نفس القضاء الجغرافي ؟

إننا نقصد من خلال الإجابة عن السؤال إبراز هوية الحركات التي ستتحدث عنها والكشف عن مواقع القوة في خطابها والمبررات والعوامل التي تضافرت حتى تضمن البقاء والاستمرار والنمو إذ غالبا ما يقع التعرض للظاهرة دون ربطها بجذورها الاجتماعية والتاريخية أو القفز على خطابها الثقافي والأيديولوجي فتتحول نتيجة ذلك إلى موضوع خارج التاريخ لا نفقه آلياته ونعجز عن تحديد طبيعته ووظيفته .

ويجب التنبيه في البداية أن الحركات الإسلامية ليست متجانسة كما يتوهم الكثيرون فيسقطون في التعميم المخل إنها كيانات تنظيمات تختلف في برامجها ووسائلها وارتباطها ومراجعها العقائدية والفكرية كما تتباين في الحجم والأهمية من قطر آخر ومن تجربة إلى أخرى لكن اختلافها لا يمنع من التقائها حول أرضية واحدة على هشاشتها تبقي المبرر المنهجي لتصنيفها في خانة مختلفة نوعيا مثلا عن الأحزاب الشيوعية التي نشأت في نفس المنطقة وفي فترات متشابهة أحيانا .

الخطاب المعبئ

أول ما يميز هذه الحركات إلحاحها على اعتبار الإسلام " منهج حياة " كفيل بإعادة توجيه الأمة وإعادة الاعتبار إليها إقليميا ودوليا إن الإسلام لدي هذه التنظيمات أيديولوجيات أو منظمات تجيب على الأسئلة الصادرة عن الأفراد والمجتمعات ؛

وتبشر ببدائل عن المنظومات الفكرية والسياسية السائدة والحاكمة والموصفة إسلامية بـ"إسلامية" بل هذا الطموح يتجاوز حدود المنطقة ليطعن في " شرعية الحضارة المهيمنة " ويعلن عن الإسلام كعلاج لمشاكل العالم "

برز هذا الخطاب في مرحلة أخذت تتقهقر فيها المجتمعات التقليدية بمؤسساتها ومفاهيمه لحساب أنماط جديدة من التفكير والحياة لا تعطي للدين نفس الاعتبار بل تعمل في النهاية على حصره في مواقع وأبعاد معزولة وهامشية قياسا على التجربة الأوربية .

لكن وإن انهارت المجتمعات التقليدية في أكثر من مكان وانهزمت في أكثر من معركة فإن مقولة "الإسلام – الحل " اكتسبت قدرة استثنائية على التعبئة والتجييش وتجاوزت سياسات الحصار لتستمر بعد خروج المستعمر وقيام الدول "الوطنية" أو القطرية .

الصلابة الأخلاقية

وثاني ما يميز هذه الحركات تركيزها على الجوانب السلوكية والأخلاقية للأفراد والمجتمعات إنها الوريثة أو الامتداد في هذا المجال للمدارس الصوفية التي انهارت في معظم الأقطار خاصة بعد الاختراق العميق لأنماط السوق الرأسمالية؛

فإن الحركات الإسلامية تعمل جاهدة لإخضاع الفرد إلى عمليات إعادة صياغة لذاته وذلك عبر نقل المفاهيم والقيم ومراقبة السلوك إلى درجة التدخل في جزئيات حياته الخاصة من زواج ولباس وطعام وصداقات وترفيه وتعليم وممارسة جنسية الخ .

هذا النشاط الاحتوائي والتعبوي يرمي إلى " عزل " الفرد عم المحيط " الجاهلي " أو الحد من تأثيرات هذا المحيط على الفرد وبذلك ينشأ التناقص وينمو بين الذات والواقع السائد لينتهي في الأخير إلى مواجهة بين مجموعة الأفراد الخاضعين لمنهج محدد في "التربية " وبين المؤسسات والسلطات الساهرة على تثبيت النمط المهيمن .

لقد أكسب البعد التربوي التيار الإسلامي صلابة وقوة مقابل بقية التنظيمات الداعية للتغيير والتي أسقطت من اهتماماتها تربية أفرادها وفق مواصفات أخلاقية متميزة مما جعل أعضاء هذه التنظيمات مهيئين أكثر للانخراط الذوبان في نمط المجتمع الاستهلاكي بدل مواجهته بل والدفاع عنه بحكم تحولهم إلى جزء منه

حيث ترتبط مصالحهم ببقائه واستمراره لقد أغفلوا أن "الجماهير" ما زالت تؤمن بالقدوة الحسنة وبالفعل الطيب وبطاعة أوامر الدين واجتناب نواهيه ومن ثم كان من السهل أن تخرج قياداتها الوطنية من أئمة المساجد وفتوات الحارات فالقدوة الحسنة هي الرباط بين الجماهير وقيادتها وهي في الغالب قدوة حسنة خلقية .

إن الإسلام قد يضعف ويختل توازنه , لكن ومع ذلك يبقي أكثر وفاء لقيم المشروع العام الملتزم به نتيجة الضغط النفسي للمنهاج التربوي الذي رافق مسيرته الذاتية .

التنظيم الدفاعي

إذا كان التنظيم أو حالة التنظيم قاسما مشتركا بين التيارات الإسلامية وغيرها فإن طبيعة التنظيم الذي أنتهجه الإسلاميون عموما تبقي مختلفة وذات خصوصيات يكادون ينفردون بها .

فالمعارضات التي نشأت في التاريخ الإسلامي منذ أواسط القرن الأول الهجري اختار معظمها صيغة التنظيم المحكم والمنغلق على نفسه وكلما اشتد قمع السلطة واتسع سلطانها زادت التنظيمات المخالفة انغلاقا وسرية .

وإذا كان الشيعة قد حافظوا على تقاليدهم التنظيمية كفرقة مستقلة لها هرميتها وهياكلها فإن أهل السنة كأغلبية حاكمة نمت ضمنها الجماعات والطرق الصوفية كأشكال متميزة لتأطير الأفراد الباحثين عن حماية روحية تعزلها حد عن بطش السلطة ولا عدلها ونفاقها الديني والسياسي .

وإذا كانت الأحزاب الليبرالية والاشتراكية والقومية قد تشكلت في مجتمعاتنا في ضوء استعارات تنظيمية لمؤسسة الحزب الحديثة فإن الحركات الإسلامية وإن اقتبست بدورها بعض الأشكال الحزبية من الغرب إلا أنه بقيت ملتصقة مفاهيميا بالتراث التنظيمي للفرق الإسلامية الرئيسية

لأصول العلاقات الصوفية ذات الأبعاد الاجتماعية والتربوية والدينية وهو ما أكسب التنظيمات الإسلامية نوعا من الجاذبية والهلامية تفتقدها بقية الأحزاب السياسية مهما عظمت ولقيت الدعم من قبل الدول القائمة .

البحث عن الجذر الاجتماعي

من أهم مرتكزات العمل الإسلامي المسيّس والمنظم في واقعنا الراهن والمعبر عنه بمصطلح الحركات الإسلامي لكننا نبقي سطحين لو اعتبرنا هذا كافيا لتفسير الظاهرة وتعليل نموها وانتشارها أن الظواهر الثقافية والاجتماعية لا تفسر فقط من حلال تكيك بنيتها الداخلية فهي كيان غير مستقل بذاته

إنها جزء من كل وهذا الكل هو المجتمعات العربية والإسلامية التي دخلت مرحلة تاريخية جديدة منذ فقدت استقلالها ومسكها بزمام المبادرة الحضارية وتحولت إلى مجتمعات تابعة للمركزية الأوربية ثم الغربية .

إن من عيوب الإسلامي أنه لا يسأل نفسه لماذا تستجيب لخطابه بعض الشرائح الاجتماعية أكثر من غيرها (الشباب والفقراء بالخصوص) في الوقت الذي تعرض عنه شرائح أخرى أو ربما تعاديه وتحاربه (مثل المثقفين والمترفين جدا) وإن كانت الشرائح الأخيرة وخاصة ذوي الثروات قد يلتفتون في إحدي المنعرجات ويظهرون له الاستجابة والتأييد .

إنا إذا طرح على نفسه هذا السؤال فغالبا ما يصاب بالنشوى ويزداد تمركزا حول ذاته ويفسر تفسيرا كأن الإيمان بالله وقدرته يتنافي مع الاعتقاد بالسببية وخضوع التاريخ لسنن وقوانين تحكم مسيرته ومحطاته وتقلباته .

القيم التاريخية تقاوم

إن الغرب في إحدي تعريفاته هو هذا النظام الدول القائم والذي حول العالم قسرا إلى مركز وأطراف يستهدف النظام الدولي إلى مركزه الثورة والقرار والمعلومات وذلك من خلال توحيد الأسواق وإلغاء الحدود والحواجز الاقتصادية في وجه الشركات متعددة الجنسيات والحفاظ على التوازنات العسكرية الحالية مع تنميط المجتمعات وبنسخ الثقافات والقيم الماقبل صناعية أى التي لا تخضع للموازين الغربية .

وقد نجح الغرب أيما نجاح في اختراق مجتمعات " الأطراف " وخلخل بناها وأسسها التقليدية لكنه لم يستطع القضاء على قيمها التاريخية بل على العكس لوحظ وجود مقاومة شديدة لأنماط الهيمنة الغربية في مرحلتي الاستعمار المباشر وغير المباشر وتبين كذلك أن الثقافات والفضاءات الدينية القديمة والأصلية هي التي اعتمدت كأرضية شعبية لهذه المقاومة (حصل هذا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى في أوربا الشرقية : بولونيا)

الدور الخفي للظاهرة

فالظاهرة الإسلامية هي تعبيره رئيسية من تعبيرات الدفاع الشامل لمجتمعات تعاني من التفكك والاهتزاز مجتمعات فقدت الكثير من إرادتها المستقلة ومن وحدتها الداخلية وأصبحت محكومة بتناقضات حادة اجتماعيا ازدياد الفوارق (الطبقية) ..

وسياسيا (بين الدول والمجتمع) وثقافيا (في مستويات اللغة وطرق التفكير وتعاطي الحياة) وطائفية (زيادة الانقسامات المذهبية والدينية والعرقية وكل انقسامات ما قبل الأمة) إن الظاهرة الإسلامية محاولة راعية في غالب الأحيان كل تلك التناقضات وتجاوزها وردا على الهيمنة الخارجية وفشل الدول القطرية داخليا .

يخطي الإسلاميون عندما يعتقدون أن الصدى الذي يلقاه خطابهم مرجعه قوة الخطاب الذي أنتجوه وينسون أن الاحتماء بالمسجد هو بحث عن الذات ودفع للخطر وتجديد للحلم وتحدي للأزمة فالظاهرة دليل على قوة الإسلام وعمق انغراسه في المجتمع والتاريخ وليست دليل على قوة الإسلاميين وانتصار لكياناتهم إنهم يستفيدون من أوضاع لم يصنعوها ولم يفكرون فيها بشكل علمي وعميق .

عامل آخر ساهم بقوة في دعم رصيد الإسلاميين دون أن يكون جزء من رأس مالهم ونقصد به أزمة الأيديولوجيات المنافسة لقد تعرضت كل من الاشتراكية (في قراءتها الماركسية بالخصوص) والقومية (ناصرية كانت أو بعثية) إلى هزات معرفية وسياسية أفقدتها الكثير من بريقها .

إن حصيلة خمسين سنة من التجارب الاشتراكية في مواقع مختلفة من العالم بينت قصور النظرية الماركسية ورغم التعديلات التي أجريت من هذه الجهة أو تلك وبعض المكاسب الهامة التي تحققت فإن ذلك لم يخفف من قبح النظم السياسية التي شكلتها الأحزاب الماركسية في أوربا وآسيا وأفريقيا بما في ذلك الوطن العربي والإسلامي .

وفي نفس السياق تعيش الحركات والأنظمة القومية حالة انحسار شديدة بعد سلسلة من الأخطاء والانتكاسات والصراعات جعلت حتى الحزب الواحد غير قادر على إصلاح ذات البين بين جناحيه وإذا كان تباين المصالح واختلاف التحالفات وحصول تداخل بين القومي والطائفي هي أسباب مباشرة لهذا الانحسار

فإن ضعف البناء الأيديولوجي للطرح القومي وتورطه في نزعة تماثلية مع القومية في ثوبها الأوربي , عوامل أخرى ساهمت أيضا في إرباك الصفوف القومية لم تفقد تماما حضورها السياسي .

وهكذا ومع حصوله هزيمة 67 عاد شعار الإسلاميين المتعلق بفشل " الحلول المستوردة " ليحتوى أزمة الآخرين ويسقط اهتمام الشباب بالخصوص , باعتبارهم الجهة المرشحة أكثر من غيرها بحكم الشعور بالحرمان للاشتغال بقضايا الأيديولوجيا والتغيير .

ستون سنة من المحاولة

تلك هي أبرز مقومات خطاب الحركات الإسلامية وأهم العوامل التحتية التي تساهم بقوة في انتشار ودعمه وهي عوامل تدل العديد من المؤشرات على استمرارها ورما استفحالها خلال العشرية الخيرة من هذا القرن وربما السنوات الأولي من القرن المقبل

وهذا يعني أن الحركات الإسلامية ستبقي الأوضاع والظروف ترشحها للقيام بدور المجمع للتناقضات والمصدرة في نفس الوقت بتفجيرها طيلة الحقبة الزمنية القادمة .

لكن ليست هذه المرة الأولي التي تتوفر فيها الشروط المواتية للانتعاش وتحقيق الأهداف المعلنة من قبل الحركات الإسلامية لقد بدأت تتوفر هذه الشروط منذ تراجع الخطاب الإصلاحي لرموز النهضة وإلغاء الخلافة العثمانية وإحاطة الاستعمار برقاب المجتمعات الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولي .

أى أن الحركات الإسلامية لها أكثر من ستين سنة وهي تتصدر الساحة وتعد بالتحولات وتقوم بتحركات استعراضية هنا وهناك لكن وبالرغم من ضخامة التضحيات التي قدمتها والعدد الهائل من الشباب والكتل البشرية التي احتضنتها وربتها وأصلحت الكثير من أخلاقها

ورغم إلحاحها المستمر على الإسلام مما جعله دائم الحضور ورغم الأزمة الشاملة وقوة الحصار الدولي إلا أن معظم الأهداف التي نادت بها هذه الحركات خاصة في الرقعة السنية لم تتحقق إن لم نقل جميعها وهو وضع لا يمكن تفسيره إلا إذا اعتبرنا هذه الحركات على حيويتها الظاهرة تعاني من أزمة هيكيلة وليست عرضية جعلتها غير قادرة على استثمار تضحياتها فهي تقوى بالأزمات وتضعف عندما يخف ضغط الأزمات لتعود من جديد مع تجدد حدة الأزمات إنها تحترق من أجل غيرها لأنها لا تستمد أساسا القوة من ذاتها .

الخلل ضمن المنظومة

ومن المفارقات أن عوامل القوة في خطاب الحركات الإسلامية تحتوى في نفس الوقت على عوامل الضعف والانكسار أى أن الخلل المركزي الذي يفسر لنا جانبا مهما من تعثر هذه الحركات ودورانها في مواقعها رغم العوامل المساعدة يكمن داخل المنظومة التي تتبناها وليس خارجها وهو الأمر الذي لا تزال قيادتها ترفضه بإصرار حتى اليوم .

إن هذه القيادات إن أنكرت وجود أزمة إلا أنها لا تستطيع إنكار وجود تعثر وعدم توازي بين التضحيات والمكاسب وعندما تسأل من بعض قواعدها عن هذا الخلل لا تتردد في تقديم إجابات تستحق الكثير من التوقف والتحليل إن خطاب الحركات الإسلامية كما وفر لنفسه قواعد ارتكاز أيديولوجية ابتكر جهازا مفاهيميا لتبرير الأخطاء وتفسيرها ضمن سياق يحمي التوجهات العامة ويحافظ على المسار .

مقومات الخطاب التبريري

ليس هذا البحث مجال للتعرض بالتفصيل للجهاز التبريري عندي الحركات الإسلامية لكن مع ذلك من المفيد أن نشير إلى بعض آلياته الدفاعية حتى يكون حديثنا إلى "الموضوعية " وحتى تمهد لنقد المنظومة كلها .

يدفع " الجهاز" بقوة كل شك قد يتسرب إلى المنهج وذلك بالقول أن الحركة تسير في طريق الأنبياء وأن النجاح مرتبط عضويا بمدى الاقتداء بالرسول صلي الله عليه وسلم ومنهج الدعوة عندها ليس عملا اجتهاديا؛

وإنما هو جزء من الوحي و هي الفكرة التي سيجها بعمق الشهيد سيد قطب وقطع بذلك كل محاول للطعن في المنهج العام للحركات الإسلامية فما بالك بمضمون الخطاب الذي يعبر عنه بمصطلحات متداخلة لإخفاء الشرعية المتجهة نحو " التقديس " مثل " الرسالة " " الدعوة " الشرع " " الوحي " " النص " وكلها مفردات تعطل الحس النقدي تنمي الاستعداد للتلقي والتنفيذ .

وعندما نقفل أبواب الخطاب والمنهج يقع اللجوء إلى " الفرد " و" المجتمع " " الدولية " و" القدرة " لتفسير النكسات والمحن والأخطاء .

  • الفرد: حيث يتسع الحديث عن " التزامه " وانضباطه وقوة إيمانه أو ضعفه ومدى حبه للدنيا وقيامه بالفرائض والنوافل واستعدادته للتضحية ووعيه بتلبيس إبليس ..
  • المجتمع: حيث تقع المبالغة في وصف انحرافاته وتضخيم أخطائه وجهله بالدين وهيمنة القوى المعادية له والتنظير لمفاصلته نظرا لمساندته وللجاهلية السياسية والاجتماعية .
  • الدولة: هذا الجهاز الذي قاسي منه الإسلاميون الأمرين لهذا يحملونه مسؤولية مركزية في تعطيل مشروعهم إنه جهاز الأهواء والطابور الخامس لأعداء الإسلاميين العالميين ومن خلالها تتسرب وتنفذ مخططات القوى الدولية المعادية : الشيوعية والصليبية اليهودية .
  • القدر: هذا المشذب الخطير الذي تعلق عليه مصائب خطيرة لقد صنعت الأدبيات الإسلامية الحديثة من خلال ما يسمي بفقه الحركة عالما وهميا للعزاء يلخص في كلمة " المحنة " فالله هو الذي قدر أن يضطهد الإسلاميون حتى يمنحهم ويجزيهم على قدر صبرهم كأن المحن خارج السنن ولا يحاسب عن صنعها ونتائجها في التصور الإسلامي !

هكذا وبفضل هذه الآليات وغيرها تحاصر الأزمة كلما احتدت . لبقع إعادة إنتاجها في مرحلة أو منطقة أخرى ومن أصر وتمسك بضرورة التغيير الجذري يتم عزله وتوجه له الأسلحة الثقيلة : " التخاذل " " الخروج على الجماعة " " حب الدنيا والخوف على النفس " " المتساقطون " طبعا مع " كشف " بالأشعة الحمراء لسلوكه وارتباطاته ومصالحه إلى آخر تفاصيل حياته الشخصية قصد إعدامه وهو حي وقاية للجسم من تسرب الخلايا المضادة .

الشعار الفاقد للمضمون

نعود إلى ما أسميناه بـ "مميزات الحركات الإسلامية " والتي اعتبرناها عناصر القوة في هذه الكيانات ونعمل على تفكيكها واحدة تلو الأخرى للكشف عن الفرامل المنسوجة داخل هذه العناصر .

ونبدأ بشعار: "الإسلام منهج حياة وبديل حضاري" وهو الشعار الذي حافظ على الوحدة الداخلية للمشروع الإسلامي من حيث كونه دين تغيير وإنماء مجتمعي وكوني لكنه مع الحركات الإسلامية لم يتجاوز مستوى الشعار ودور التعبئة والاستقطاب .

ما الإسلام ؟ سؤال بسيط لكنه محورى بالنسبة لحركات رشحت نفسها للدفاع عن هذا الدين وتجسيده وبالرغم من بساطته ومحوريته ستشعر بالإرهاق وأنت تبحث له عن إجابة واضحة وشاملة ضمن الأدبيات الكثيفة للإسلاميين ستجد ما يلي: إنه " خاتم الديانات " " الدين الحق " "كلمة الله للناس " "والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء والقدر " قواعد الإسلام الخمسة والترقي في درجات الإحسان وتنتهي بها التعريف إلى حيث بدأت " منهج الحياة " .

لا خلاف في أن الإسلام يشمل كل هذا لكن الاكتفاء به والحفاظ على طريقة عرضه لن يفيد في عصر يرتكز على المعني وأوجدت عشرات المناهج ليعطي للامعني بل معان وعندما تلقي العرب الوحي لم يكتفوا بدعوته العامة للتوحيد ؛

ولم يبقوا مشدودين إلى بنائه اللغوي ولم يبقي الرسول صلي الله عليه وسلم يتجول في الطرقات وينتقل بين المجالس ليردد كلمة واحدة " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " كما تدعي بعض الكتابات لقد تشكلت لدي العرب تدريجيا؛

جملة من المفاهيم الجديدة رجت العقائد الخرافية والتقاليد الموروثة لكنها بدأت تنسف من خلال ذلك نمطا مجتمعيا سائدا لتطيح بعلاقاته ومصالح فئاته الحاكمة وأخلاقيات الاقتصادية والاجتماعية ولينقله من وضع ما قبل الأمة والدولة إلى فضاءات كونية وحضارية لا عهد له بها من قبل أما اليوم فإن الخطاب الإسلامي في عمومه لم تتضح معالمه حتى لدي أصحابه فما بالك عند النخبة والجماهير ؛

ولهذا نراه لدي الإسلامي وعند غيره لا يخرج عن صورتين :

إما هيكلة ضبابية مشحونة بالعقيدة والطموح ويغمرها الشعار والتضامن والمنزع الأخلاقي ونقد الآخر وتوظيف الأزمة والانغماس في الممارسة بتضخيم فقه الحركة على الفكر والتحليل والمراهنة على الحلم والانتظار .
وإما هيكلة تاريخية مسكونة بالتراث كل حسب فرقته ومذهبه ومراجعته ومصادره حيث تتجمع من جديد معلومات عن أصول الدين وأصول الفقه لتختلط بالتصوف ورواية التاريخ رواية متقطعة وانتقائية مع " تجديد " في صيغ التعبير والإخراج .

وفي كلا الحالتين يبقي السلم مرابطا في مكانه يكتوي بأزمة التجارب التنموية الفاشلة وينتظر من يحول أحلامه المشروعة إلى حقائق ملموسة فالدين عنده ماض جميل لكنه غير قابل للتكرار والواقع لديه نار لم يقدر على إطفائها وأمامه غرب جميل لكنه مفترس .

النتيجة من جنس المشروع

إن افتقار الحركات الإسلامية إلى الوضوح والصلابة النظرية في مواجهة التحديات المعاصرة هو الذي يدفعها إلى نهايات ثلاثة :

  1. الانغماس في كتب التراث بحثا عن أجوبة لتساؤلات الحاضر فتقع بذلك في الانتقائية التاريخية وتعيش على حساب المجاد العلمية للسلف تدفع نفسها والمهتمين بها وخصومها إلى الانخراط من جديد في صراعات واهتمامات الماضي البعيد والقريب .
  2. تسطيح الصراع الفكري والأيديولوجي الدائرة بينها وبين بقية الأطراف المختلفين معها جزئيا أو جذريا ليس فقط بسبب إعادة طرح كميات ضخمة من إشكاليات الماضي ولكن أيضا بالمساهمة في تغذية حرب السباب والإقصاء التي يساهم فيها الجميع مما يكشف الدرجة التي وصلت إليها العلاقات داخل المجتمع الواحد لا إيمان إلا بالذات " الأنا " ولا مكان للمغايرة (أى للأخر) .
  3. وعندما تضغط الأحداث وتجد الحركات الإسلامية نفسها مضطرة للتعريف ببرنامجها الإصلاحي تعمد إلى التلويح بتطبيق الشريعة وتخوض معركة حامية الوطيس من أجل إقامة الحدود ومنع المحرمات كالخمر والميسر والحيلولة دون أحداث تغييرات في قوانين الأحوال الشخصية والقضاء على الربا بالعمل على إنشاء ما يسمي بالبنوط الإسلامية وشن الحملات الإعلامية والمسجدية ضد البرامج التلفزيون وبهذا تعمل الحركات إلى أقصي عطاءاتها الفكرية والسياسية أى الإفصاح عن بدائلها المجتمعية عندها لا تكون فقط قد كشفت عن محدودية فهمها للإسلام والتعقيدات الواقع المحلي والدولي الراهن ولكنها تحملت مسؤولية تلك الصورة المزرية التي يروجها الخصوم والشائعة جدا في أوساط جماهير المسلمين صورة المشروع الإسلامي وقد اختزل في مشاهد متفرقة : قطع أيدي تكسير قوارير الخمر جلد الزناة وملاحقة النساء لإجبارهن على لبس الخمار العودة إلى حياة الحريم . إلخ.

إن ما سبق عرضه يبين الفقر الفكري الذي تعاني منه الحركات الإسلامية رغم الامتلاء الظاهري للمكتبة الإسلامية إن فكرة هذه الحركات في حاجة إلى نقد عميق يغوص في خلفيات المفاهيم وأدوات التحليل إلى مراجعات وإعادة تأسيس يأخذ بعين الاعتبار في الآن نفسه خصوصيات الفكر الإسلامي وتحديات اللحظة الراهنة للزمان والمكان من تراكمات ومكاسب وصراعات وفضاءات .

حصاد التربية

ننتقل الآن الميزة الثانية للحركات الإسلامية والتي مثلت كما رأينا عنصر قوة وهي تركيزها على تربية الفرد وإعادة صياغة ذاته فالحركات الإسلامية هي من التنظيمات القليلة التي تحيط بأعضائها وتحدث فيهم تغييرات جوهرية لى كل جزئية من جزئيات حياتهم الشخصية .

وتدخلهم فعلا إلى " عالم متميز وحالم " لكنها بعد أن تصنع ذلك وتنجح فيه تبرز للوجود شخصية فردية قوية في جوانب تحمل ثغرات عميقة في جوانب أخرى من أهمها:

نظرة " مانوية" للعالم لا ترى فيه إلا خيرا وشرا وإيمانا وكفرا إسلاما وجاهلية أنصار وخصوما ضلالا وفسادا ونتيجة هذه النظرة بقوة إلى تنزيه الذات وتدنيس الآخر (الخصم – المجتمع - الحاكم - الدولة – بقية العالم )
فيفقد بذلك الفرد القدرة على التحليل والتفكير ويسقط من حسابه التضاريس التي لا يخلو منها كائن أو مجتمع أو وضح أو حتى خصم إن الحقيقة نسبية ولا يملكها إلا الله وقد وزعها على كل عبادة بنسب متفاوتة ليحتاجوا إلى بعضهم ويتكاملوا حتى وهم يتصارعون .

حرص شديد على التميز بترتيب عنه انفصال عن الواقع بتعقيداته وابتعاد عن هموم الناس ومشاغلهم وحياتهم اليومية وغالبا ما يتساءل الإسلاميون لماذا لا تحرك جماهير المسلمين ساكنا عندما يتعرضون هم إلى التعذيب والتشرد والقتل وينسون عزلتهم عن الناس الذي لا يحتكون بهم إلا في المسجد الذي لا يجمع كل الناس إن الجماهير تبدي التعاطف والالتحاق مع من يسندها في قضاياها اليومية

ويدافع حقا عن معاشها وحرياتها وحقوقها المسلوبة ويمد لها العون بدون من ولا ارتشاء سياسي أما من ينعتها بالجاهلية ويتسامي عليها ويدعو إلى عزلتها ويصفها بالعامة والغوغاء فبأي حق بعد ذلك أن يطلب منها العون والسند ؟...

طغيان خطاب " أخلاقي " يتسم بالعاطفة الوعظية فالإسلام عموما لا يفرق بين الأخلاق "الأخلاقوية" الخلاق قيم وضوابط لا تخلو منها دعوة جدية فما بالك بحركة إسلامية أما الأخلاقوية فهي "منهج" يفسر كل الظواهر والاجتماعية بالعامل الأخلاقي .

فتفسر الطبقية والاستغلال بحب المال والتعليق بالدنيا والاستبداد السياسي بفساد خلق الحاكم وميله للسيطرة والفساد الاجتماعي بتحرر المرأة ومشاركتها في المجتمع والتبعية الاقتصادية والسياسية بهمينة اليهودة على العالم عبر التفسير التآمري للتاريخ حتى شعر الإسلاميين نادرا ما يخلو من المباشرة والحماس الوعظي.

إن العامل الأخلاقي مساعد في شرح ظاهرة ما وإصلاحها لكن هناك عوامل أخرى لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار كالعامل الاقتصادي والخلفيات السياسية وموازين القوى والعامل الجغرافي والتاريخي إلى غير ذلك من العناصر التي بإسقاطها يختل التحليل العام ويفقد الخطاب عمقه وجديته ويتحول إلي وعظ وإرشاد إن الشعوب تمل من الوعظ وتكره الاستماع إلى الوعاظ إلا إذا أجبرت بل تشك في صدق كلامهم ونواياهم .

السعي للتماثل وتطابق الشخصيات بتضخيم مبدأ القدوة وتقليص الفردانية مما يترتب عنه نفي للمغايرة داخل الكيان الواحد من ذلك على سبيل المثال التخطيط المحكم لتحقيق وحدة التفكير إلى درجة تنظيم مطالعات الفرد وعدم السماح له بحرية الاحتكاك بمصادر الفكر المختلفة خوفا عليه من التأثر والانحراف وتكون النتيجة ضعف المستوى العام لأفراد في المجالات النظرية لأن حرية البحث والمبادرة والإطلاع بدون حواجز على المصادر المختلفة هو الأسلوب الأمثل للإبداع والنمو .

إن توحيد السلوك والتفكير والأذواق وتنظيم الحياة الفردية والمظهر العام وطرق التخاطب سياسة تناقض مع الحياة القائمة على التنوع والتكامل ومن الأشياء التي نادرا ما يقع الانتباه إليها ولم تخضع للتحليل العميق من قبل الإسلاميين الكيفية التي ربي بها الرسول صلي الله عليه وسلم أصحابه

إن عمر يختلف عن أبي بكر ،وعثمان يختلف عن علي ،وبلال مغاير بشكل واضح عن أبي ذر ،ونادرا أن نجد صحابيان احتك مباشرة وعن قرب بالنبي تتطابق شخصيته مع آخر عاش معه نفس الظروف وذلك بالرغم من وجود القدوة التي هي النموذج الأعلي كيف أنتجت القدوة الواحدة النماذج المختلفة والمتنوعة ضمن الإطار الفكري والقيمي الواحد ؟

هذا السؤال الذي يجب أن تتمحور حوله منابع التربية عند الإسلاميين فالرسول صلي الله عليه وسلم كان قدوة متعددة البعاد والمستويات وكان فعلا يفرغ صحابته ثم يملؤهم؟ كما قال أحدهم لكنه لم يكن يفرغهم ويملؤهم بنفس الطريقة إن المتتبع لسيرته يلاحظ أنه يتعامل معهم حالة بحالة يوحد قناعتهم وأهدافهم .

وفي نفس الوقت يحافظ على خصوصياتهم الفردية لهذا عندما يقيمهم كأشخاص يبرز ما يتميز به كل منهم عن أنس بن مالك قال:

قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر (المرونة) وأشدهم في أمر الله عمر (الصلابة السياسية) وأشدهم حياء عثمان (ليونة كبيرة وعدم مواجهة) وأقضاهم على (الحرص على العدل) وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل (بعد ضروري في مجتمع يحتكم للشريعة) وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرئهم أبي بن كعب ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسي عليه السلام في ورعه قال عمر: أفنعرف له ذلك يا رسول الله ؟ نعم فاعرفوا له (جرأة في قوله الحق دون أطماع شخصية) ".

سيادة النظرة التجزيئية للأخلاق حيث تتضخم المسائل السلوكية على حساب القيم العامة وتغليب الضوابط (قائمة المحرمات) على الدوافع (عالم الحلال الواسع) لهذا تجد الإسلامي أكثر حساسية لمشهد فيه مقدمات للزنا

من مشاهد أخرى تبرز التفاوت غير المبرر بين الناس والظلم الاجتماعي وتراه ميال لغض البصر أكثر من حرصه على فتح العيون واسعة لفهم ما يجري في المجتمع والكون كما هو أحرص على التحرك و ربما القتال من أن يقضي سنوات في تعميق مبحث أو مراجعة مسألة نظرية .

التنظيم سيف ذو حدين

"التنظيم " هو الميزة الثالثة والخيرة التي تحدثنا عنها في مطلع هذا النص وقلنا أنه بالرغم من اشتراك الحركات الإسلامية في فكرة التنظيم مع بقية التيارات السياسية إلا أن التنظيم لديها أبعاد ومضامين مغايرة لأنه يسبح في فضاءات مختلفة .

و " التنظيم " إن كان في إحدى وجوهه عاملا رئيسيا من عوامل القوة وقناة مركزية من قنوات إحياء المشاريع التاريخية (خاصة بالنسبة للحركات السنية) إلا أنه من جهة أخرى جر الكثير من الويلات في مستويين : العلاقات الداخلية والعلاقة بالأنظمة التي لا تزال تتميز بالتوتر والمواجهة .

وأول ما يجب القيام به قبل التعرض بنوع من التوسع إلى المستويين هو التوقف قليل عند الإشارة السابقة المتعلقة بتميز الحركة الإسلامية عن الحزب .ما هي الحركة الإسلامية من الناحية التنظيمية ؟

إنه ليس سؤالا شكليا ولا هو نوع من الحرص على التعقيد إنها مسألة مفاهيمية جد شكليا ولا هو نوع من الحرص على التعقيد إنها مسألة مفاهيمية جد هامة ونعتبرها مدهخلا لفهم سوسولوجي معرفي لطبيعة هذه الحركات ولمتابعة مضاعفات التنظيم عليها وعلى المجتمع إنها ليست مجرد حركة دينية كالطرق الصوفية مثلا أو التيارات الثقافية والاجتماعية التي تشكل عادة في جمعيات ونوادي لأداء وظائف محددة وهي أيضا ليست حزبا سياسيا عاديا سواء

إذا قارناها بالأحزاب في الغرب أو بما يسمي أحزاب عندنا وهي أيضا بعيدة عن أن تكون فرقة حسب المواصفات التي لازمت ولادة الفرق في تاريخنا الإسلامي لأنها عموما ليست صاحبة مدرسة متميزة في الكلام أو المذهب ولا شبه بينها وبين الطائفة لأنها لا تمثل انقطاعا عن المحيط العام للمجتمع لكن كل هذه الأبعاد نجدها بنسب مختلفة تتقاطع داخل الحركة الإسلامية

إنها أقرب إلى ("الجماعة -الحزب " أو " الظاهرة – التنظيم) فهي ليست مجرد تشكل سياسي يهدف إلى استلاف السلطة وإنما قراءة للدين والثقافة والمجتمع قد تجسدت في " نمط " من التربية وأشكال من التنظيم من أجل أهداف من شدة ضخامتها تصبح مبهمة لكنها توحي بالقطع مع السائد وتدعو إلي ولادة " جديدة – قديمة " وإلى موقف مستقبل

كما تعيد للذاكرة معالم المتعرجات الكبرى في التاريخ وفكرة الاحتكار الكامل للنفوذ والقوة لهذا لم يكن عفويا أن يثير حسن البنا هذا الإشكال فقد كان واعيا به لما رفض اعتبار "الإخوان المسلمين " حزبا من الأحزاب

بل لما رفض تعدد الأحزاب أصلا وسيد قطب كان أكثر وضوحا عندما دفع هذه الفكرة إلى أقصاها إلى درجة التوحيد بين التنظيم والمجتمع " فالجماعة " انتقلت من معناها التنظيمي الضيق إلى معني الأمة أو نواة الأمة (دار الإسلام مقابل دار الحرب) وذلك عبر استعادته التاريخية لتجربة النبوة .

(أ) العلاقات الداخلية:

لقد أوكلت مهمة التربية والتكوين في حدود المفاهيم التي تعرضنا لها سابقا إلى التنظيم وهكذا وجد " الجهاز " نفسه يتمتع بصلاحيات واسعة للتصرف في حياة الأفراد ومصيرهم
وليحقق ذلك يعمد إلى:
زرع الولاء الكلي إلى " الجماعة " إلى درجة جعلها فوق العائلة والمجتمع والوطن وعندما تصبح " الجماعة " كيانا بديلا عن المجتمع والوطن يحصل خلل فظيع في سلم الأولويات لدي الأفراد ويتولد التناقض بين الأبعاد: مصلحة التنظيم المجتمع أو الشعب البعد الإسلامي مقابل البعد الوطني .
تضخيم القيادة وتصغير القاعدة بإضفاء التسامي على " الأمير " وإيلائه مكانة خاصة وتمكين من صلاحيات استثنائية تتنافي مع الروح الجماعية فتصبح بذلك السلطة داخل التنظيم هي الاستمرار الضمني للسلطة التاريخية
أو إلى حد ما انعكاس غير إداري للأنظمة التي يحاربها الإسلاميون ويذهبون ضحيتها ويتضخم ذلك كلما ضاقت فرص الشوري وغابت اللوائح والقوانين الداخلية المحددة للصلاحيات وتباعدت المؤتمرات لأسباب شتى وقلت المؤسسات أو جمعت في أيدي عناصر قليلة واشتدت الأمية .
خلق ازدواجية تنظيمية: "سرية – علنية" أحزمة ونواة جناح مدني وجناح عسكري وهي ازدواجية لابد من أن تنعكس آثارها على الفرد وهو يتعامل مع المجتمع حيث يصاب بازدواجية أيضا في خطابه كلما حاول أن يكون ديمقراطيا في سلوكه السياسي كأن يجاري الناس في شعارات لا تقرها أصولها النظرية أو يؤمن بالتعددية الشاملة ويقر في الآن قتل المرتد؟.

(ب) العلاقة بالسلطة :

إذا أن الأنظمة عموما لا تهتم كثيرا بالأفكار و لا ترى فيها خطرا مباشرا لهذا تراها مستعدة لتبني جوانب من الخطاب لا تكلفها كثيرا ولا تؤثر على مصالحها الحيوية إن أهم ما يزعجها في الظاهرة الإسلامية تشكلاتها التنظيمية وميلها إلى السرية والتوسع التحتي وإمكانية لجوئها إلى العنف وإلحاحها على مسألة الحكم .
لهذا لم يخرج موقف الأنظمة من الحركات الإسلامية عن ثلاث تكتيكات:
القمع بشراسة سعيا للاستئصال وفصلا للقيادات عن القواعد وقطعا للخارج عن الداخل وتفجيرا لأجهزة التنظيم . غض الطرف إقرار الهدنة والاكتفاء بمراقبة الجسم عن كثب مع مناوشات من حين لآخر كعلامة للإشعار بالوجود .
التحالف والإيهام بتقاسم المشروع والنفوذ مع العمل على احتواء الحركة وترويضها عساها تحل تنظيمها أو تفقده المناعة .
فالتنظيم خلق مشاكل خطيرة للحركات الإسلامية وإذا كان من الصعب بل أحيانا من غير المفيد إقناعها بالتخلي نهائيا عن التنظيم إلا أنها ولا شك في حاجة ملحة جدا لمراجعة وتقويم تجاربها التنظيمية ومضطرة كذلك إن أرادت استثمار طاقاتها بشكل أفضل إلى ابتكار فلسفة جديدة للتنظيم تقوم على التعدد وتنمية المواهب والطاقات الفردية وتعميق وتأصيل الإسلامي في مجتمعه وغرسه في وطنه وبين الناس .
تنظيم يميل إلى الجبهات منه إلى النواتات الصلبة والغلقة ويقر بالاختلاف ولا ينزعج من الأجنحة التي تربطها قواسم مشتركة وتخوض بينها صراعات ديمقراطية حول البرامج والمواقف والتوجهات العامة على أن يحسم كل خلاف بالتصويت والأخذ برأي الأغلبية مع استمرار فعالية ومشروعية الأقلية .
تنظيم يكون محكوما بقيادة تقترب من الجماعة وتقل فيه السلطة الفردية وتقاوم فيه البيروقراطية يهوادة وتتصدر فيه الكفاءات بقطع النظر عن السن وتاريخ الانتماء وكثرة التهجد والمدة التي تم قضاءها في السجون .
تنظيم يبدأ من " الداخل " لينتهي في صلب الحركة العامة للمجتمع لا أن يصبح غاية في حد ذاتها تنظيم منفتح متفاعل دينامكي يغير تقاليده وبنيته باستمرار حسب متطلبات الواقع الموضوعي للشعب والوطن يحصل خلل فظيع في سلم الأولويات لدي الأفراد ويتولد التناقض بين الأبعاد مصلحة التنظيم مصلحة المجتمع أو الشعب البعد الإسلامي مقابل البعد الوطني .

البعد الذاتي هو الأصل

قد تبدو في هذا الحديث قسوة ظاهرة هو أمر طبيعي إذ كلما تعاظم شأن حركة , عرضت نفسها أكثر للنقد من داخلها وخارجها فما بالك بحركات تطرح نفسها بديلا عالميا وتضع في الرهان ليس فقط مئات الآلاف من أبنائها ؛

ولكن تطرح في الصراعات القطرية والدولية مستقبل الإسلام ذاته وإذا كانت انتقادات الخصوم للحركات الإسلامية لا تخلو من بعض الأهمية والأثر إلا أنها في الأغلب تسقط في الثلب والتشويه وتغييب الحقائق والإيجابيات إما عمدا وإما جهلا لكني من الذين يؤمنون بجدوي النقد الذاتي ؛

أى النقد الذي يولد وينمو ويتأسس من الداخل أى من داخل الكيانات فبرغم من الاهتزاز الذي يحدثه وردود الفعل التي تتبعه والنزعة الحماسية (الحماية عبر الإقصاء) التي تتعامل بها الحركات مع رموزه إلا أنه يبقي الطريق الوحيد والميثاق الفعال لإصلاح مسار هذه الحركات التي لم تعد دعوتها ملكا لنفسها وهذا النوع من النقد وإن بدت نواتاته تبرز وتتشكل هنا وهناك إلا أنه لم يحتل المساحات التي يجب بلوغها ولم يخترق المستويات والبني الأساسية للمشروع الفكري والحركي لهذه الكيانات

وإذا كان نقد الخصوم مهما اشتد واتسع لن يحول دون استثمار الحركات الإسلامية وحضورها المستقبلي كما تحدثنا عنه في بداية البحث فإن النقد الداخلي إذا صلب عوده وبلغ أبعاده وحقق أهدافه من شأنه أن يغير وجه هذه الحركات ؛

أو يخلق من صلبها من يرث الرسالة ولينقلها إلى فضاءات أرحب وتحالفات أصلب ومشاريع أعمق وبذلك ينتقل مستقبل الحركة الإسلامية من البقاء السلبي كإفراز هام من إفرازات الأزمة من تقوى بقوتها وتضعف بضعفها ليصبح بقاء إيجابيا وهو بقاء يتحقق بالاستقلال إلى حد ما من الأزمة وتجسد في تحكم الظاهرة الإسلامية في صنع مستقبلها انطلاقا من مبادرتها الذاتية وتنمية رصيدها الشعبي والتغيري واكتسابها للوعي التاريخي والوضوح الاستراتيجي .

من أجل الوضوح الاستراتيجي

إن كل رؤية مستقبلية للحركات الإسلامية لا تأخذ بعين الاعتبار عوائقها الذاتية لا يمكن أن تكون صائبة في استنتاجاتها وتوقعاتها كما أن هذه الحركات ذاتها إذا لم تنجح في تحويل نفسها إلى موضوع للبحث والنقد ولو بشكل نسبي فإنها مقدمة على مزيد من الهزات والنزيف

إن العوائق الذاتية التي تحدثنا عنها وتوقفنا عندها كثيرا ولخصناها في أبعاد ثلاثة :

الفكر والتربية والتنظيم يجب أن تحتل اهتماما مركزيا لدي الإسلاميين إذا أرادوا أن يؤهلوا أنفسهم للتحولات الخطيرة التي ستحصل في العالم بعد أقل من عشرين سنة وسيكون لها انعكاسات عميقة على المنطقة العربية والإسلامية
لكن وبالإضافة إلى ذلك هناك محاور أخرى ومؤسسات لا تقل أهمية على الحركات الإسلامية أن تشغل بها وتعمل على تحقيقها فجميعها مترابط ومتداخل بل نذهب أكثر من ذلك فنقول أن الأولي لا تتم إلا بالثانية ولا تتحقق المحاور الدولية إلا في ضوء مراجعة المحاور الذاتية أولي هذه المحاور بذل الجهود القصوي لاكتساب الوعي التاريخي والوضوح الإستراتيجي؛
إن العالم يتغير بسرعة مذهلة كل شئ فيه يتحول ويتبدل والمعلومات التحالفات وموازين القوى المفاهيم , المصالح القيم قواعد اللعب المناهج ومع ذلك لا تزال تحليلات الإسلاميين لأوضاع أقطارهم وبلدانهم ثابتة أو تكاد
وإذا كان اعتقاد جماعة " حزب التحرير الإسلامي في مركزية بريطانيا الدولية" المثال الأكثر فلكلورية فإن بقية الرؤى السائدة في الأدبيات الإسلامية خاصة في الساحة العربية لا تخلو من الضبابية والنظرة التجريدية والمثالية للسياسة والعالم إن إنشاء مراكز بحث مستقلة تجمع وتتابع التحولات الدولية في أهم المجالات مسألة حيوية لفهم العالم كما هو لا كما نتوهمه .

سياسة اليد الممدودة

المحور الثاني وطني يتعلق باستراتيجية الحركات الإسلامية داخل مجتمعات هذه الاستراتيجية التي يجب أن تراجع في ضوء مصالح الشعوب وأولويات المرحلة التاريخية لماذا يحافظ الإسلاميون دائما على عزلتهم ويعمدون إلى قطع صلاتهم ببقية القوي والفصائل الوطنية الأخرى بحجة التعارض العقائدي والتباين الفكري

فالحركات الإسلامية ترتكب خطأ عندما تضع مخالفيها في خانة واحدة وتعاملهم بنفس الأسلوب والحدية وتغفل التباينات الحاصلة بين هذه الأطراف من جهة والأهداف المشتركة التي يمكن أن تجمعها ظرفيا أو ربما على مدي بعيد مع جميعها أو بعضها ولا تقصد مجرد تقاطع في حملات انتخابية أو قتال مشترك في معركة جزئية (كما يحصل في لبنان) وإنما تعني تلاقيا في أهداف ومهام خدمة للبلاد والجماهير العريضة .

فالحريات الديمقراطية قضية مركزية تستوجب إقامة الجبهات العريضة من أجل تثبينها وحمايتها وتربية الشعوب على التمسك بها مهما كانت التضحيات .

ودفع حركة التنمية في اتجاه تقليص الفوارق وتخفيف حدة التبعية للخارج والنهوض بالزراعة وخلق مؤسسات التضامن الشعبي وكلها قضايا تحتاج إلى إرادة جماعية ومبادرات توحيدية وتخطيط مشترك .

إن القضاء على الأمية المتفشية في مجتمعاتنا كالسرطان (هذه المجتمعات التي كانت أولي كلمات كتابه المقدس " اقرأ" فريضة إسلامية ووطنية كيف يمكن أن تتصدر شعوبنا العالم ونسبة الأمية تصل أحيانا 9% رغم استقلال دولها منذ عشرات السنين .

تدعيم الهوية الحضارية من لغة وقيم عليا وتخفيف عقدة الدونية تجاه الغرب ومراجعته التعليم حتى يتصالح مع التاريخ الوطني للشعوب محور آخر مهم لمعارك مشتركة بين الإسلاميين وغيرهم خاصة القوميين إن هذين التيارين بالتحديد في حاجة لمراجعة تجاوبها الماضية وتتبع الملابسات التي حفت بولادة خصومتها على " الإخوان " أن يتخلصوا من عقدة الناصرية ومخلفاتها وعلى العروبيين أن يراجعوا العلاقة بين العروبة والإسلام إذ لا فكاك ولا تنازع بين جناحين لطائر واحد.

هذه بعض الأمثلة سقناها لدفع التفكير في اتجاه مراجعة العلاقات السياسية داخل المجتمع الواحد بين الإسلاميين وغيرهم وعليهم أن يبادروا بطرح التعاون لإنهاء الحرب الأهلية الصامتة في معظم المواقع والملتهبة في مواقع آخرى ولابد أن تتجاوز هذه المبادرات الإطار السياسي اليومي والظرفي وتكون مبادرات ذات أبعاد حضارية وثقافية واقتصادية مستمرة ودافعة .

تنمية عالمية الخيارات

أخيرا المحور الدولي فالحركات الإسلامية بحكم طبيعتها الأيديولوجية ليست مجرد تعبيرات قطرية إنها تحمل النداء التاريخي لتوحيد الأمة وهذا عامل رئيسي من العوامل التي تفسر ظاهرة اهتمام القوى العظمي بالحركات الإسلامية وملاحقتها عن قرب ومتابعة تطوراتها ودرجة نموها .

لكن وفي مقابل ذلك نجد العلاقات "الإسلامية – الإسلامية" ضعيفة ومشحونة بالتواترات والصراعات وعدم الثقة وقد تبلغ درجات من تبادل الاتهامات والتلاعن مالا يمكن صدوره عن جهات تؤمن برب واحد وتنتسب إلى رسالة خالدة

وإعادة تشكيل العلاقات الدولية لهذه الحركات تستوجب ما يلي :

بعث منظمة عالمية مستقلة عن الأنظمة والدول تجمع كل الحركات والتيارات الإسلامية لتداول أوضاعها العامة دون الدخول في قضاياها التنظيمية الخاصة ومثال ذلك "الرابطة الدولية للأحزاب الاشتراكية "

وليكن مقرها في إحدى العواصم الأوربية وتسهل في تمويلها كل الحركات حسب أقساط سنوية وتقام لها سكرتارية دائمة تتغير هيئتها المدبرة مرة كل سنتين مثلا تجنبا للاحتكار وتصبح هذه المنظمة إطار للتشاور وتنسيق المواقف وتذويب الخلافات وكسب التضامن الدولي واكتساب مواقع كأعضاء أو مراقبين في المنظمات والهيآت الدولية .

العمل الجدي على تجاوز الخلافات التاريخية ذات الصبغة المذهبية هذه الخلافات التي طالما استغلها الخصوم لكسر حلقات الوحدة بين العواصم الرئيسية للعالم الإسلامي : مصر ،الجزيرة العربية ،تركيا ،إيران ،إن الإشكال اليوم ليس في صحة هذا المذهب أو اعوجاج الآخر

وإنما بناء تصور إسلامي متكامل جديد يكون قادرا على إنهاء التخلف العام للمسلمين ويجب عن المعضلات الدولية الراهنة التي تهدد البشرية بالحروب والمجاعات وحتى الفناء إن معركة النصوص لابد أن تتطور لتصبح معارك أفكار ومقترحات وحلول وبرامج مشتركة ؛

وما دام الخلاف قابعا في أواخر القرون الأولي بين شيعة وسنة وخوارج جدد أى سجين إشكاليات الماضي البعيد فإن الضبابية التاريخية ستتواصل وسيتحمل الإسلاميون مسئولية نقل المنطقة إلى مزيد من التقسيمات الطائفية والنزاعات الهامشية .

وككل عمل يحتاج لقضية مركزية يجمع حولها الناس ولا يفترقون ولن يجد الإسلاميون قضية أفضل تجمع شملهم وتوحد صفوفهم وتذوب خلافاتهم مثل فلسطين فهي عورة انحطاط المسلمين وجرحهم النازف وكابوسهم المزعج .

واليوم يتزامن تنامي حضور الإسلاميين في أقطار مختلفة مع الانتفاضة المباركة التي أوقدها الشعب الفلسطيني بكل فصائله وأبنائه وانصهر فيها إسلاميون الضفة والقطاع بكل جدية وعطاء مما يوفر فرصة نادرة لإعادة طرح شعار فلسطين القضية المركزية للحركة الإسلامية ؛

والالتقاء من أجل ضبط خطة عالمية لدعم الانتفاضة ومؤازرة رجالها حتى النصر وستكتشف الإسلاميون لو فعلوا هذا الأهلية التي تحتلها هذه القضية في توازنات العالم المعاصر وكيف أنها المدخل للقضايا الحيوية الأخرى التي تتشكل بمقتضاها السياسة الدولية الراهنة .

هكذا يتبين التشابك والتكامل بين المسائل الذاتية المتعلقة بفكر الحركات الإسلامية وفلسفة تنظيماتها ومناهج تربيتها وبين مهامها الوطنية على المستوى القطري والحضارية على المستوى الدولي ولو أقدمت الحركات على إنجاز خطوات في هذه المسارات لتضاعف وزنها ولتغيرت علاقات الأطراف بها جوهريا ولأصبح مستقبلها فعلا ضرورة حضارية للأمة .

الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر

د. طارق البشري نائب رئيس مجلس الدولة

  • من مواليد أول نوفمبر سنة 1933 وتخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في مايو سنة 1953 بعد تخرجه عمل في مجلس الدولة المصري وهو هيئة قضائية تفصل في المنازعات التي تقوم بها الأفراد وبين الدولة أو أى من وزاراتها ومصالحها والمجلس يقوم أيضا بمهمة الافتاء لجهات الحكومة وهيئاتها ومراجعة مشروعات القوانين .
  • له عدد من الكتب والبحوث في التاريخ المصري والتاريخ العربي الإسلامي في المرحلة المعاصرة منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى الآن مع اهتمام خاص بالحركات السياسية التي نشأت في هذه المرحلة وبالتيارات الفكرية والسياسية
  • له عدد من الكتب من الحركات السياسية الشعبية في مصر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعن الأقباط والمسلمون في إطار الجماعة الوطنية وهي دراسة عن مؤسسات الدولة والتنظيمات السياسية بالنظر إلى العلاقة بين المسلمين والأقباط من بداية القرن التاسع عشر حتى الآن
  • ومجموعة دراسات وكتب عن النظام السياسي ونظام الدولة من بدايات القرن العشرين من حيث مدى الآثار المتبادلة بين التكوينات التنظيمية لمؤسسات الدولة والأهداف والمشاكل التاريخية والسياسية والاجتماعية خلال هذه الفترة .
  • وثمة دراسات في الفكر السياسي عن الإسلام والعروبة وعن الأوضاع التاريخية والسياسية التي أفضت إلى إزاحة الشريعة الإسلامية عن موقعها المهيمن على الشريعة في المجتمع الإسلامي .
  • وذلك فضلا عن دراسات تحت النشر عن مناهج النبات والتغير في فقه الشريعة الإسلامية و عن مؤسسات الحكم في الفقه الإسلامي وفي النظم الغربية .

الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر

أتصور أنه لكي نتلمّس رؤية المستقبل للحركة الإسلامية يحسن بنا أن نطالع ملامح الوعاء الزمني الذي تعمل فيه هذه الحركة والزمان المعاصر في تاريخنا يتكون من هذين القرنين الآخرين وقد شارف القرن الثاني منهما على نهايته وصرنا على مشارف قرن ثالث يبدأ معنا بملامح عينها التي صبغت تاريخنا المعاصر منذ بداية القرن التاسع عشر .

أما الحركة الإسلامية في بلادنا مهام جد متعددة ومتنوعة في مجالات الفكر والفقه والنظم السياسية والرؤي الحركية وفي تشييد المؤسسات ورسم العلاقات في هذه المجالات وغيرها أمامنا العديد من المشاكل منها على سبيل المثال مسألة التجديد مع المحافظة على الأصول والتجديد يعني التحركة الفكري والمحافظة على الأصول تعني الصمود ؛

ومنها الانفصال الحادث بين علوم الدين وعلوم الدنيا وهو انفصال طرأت تداعياته مما ألم بنا من توجهات الغرب في القرنين الأخريين وعلينا أن نعيد المزج والدمج بين هذه العلوم جميعا كما كان فقهاؤنا القدامي يعتبرون العبادات والمعاملات أبوابا من علم واحد .

ومن المشاكل أيضا تلك القطيعة بين الفكر والنظم الوافدة من الغرب والفكرة والنظم الموروثة وهي قطيعة تتعمق في وعي الناس عبر السنين ومن ذلك أيضا هذا الازدواج في بناء المؤسسات والنظم والهيئات سواء في التعليم أو في القضاء أو في مؤسسات الإدارة والحكم أو في الاقتصاد ومنه أيضا هذا التنوع الكبير للرؤي الإسلامية للواقع الراهن أو هذا الغموض الذي يعوق حسن إدراكنا للأوضاع المعيشية ولما يتعين علينا إتخاذه من الذرائع لحفظ الجماعة الإسلامية والنهوض بها .

ليس آخر تلك المشاكل مشكلة التفتت التي تعاني منها أوطاننا أى هذه التجربة الإقليمية والقطرية التي صرنا إليها عبر القرنين الأخيرين وما أدي إليه هذا الوضع من ظهور عناصر التباعد والتنافر في كل قطر إزاء غيره ؛

حتى تكونت عوائق ذاتية صارت تكبح نمو حركات التوحد العربي والإسلامي لأن التجزئة قد غايرت من أوضاع كل قطر إزاء غيره في أمور الاقتصاد والسياسة وبناء النظم والمؤسسات وهذه المغايرة تشكل عوائق أمام مساعدي التوحد متى وجدت تلك المساعي وحثيما وجدت .

إن تاريخنا المعاصر بدأ بحركتين للإصلاح كانتا متضاربتين ولم يكتب لها أثر عميق فيما عرفنا من بعد من وجوه الإصلاح .

أولي الحركتين كانت حركة التجديد الفقهي والفكري التي استفتحت بابن عبد الوهاب في نجد في القرن الثامن عشر (1703 -1791) تقوم على التوحيد المطلق وترفض فكرة الحلول والاتحاد وتؤكد مسؤولية الإنسان وتمنع التوسل بغير الله وتدعو لفتح باب الاجتهاد؛

ومظهر محمد بن نوح الغلاتي في المدينة (752 – 1803) كما ظهر ولي الدين الدهلوي في الهند (1702 -1762) وفي اليمن ظهر محمد بن علي الشوكاني (1758 – 1834) ثم الشهاب الألوسي في العراق (1802 – 1854) وفي المغرب ظهر محمد بن على السنوسي (1843 - 1885) .

ونلحظ أن هذه الدعوات التجديدية الإصلاحية كانت ظاهرة عامة من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا وإنه رغم الخلافات التي تبدو بين بعض هذه الدعوات وبعضها فهي جميعها تكون حركة تجديدية وهي جميعها تتفق اتفاقا عاما في دعوتها للتجديد ونبذ التقليد وفتح باب الاجتهاد .

ونحن إذا نظرنا إلى مناطق قيام هذه الحركات وجدناها تظهر في الهند والعراق شرقا وفي نجد واليمن والحجاز والسودان جنوبا وفي المغرب بالجزائر وليبيا غربا فهي حركة عامة ولكنها تتفادي منطقة القلب من الأمة الإسلامية بحسبان أن منطقة القلب من هذه الأمة كانت تتمركز في مجال الهيمنة المركزية للدول العثمانية في ذلك الوقت وهي المنطقة الممتدة على المحور من تركيا إلى الشام إلى مصر (استامبول – دمشق – القاهرة) .

وكان من الطبيعي أن تبقي منطقة المركز عصية على التغيير والتجديد لاستتباب المؤسسات التقليدية وعظم النفوذ المحافظ لهذه المؤسسات واتصالها جميعا بهيئات الحكم والسلطان ووجودها كلها في منطقة الضوء الساطع لدي أجهزة الدولة وكانت حركات التجديد الفقهي والفكري خليقة بأن تنمو ويزداد نفوذها؛

حتى في مجال نفوذ المؤسسات المركزية ولذلك لعظم الاحتياج للإصلاح الفكري وللتجديد الفقهي في ذلك الوقت ولأن ثمة شواهد تاريخية تشير إلى أن هذه الدعوات كانت مما يحسن قبوله لدي عامة المفكرين والمثقفين في مصر والشام ؛

ولو لم تواجه بمثل ما وجهت به من السلطة وثانية هاتين الحركتين كانت حركة الإصلاح المؤسسي التي قامت مع نهايات القرن الثامن عشر على امتداد محور السلطة المركزية للدولة العثمانية بين استامبول والقاهرة .

استفتحت هذه الحركة بسعي السلطان سليم الثالث لإعادة بناء الجيش العثماني على الطراز الجديد وذلك بغية التمكن من مواجهة الأخطار الفعلية المحدقة بالدولة العثمانية سواء من روسيا القيصرية في الشمال أو من الإنجليز بأسطولهم في البحر المتوسط أو من سائر الدولة الأوربية الكبرى في ذلك الوقت

وتلت حركة سليم الثالث الفاشلة حركة السلطان محمود الثاني (1808 -1840) وحركة محمد على من مصر (1805 – 1848) وقامت هذه الحركات بمناسبة وقائع الغزو الأوروبي لأرض المسلمين بخاصة وللشرق بعامة .

ولم يبدأ تاريخنا المعاصر إلا وكان قد أحكم الحصار حولنا اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح الذي أدّى إلى تطويق العالم الإسلامي من الجنوب والشرق و فضلا عن الغرب والشمال ونحن نذكر توسعات روسيا القيصرية في آسيا الوسطي وسيطرتها على بلدان "ما وراء النهر " ودخول بخاري وطشقند وسمرقند في حوزتها؛

ثم حروبها ضد الدولة العثمانية بالزحف عليها من الشمال كما نعرف سيطرة الإنجليز على الهند ووصول هولندا إلى جزر الهند الشرقية ثم صعود الإنجليز من الهند شمالا إلى أواسط آسيا .

وبعد تمام حركة الحصار الغربي بدأت عمليات غزو القلب مع نهايات القرن الثامن عشر وعلى مدي القرن التاسع عشر ومن أبرز ملامحها حملة نابليون على مصر في 1798 التي كان يستهدف منها الاستيلاء على مصر وأرض الشام كلها

ثم استيلاء الإنجليز على عدن 1839 واستيلاء فرنسا على الجزائر في 1830 ثم على تونس في 1881 واستيلاء الإنجليز على مصر في 1882 ثم على السودان في 1899 واستيلاء إيطاليا على ليبيا في 1912 واستيلاء فرنسا على المغرب في السنة نفسها ثم اقتسام الشام والعراق بين بريطانيا وفرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي في 1918 وهكذا تقطعت البلاد شلوا شلوا مما كان له أثره العميق من بعد .

كان من الطبيعي أن تلفت هذه المخاطر أقصي انتباه من رجال الدولة والقائمين على الحكم وأن توقظ فيهم الشعور بالحاجة إلى الإصلاح وهم المسؤولون عن الرباط وحماية الثغور والدفاع عن الحوزة ورجال الحكم رجال عمل وتصدي تلفتهم المشاكل العملية ويبادرون في التصدي بها بالحلول العملية ووجوه الإصلاح والتجديد التي يهتمون بها هي ما يتصل مباشرة بما نسميه الآن " شؤون الأمن القومي " ونقطة البداية في ذلك مؤسسة الدفاع عن الديار وهي الجيش وفي هذا يتفق سليم الثالث مع محمود الثاني مع محمد علي .

وإذا بدأ الإصلاح في مجال الجيش , فإنه يبدأ أول ما يبدأ إصلاحا في استخدام آلات القتال كالمدافع وغيرها وإدخال أدوات القتال الحديثة يستدعي إدخال لابد من الاستفادة من خبرة الخصم الذي ثبت تفوقه فيهما

كما أن هذين المجالين يستدعيان إدخال أنماط جديدة من التعليم تتعلق بعلوم الصنائع وفنونها مما يمكن من الاستخدام الأمثل والسيطرة على وسائل الحرب الجديدة سواء الآلات وصناعتها وتركيبها واستخراجها أو التنظيمات التي يتحقق بها التنسيق الأمثل .

كل هذه المهام يقوم على تحقيقها رجال دولة ومديرو أعمال ومنفذو سياسات وهم بحكم نوع أعمالهم وخبراتهم ذوو حسن عملي مباشر ولا ينشغلون كثيرا بالجوانب النظرية والفكرية ثم إن الضرورة تستدعي منهم سرعة في التحرك والتنفيذ لمواجهة المخاطر الخارجية أولا وللمناورة والالتفاف على القوي التقليدية في الجيش وفي مراكز الدولة ثانيا .

جماع هذه الأوضاع ألجأ حكام ذلك الزمان إلى أن يتوسلوا للإصلاح بإنشاء ما يمكن أن نسميه " المؤسسات البديلة " فلم يهتموا بأن يتبنوا حركة تجديد شامل للجماعة والمؤسسات المختلفة ولم يهتموا بأن يظهر الجديد انبثاقا من القديم إنما أبقوا القديم على حاله من القدم فكرا ومؤسسات ورجالا أبقوه على ركوده وأنشأوا بجانبه المؤسسات الجديدة برجال آخرين وفكر آخر .

ولم يجر ذلك منهم استجابة لضرورات السرعة في التنفيذ فقط , ولكنه جري تجنبا للخلاف والصراع مع مؤسسات تقليدية كانت هي نفسها من ركائز الحكم ومن أعمدة قيامه ودعامات استقراره وذلك سواء في الجيش أو في التعليم أو في الفكر أو الإدارة المدنية .

فبقي الجيش القديم وأنشئت بجواره فرق جديدة وبقي التعليم التقليدي وأقيمت بجانبه مدارس حديثة وهكذا وصار هذا الازدواج منهجا وتقليدا سواء في السياسات المنفذة أو في بناء عقلية الحكام المصلحين في بلادنا ثم صار منهجا يترسم علي وجه التلقائية في إنفاذ مطالب الإصلاح في المجالات المختلفة .

وثمن ملاحظتان يمكن الإشارة إليها هنا فإن هذا الازدواج الذي حدث بين المؤسسات القديمة والحديثة ولم يكن من شأنه وحده أن يقيم صدعا في الجماعة أو في البيئة الاجتماعية أو الهياكل الفكرية لو أن الأمور جرت على منوالها كان الأرجح أن يتفاعل الطرفان ويتبادلون التغذية على المدى الزماني الأطول؛

ولكن الذي حدث أنه ما أن ظهر هذا الازدواج حتى بدأ يتسرب إلينا النفوذ الأوروبي في الكثير من المجالات والأنشطة ووجد هذا النفوذ فيما وفد علينا من مؤسسات غربية كالبنوك ومن نظم التعامل القانوني ومن فكر وعقائد؛

ووجدت هذه المؤسسات والنظم والأفكار الوافدة وجدت في الازدواج الحادث ظرفا مواتيا ورؤوس جسور لتلك النظم والأفكار الوافدة فسرعان ما ظلت هذه المؤسسة الحديثة وصرفتها عن هدفها الأصلي الخادم لحركة المقاومة الحديثة ضد مخاطر الغزو الغربي ووجهتها وجهة التلقي والتابعية والتثبيت للنفوذ الغربي بعامة

وتضرب لذلك المثل بالمقارنة السريعة لمدارس محمد على الحديثة التي أنشئت لتغذي الجيش المحارب وتقتصر على تدريس علوم الصنائع وفنونها كالهندسة والطب والحربية ... الخ

وبين مدارس الخديوي إسماعيل والاحتلال البريطاني مع نهاية القرن التاسع عشر التي صرفت همها عن تلك العلوم إلى تدريس الآداب والنظم القانونية الوافدة ... الخ ونلحظ ذلك أيضا في المقارنة المماثلة بين بعثات محمد على في أوائل القرن الماضي وبعثات الاحتلال البريطاني في أواخر ذلك القرن .

وثانية الملاحظتين أن عامل الخطر الخارجي كان هو السبب في كل الظواهر السابقة هذا الخطر الخارجي الحالي ذو الوقائع الممتدة عبر سنين القرن التاسع عشر هو ما به توقفت حركة الإصلاح الفكري والفقهي التي سبقت الإشارة إليها لأن مجال التجديد في الفكر والفقه كان يجري مكافحة للمؤسسات المحافظة

ولأن قيام الخطر الخارجي المهدد لأمن الجماعة كلها من شأنه أن ينحي المشاكل الداخلية ويبعدها عن بؤرة الاهتمام ومن شأن أن يلقي على سلطات الحكم والمؤسسات الحاكمة مهام الدفاع عن الجماعة وحماية الحوزة مما يستدعي من الكافة المساندة والالتفاف وإرجاء خلافات الداخل وهذا ما حدث منذ اشتعلت المخاطر الخارجية في بدايات القرن التاسع عشر إذ ذوت مع حركة الإصلاح الفكري على مدي النصف أو الثلثين من بدايات ذلك القرن .

وهو ذاته هذا الخطر الخارجي الذي استدعي أسلوبا عاجلا سريعا عمليا للإصلاح اعتمد على بناء مؤسسات جديدة موازية للقديم دون أن تظهر منها ودون أن يصاحبه هذا الإصلاح حركة فكرية وحركة إحياء للقديم تواكبها وتنتقل بالمجتمع كله من حال قديم إلى حال جديد ناهض تنسجم هياكله وأبنيته وتتكامل في أداء وظيفي واحد وهو ذاته الخطر الخارجي الذي احتل بنفوذه سائر المؤسسات المحدثة وغير من وظائفها ليجعلها باسم الحداثة قواعد تثبيت التبعية له في المجتمعات المفردة .

والحال أن لم تفتقر حركة الإصلاح المؤسسي (الجيش والدولة ... الخ) دعم حركة الإصلاح الفقهي والفكري فقط ولكنها حاربتها وعملت على تصفيتها وهذا ما كان من مسلك استانبول (محمود الثاني) والقاهرة (محمد على) من الحركة الوهابية في 1811 .

لذلك كان من نتائج هذه الفترة نوع من الانفصام بين حركة الإصلاح المؤسسي وحركة الإصلاح الفكري , ونوع من الإزدواج بين الأبنية التقليدية نظما وفكرا وبين الأبنية الحديثة نظما وفكرا فصار القديم أبتر مقطوعا لم يفض إلى جديد من نوعه ومن مادته ومائه؛

وصار الجديد أجنبيا لقيطا وفد من نسق عقيدي آخر ومن أوضاع اجتماعية وتاريخية مختلفة وما حل القرن العشرين حتى كانت البيئة الاجتماعية والفكرية قد انصدعت بين قرن أبتر وقرن لقيط أعقبه وهذا ما ورثناه حتى اليوم وما تواجهه الحركة الإسلامية لتتعامل مع مجتمع مصدوع عليها أن تلائم صدعه وأن تجدد قديمه وتؤصل حديثه .

وفي ظل هذا الظرف أتت الموجة التجديدية الثانية جاءت من المناطق التي عرفت من قبل بمناطق القلب والتي آلت مع نهايات القرن التاسع عشر إلى الغزو والاحتلال الأجنبي واستفتحت برجال مثل جمال الدين الأفغاني (1939 – 1869) ومحمد عبده (1849 -1905) ومحمد رشيد رضا (1965 -1935)

وفي الوقت ذاته صار للتيار المحافظ وظيفة جد هامة تتعلق بالوقوف دفاعا عن أصول العقيدة وثوابتها في وجه رباح الغزو العاتية التي لم تترك أخضر ولا يابس وشملت الفكر والعقائد والعوائد وأساليب العيش ..الخ .

لقد صار على الحركة الإسلامية في عمومها وبمجدديها ومحافظيها أن تواجه أوضاعا متعددة تستدعي مواقف فكرية متباينة فهي لم تعد تواجه ما كان يواجهه ابن عبد الوهاب من تعصب مذهبي وبدع وخرافات وهي لم تعد تواجه أخطار الاحتلال العسكري الغربي لأراضي المسلمين إنما صارت تواجه مع كل ذلك وفضلا عنه

موجات من " التبشير " تقوم به بعثات مسيحية أوروبية وأمريكية وتواجه أفكار الفلسفات المادية واللا دينية ونزعة التغريب في وسائل العيش والأساليب والعلاقات الاجتماعية هذا وفي ظني هو المنشأ التاريخي الحديث للتحديات التي تواجه الحركة الإسلامية فكرا وعملا

وهي التحديات التي أشير إليها في صدر هذا المقال استحسنت أن أعرضها في سيايقها التاريخي وأنا الآن أحاول أن أعرض حصيلة لتصدي الحركة الإسلامية لهذه المشاكل أعرضها في سياقها التاريخي الواقعي أيضا .

ففي ظني أن الفكر الإسلامي الحديث تكون بالتراكم الحميد عبر عشرات السنين التي مضت من نهايات القرن الماضي , وهو تكون من جهود عدد غير محصور من المفكرين والقادة والمصلحين وهو فكر شيد وتراصت لبناته تحت خط النار وبنيت قلاعه وسط قصف مدافع الخصوم .ونذكر هنا في عجلة الملامح العامة لحركة تراكم الفكر السياسي الإسلامي في المرحلة التاريخية المعاصرة .

ونحن إذ نختار هذا " الطريق التاريخي " لعرض مفردات الفكر السياسي الإسلامي في زماننا إنما نفعل ذلك وأعيننا على الحاضر ولنوضح الظرف التاريخي الذي نبتت فيه أى ثمرة من ثمار هذا الفكر وهذا يلقي الضوء على هذا " المفصل " الذي يصل الفكر الواقع من حيث الأعمال والمقاصد أى من حيث مدي احتياج جماعة المسلمين لفكرة حركية وملائمة في لحظة بعينها ومن حيث توظيف هذه الفكرة لصالح الإسلام وجماعته في مرحلة ما .

وهذا يوضح أيضا أن كثيرا مما نعتبره خلافا في الرأي فنقف إزاءه متواجهين متقابلين كان أساسه اختلاف الزمان أو المكان ولم يكن خلاف حجة وبرهان وإيضاح هذا الأمر من شأنه أن يقرب بين المتخالفين وألا يجعلهم في موقف المواجهة والمقابلة؛

إنما يجعلهم أعرف بأن ثمة حقائق إسلامية عليا ومصالح إسلامية عليا ونحن وكل في زمانه ومكانه نتوسل إلى رعايتها وصيانتها وإعلائها بالعديد من المواقف الفكرية والحركية التي تتباين بتباين الظروف والأوضاع ومن هنا ندرك أن كثيرا مما نسميه اختلافا هو إلى التنوع أقرب . وكل ذلك يزيدنا بإذن الله غني ومرونة في إدراك وجوه الرأي وفي التعامل به مع الواقع إعلاء للصالح الإسلامي العام .

إن لواقعنا التاريخي الحاضر جانبين . هما وفقا لتعبيرات "مالك بن نبي" الاستعمار والقابلية للاستعمار وأنا أقصد بالاستعمار العدوان الآتي إلينا من الخارج عسكريا كان أو سياسيا أو اقتصاديا أو فكريا أى هو أثر الخارج فينا متى كان هذا الأثر يجري بغير رضانا ولغير صالحنا .

كما أقصد بالقابلية للاستعمار هذا الوضع الذي نكون عليه والذي يمكن من غلبة الغير لنا أي هو ما تتصف به في وقت ما من الضعف أو الفقر أو الاضطراب أو الوهن أو الجهل أو التضارب أو غير ذلك مما يكون سببا في غلبة الطامعين فينا على أمرنا .

وبهذا تجد أن جمال الدين الأفغاني وضع اللبنات الأولي في فكرنا الإسلامي الحديث "المقاومة للاستعمار " وأن محمد عبده وضع اللبنات الأولي في هذا الفكرة "المقاومة للقابلية للاستعمار ".

لقد انشغل جمال الدين بأمر " وحدة المسلمين " ليمكنهم الوقوف في وجه ما يتهددهم من أطماع الدول الأوروبية والغربية ودعا لنبذ الخصومة بين السنة والشيعة ليمكن تأليف السلطتين الإسلاميتين الكبيرتين في وقته وهما سلطتا استانبول وإيران بعد أن كانت ذهبت دولة الهند الإسلامية أدراج الرياح ؛

ومن أهم ما أكد عليه هو طرح ولاية الأجنبي عن المسلمين بحسبانه الركن الأعظم للإسلام فوحدة الجماعة الإسلامية وحدة موظفة إلى مقاومة الاحتلال ونبذ الولاية الأجنبية واعتبار ذلك هو الركن الأعظم للإسلام في وقتنا هذه النقطة تنطوى على جوهر دعوة جمال الدين وجوهر ما أرسي في الفكر السياسي الإسلامي الحديث .

وأهم ما أريد الإشارة إليه هنا ذلك الجدل الذي كان يثور كل حين حول موضوع مقاومة الاستعمار وإجلائه وموضوع الأخذ بأسباب النهوض ومعالجة أسباب الضعف بأى هذين الموضوعين نبدأ ولأيهما تكون الأولوية في اهتمامنا وتحركنا .

والقائلون بأولوية الاستعداد لمكافحة الاستعمار يستندون إلى أن وجود الاستعمار يرتب مجموعة من السياسات التي تتخذ لصالح بقائه فوجوده واستمرار بقائه يضعف فين أسباب مقاومته ويقضي على إمكانيات النهوض ضده أو النهوض لتحقيق أى زمل مرتجي في المستقبل .

والقائلون بأولوية بناء القوة الذاتية وانضاج أسباب النهوض ومعالجة نواحي الضعف إنما يستندون إلى أن ضعفنا الذاتي هو الذي سبب نجاح الاستعمار ضدنا ونحن لم نستطع أن نقاوم غزوه لأننا كنا ضعافا ولأننا كنا ضعافا ولأننا ضعاف فلن ننجح في إخراجه وإذا حدث أن خرج مع بقاء ضعفنا فسيعاود الكرة علينا أو يعاودها غيره .

وفي ظني أن هذا الجدل يقوم على خيار خاطئ لأنه يجري تمييزا بين أمرين كلاهما لازم أو أنه يقيم أولوية بين الواحد منهما تجاه الآخر رغم أنهما ذوي أولوية واحدة ذلك أنهما معا شرطان للنهوض والتقدم والاستقلال بوصف ذلك كله عملية واحدة ولأن كلا منهما لازم للآخر ملزوم منه... ومتى كان الأمر كذلك فليس من الصواب أن نطرح سؤالا مفاده أن أيهما أنفع وبأيهما نبدأ ..

وعلينا أن نتسلح بالنظرة التكاملية التي تنظر إلى العناصر المتنوعة في تكاملها وليس في تنافرها . وأن الخيار الذي يطرح على الناس في وقت معين والذي يتعلق بما يبدأ به من هذه العناصر إنما تؤثر فيه وقد تتحكم فيه ظروف اللحظة التي يطرح فيها الأمر؛

والاختيار الصائب هو الاختيار الذي يتلاءم مع ما تتطلبه اللحظة التاريخية ذاتها ومدى ملاءمة عنصر ما إنما تقاس مدي إمكان تحققه في ظرف معين أو بمدي ما يترتب عليه من أثر مطلوب في هذه اللحظة فالملائمة نجد حديها في الإمكانية والتوظيف لذلك فنحن في الحقيقة لا نختار عندما نختارهما بين بديلين كما لو كان سلعتين معروضتين في واجهة أحد المحال التجارية إنما ننظر في الممكن والمؤثر في اللحظة التاريخية المعنية .

وجمال الدين عندما كان يهيئ المسلمين ويستحمسهم لمقاومة الاستعمار في كل من مصر وفارس والهند واستانبول إنما كان يصنع ذلك في ظروف تدفق موجات الغزو الاستعماري على ديارنا في كل هذه الأقطار وفي مثل هذه اللحظات فإن الخيار الوحيد المجدي هو الاحتشاد والتجمع للمقاومة وقد ساهم محمد عبده بقدر في هذا العمل عندما نشط مع أستاذه جمال الدين وقتها .

ولكن لا شك أن جهد الرجلين لم يكن متماثلا وكان تركيب كل منهم النفسي والوجداني والفكري متلائما مع المهمة التي قام بها جمال الدين في مقاومة الاستعمار ومحمد عبده في مقاومة القابلية للاستعمار وقد بدأ محمد عبده نشاطه الذي تميز به بعد تمام احتلال الإنجليز لمصر في 1882

وقد أبعد عن مصر سنوات ثم عاد بعد أن تمكن منها الاحتلال البريطاني ولم يعد من بين الخيارات المطروحة في التسعينيات من القرن التاسع عشر أن تنحشد القوى لطرد الاحتلال ولم يعد ثمة خيار غير العمل الدائب لمقاومة القابلية للاستعمار ومن هنا جاءت جدوى ما صنع محمد عبده ؛

وقد اعتني ما رآه من ازدواج يفصم الحياة الاجتماعية وتبدت أهم ظواهره في مجال القانون والتشريع ومجال التعليم وهنا صارت دعوة الاجتهاد والتجديد لصيغة يهدف تفتيق الفكر الإسلامي وفقهه ليستجيب لمطالب النهوض والصحوة وليلتئم الصدع الحادث في مؤسسات المجتمع فيمكن القضاء على الازدواج الحادث في المؤسسات .

وصار محمد رشيد رضا امتداد لدعوة محمد عبده خلال الثلاثين عاما التي أعقبت وفاة محمد عبده في 1905 إلا أنه امتداد له تميزه وتنوعه واستجابته للأوضاع المتغيرة على مدي هذه السنين فقد سارت اجتهاداته أكثر اتصالا بفكر ابن تيمية ومن ثم قويت الآصرة أثر عميق في تحقق الملاءمة بين الأصالة الشرعية وبين استشراف أوضاع الواقع المعيش

كما كان السيد محمد رشيد رضا أوغل في السياسات العملية سواء العربية أو الإسلامية من الإمام محمد عبده واكتمل لديه منهج التفسير المجدد للقرآن مع الربط بين قضايا الفقه وقضايا السياسة ذلك لأنه عاصر من الأحداث التالية لمحمد عبده ما كان يحتاج لهذه الانشغال بهذه السياسات الوطنية

مثل تصفية الدولة العثمانية وتقسيم بلاد الشام والعراق بين الإنجليز والفرنسيين وظهور الصهيونية في بداية القرن العشرين كانت الحركة الوطنية في بلادنا مرتبطة بالإسلام لا تكاد تنفصل وكانت شعوبنا العربية الإسلامية وهي تقاوم الاستعمار إنما تنهض تحت راية الإسلام وتتجمع تحت جناحيه وتكافح به الاحتلال الأجنبي وظلم الاستبداد .

ومن ذلك حركات الجزائرى في الجزائر والخطابي في المغرب والسنوسي في ليبيا والمهدي في السودان وابن عبد الوهاب في الجزيرة وحتى حركة مصطفي كامل في مصر تنتمي إلى هذا الاتجاه الذي لا يفرق بين الإسلام وبين حركات مقاومة الاحتلال والاستبداد ولم تكن التكوينات الثقافية والاجتماعية المتأثرة بالفكر الغربي لم تكن تتجاوز بعض النخب السياسية من كبار رجالات المجتمع ذوي المناصب الكبيرة ؛

ولكن ما لبثت هذه التكوينات أن اتسعت وتكاثر ناسها بسبب نظام التعليم الحديث الذي لم يكتف بإدخال العلوم الحديث في الصنائع وفنونها كالفيزياء والكيمياء وغيرهما ؛

ولم يكتف بإدخال اللغات الأوروبية ولكنه نظام أسس على نمط علماني يفصل علوم الدين عن علوم الدنيا وهموم على أساس من فلسفات الغرب والسبب الثاني يتعلق بانتشار الفكر الأوروبي الفلسفي والاجتماعي ونظرياته بين صفوة المثقفين المتخرجين من هذه المدارس أو من المبعوثين إلى الخارج ثم هنا سبب ثالث يتعلق بوجود المجلات الشهرية والكتب التي بدأت تظهر لتروج لهذه الأفكار وتقيم قواعد إحلال فكري ونظري تعارض أسس الفكر التقليدي .

ولم تكد تنتهي الحرب العالمية الأولي ( 1914 -1918) حتى كانت الدولة العثمانية قد صفيت : وحل محلها دولة تركيا الحديث التي ألغت الخلافة الإسلامية واتخذت إجراءات بالغة الحدة لتصفية كل أثر للإسلام في تلك الديار كنظام للحياة وأساس للشرعية الاجتماعية والسياسية فيها

وكان لذلك وقع الصدمة الشديدة على المسلمين في العالم أجمع ألما من ذهاب دولة بني عثمان ولكن ألما من تلك الظروف التي نقضت عقد المسلمين وشتت شملهم , فلم يعودوا يرون جهة أو هيئة يتجهون إليها كجامع لهم وفي الوقت نفسه احتلت القوات الأوروبية ما كان لم يحتل بعد من أرض العرب والمسلمين واقتسموها فيما بينهم وخاصة أرض الشام والعراق كما سبقت الإشارة .

وفي هذا الوقت ظهر عديد من الحركات الوطنية في العالم الإسلامي كمصر وفي غيره كالصين والهند وكذلك حركات المقاومة في البلاد حديثة العهد بالاحتلال كسوريا والعراق كانت القوى الأساسية التي قادت هذه الحركات من أبناء المؤسسات الحديثة في التعليم وممن تربوا على أسس علمانية بعيدة عن المؤسسات الدينية التقليدية .

وقد تكاتفت هذه العوامل لتضع الحركات من أبناء المؤسسات الحديثة في التعليم وممن تربو على أسس علمانية بعيدة عن المؤسسات الدينية التقليدية وقد تكاتفت هذه العوامل لتضع الحركات الوطنية التي ظهرت في هذه المرحلة الوطنية التي ظهرت في هذه المرحلة بصورة علمانية فهي تعمل على إجلاء المحتل وتطالب بالاستقلال السياسي ولكنها ترسم لمستقبل بلادها صورا مستمدة من أنماط النظم الاجتماعية السائدة في الغرب, وتستهدف بناء نظم وضعية بعيدة عن الفكر الديني وعن أصول الشرعية الدينية .

وفي البداية اندمج التوجه الإسلامي ورجاله في هذه الحركات بحسبان أن مقاومة الناصب الأجنبي أولي في الاعتبار وأن إجلاء يفيد القوي الوطنية كلها وإن المتتبع للحركات الوطنية في هذه المرحلة من بداية العشرينيات من القرن العشرين ’ يلحظ اتصالا قويا للعناصر ذات التوجه الإسلامي بهذه الحركات ومشاركة فعالة فيها .

ولكن مع نهاية العشرينيات بدا أن الفكر العلماني يعمل بإصرار أن يسيطر على أوضاع المجتمع كلها وأن يصوغ المؤسسات الاجتماعية والفكرية ومؤسسات الدولة بطابعه ويعمل على أن يفصل الإسلامي عن أوضاع المجتمع لينشئ نظاما علمانيا صرفا ويكمل النظام العلماني الذي كان بدأ مع نهايات القرن التاسع عشر وبدأ دعوة صريحة جهيدة تطالب بتنحية الإسلام عن نظم الحياة كافة .

وفي الوقت نفسه تحررت حركات التبشير المسيحي الأوروبية والأمريكية من خوفها إزاء المسلمين كانت هذه الحركات قد وفت إلى أقطارنا منذ منتصف القرن التاسع عشر وكانت وقتها تنشط بين "المسيحيين الشرقيين " من مواطنينا سعيا لأن تبني لها قواعد بشرية موالية لها ؛

وقد أثار ذلك المسيحيين الشرقيين وحفزهم لمقاومة هذا النشاط ولم تكن هذه البعثات في ذلك الوقت تجرؤ على أن تقترب بنشاطها من المسلمين هذا البحر الواسع الذي إذا هاج فقد يبتلع تلك البعثات في قراره السحيق ويزيد المسلمين غضبا وحدة في مقاومتهم أى نفوذ غربي .

ولكن تغير هذا الموقف بعد الحرب العالمية الأولي إذا انتقص عقد الخلافة الإسلامية ونشأت نظم علمانية في بلادنا وتبنت قيادات دولنا وقيادات حركاتنا الوطنية هذه النظم الوافدة وبات الإسلام مجردا من سيفه بعيدا عن سياسة الحكومات وكل ذلك شجع حركات التبشير أن تعمل بين المسلمين وانعكس ذلك في مؤتمر المبشرين بالقدس في 1924 الذي ارتفع فيه شعار:" تنصير العالم في جيل واحد "

وقد قوبل هذا النشاط بصدود شديد من المسلمين وإن الأفراد المعدودين القليلين جدا الذين استجابوا لبعثات التبشير بسبب يتم أو مرض سواء في مصر أو في بلاد الشام أو في تركيا هذه الحالات المحدودة قد أقامت أعاصير احتجاج بين المسلمين وحفزت روح المقاومة في الجسد الإسلامي الكبير.

ورغم هذه الصحوة للروح الإسلامية سياسات الصهاينة اليهود في أرض فلسطين وفلسطين أرض القدس والمسجد الأقصي وهي إن أهاجت الحس العربي فإنها تثير معه وأقوي الحس الإسلامي تجاه بلد فيه أولي القبلتين وثالث المساجد التي يشد إليها الرجال وفيها معراج البراق

ثم هناك أيضا رد الفعل الإسلامي إزاء ما اتخذته السلطات الفرنسية في المغرب العربي من إجراءات لعزل البربر المغاربة عن الإسلام وإبعادهم عن أحكام الشريعة الإسلامية .

في هذه الظروف واستجابة لها ظهر الشيخ حسن البنا بحركة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 لقد سبقت جمعية الشبان المسلمين (1927) ظهور حركة الإخوان وقام عديد من رجالات الدعوة الإسلامية بدورهم من قبل ولكن حسن البنا وجماعته كانا هما الاستجابة الأكثر وضوحا والأكثر تبلور لمتطلبات الحركة الإسلامية في ذلك الوقت .

والبنا والإخوان ليسوا فكرا فقط ولكنهم حركة وموقف وأساسهم فكرا وحركة وموقفا هو "شمول الإسلام " أى الدعوة للإسلام الشامل لكل أوضاع الكون والمجتمع والفرد وللإسلام الشامل لكل أوضاع الكون والمجتمع والفرد وللإسلام الجامع لكل أطراف الحياة المهيمن على كل أحوال البشر عقيدة وشريعة وسلوكا وبالعقيدة تتحدد للإنسان نظرته إلى الكون وموقعه فيه وبالشريعة تتحد له نظرته إلى غيره من الأفراد والجماعات وأساليب تعامله مع غيره وتكوينه الوجداني .

إن التأكيد على هذا المعني الشامل هو ما به تمثلت الاستجابة الإسلامية الصحيحة التي تطلبها الواقع عندما اتجهت حركة المجتمع إلى إضمار الإسلام وحصره في نطاق العلاقة الباطنية بين الفرد وربه وعندما ظهرت العلمانية لتقيد الإسلام في حدود العبادات وتعمل على إقصائه عن أن يكون مهيمنا على نظام المجتمع وحاكما لعلاقاته .

إن ذلك لا يعني أن الدعوة كانت رد فعل الواقع معين فقط ولكنه يعني أن أى كيان حي وكبير كالإسلام عندما يلقي تحديا لأي من جوانبه أو عناصر وخصائصه الأساسية إنما يبرز لهذا الوجه من وجوه التحدي كل طاقته ويحشد كل قوته لمواجهة التحدي في هذه الزاوية أو الجانب الذي وقع فيه الخلل؛

كشأن جسم الإنسان عندما يركز كل قوته لمواجهة آثار الإصابة الموجهة إليه في الجانب المصاب وشبيه لذلك مثلا حركات الاستقلال الوطني التي انتشرت في بلادنا مع الاحتلال الأجنبي لهذه الأوطان ولم تكن رد فعل بالمعني السلبي ولجوانب الخلل التي تعاني منها فشمول الإسلام خاصة أصيلة وفيه وهي ملاصقة له لا تبارحه أو لا يمس الإسلام إسلاما بغيرها وهي تتأكد في مواجهة من ينكرها .

وبما يتسق مع هذه النظرة لشمول الإسلام اندمج فكر الجماعة في عملها ونشاطها الحركي والدعوة ليست عرضا لفكرة والدفاع عنها ولكنها تنظيم يجمع الناس وينتظمهم في شعب ويأخذهم بالتعليم والتربية الدينية والسياسية ؛

كما إن التكوين الفكري الوجداني للجماعة قام مزيجا من علوم الإسلام التي تدرس بالأزهر ومن القدر الموفق من جودانيات الصوفية في العبارة وربط الفرد بالجماعة كتنظيم ومن وطنيات الحركات السياسية التي تنادي بالاستقلال السياسي والنهوض به وخاصة الحزب الوطني .

وهذه في تقديري هي الأسس العامة التي تكون هيكل الفكر السياسي الإسلامي في تاريخنا المعاصر وهي جوانب ذات ثبات نسبي في الفكر الإسلامي المعاصر تراكمت عبر مرحلة ممتدة من الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين وقد شارك فيها كثيرون من المفكرين والدعاة والعاملين لنصرة الإسلام ولكننا هنا نحدد ملامح عامة ونتكلم عن أوضح الرموز في بيان تلك الخطوط العامة .

وأهم الدلالات التي يمكن استخراجها من العرض السابق تتعلق بالترابط بين الأوضاع التاريخية التي تلابس جماعة الإسلام في وقت ما بين نوعية الاستجابة الفكرية والسياسية لها من داخل الإسلام وعادته الفقهيه.

وهذه الدلالة نستطيع أن نتتبعها مع عدد من التكوينات الفكرية الإسلامية الأقل ثباتا في خصائصها وسماتها مما سبق عرضه ونحن نعني بذلك أن الخصائص الأكثر ثباتا في الفكر السياسي الإسلامي في هذا العصر الحديث إنما هي خصائص تستجيب للملامح الأكثر عموما التي تتسم بها هذه المرحلة الممتدة من تاريخنا المعاصر وهي ما يمكن تسميتها مرحلة " الاستعمار ومقاومته "

ففي هذا الإطار الفسيح للفكر الإسلامي السياسي ظهرت حركات ومجموعات فكرية ذات خصائص ثانوية وأقل ثباتا مما سبق عرضه وهي عند التحقيق لا تمثل نقضا ولا معارضة للخصائص العامة السابقة ولكنها تمثل استجابات مرحلية أو إقليمية متغيرة لحالات طارئة أو خاصة أو لضغوط حادة أو أوضاع غير عادية صادفت المسلمين وهناك ما نلحظه في حركات ودعوات مثل ما كان من سعيد النورسي في تركيا أو من جماعات التبليغ ؛

حيث ظهرت في الهند أو ما كان من فكر أبي الأعلي المودودي أو سيد قطب حيثما ظهر وتفاعل , ولكل من هذه التنوعات الفكرية والسياسية ويمكننا أن نلحظ أن هذه الدعوات جميعا ظهرت في أوضاع تاريخية وإقليمية اتسمت بحصر وتضييق على الوجود الإسلامي ؛

ولكنها تنوعت حسب نوع التضييق الحادث كما يظهر مما يلي:

أولا حيثما كان الحصر والتضييق يشتد ويمتد إلى أصول العقيدة الإسلامية وتنسد المنافذ أمام التعبير عن الموقف الإسلامي في شموله ويخشي على العامة من تآكل جذور العقيدة في نفوسهم بسبب المخالطات الوثنية كما في الهند أو يسبب سياسة طغيان عارم على اقتلاع الإسلام كما في تركيا الكمالية
حيثما كان الوضع صرفت الحركة الإسلامية هكذا المعنية جهدها لتثبيت العقيدة في قلوب البشر وتأكيد دعامات الإسلام في النفوس وتعتني بالأوضاع الاجتماعية المهيئة لاستقرار أوضاع المسلمين المادية والمعنوية .

وهذا ما كان من دعوة محمد إلياس الكاندهلوي الذي أنشأ جماعات التبليغ في بنية كان المسلمون فيها أقلية غير معززة ضعيفة محاصرة محرومة وهذا ما كان كذلك من بديع الزمان سعيد النورسي الذي واجه كل محاولات كمال أتاتورك اقتلاع أسس العقيدة نفسها من صدور الرجال

وقد قصرت جماعات التبليغ دعوا ها على التعليم الحض على إقامة الفروض وترك المعاصي سواء في الهند أو حيثما وجدت خطرا يهدد هذه الأصول بسبب انتشار الثقافات الغربية الكاسحة مع الحرص على البعد عن الدعوات السياسية حرصا على حصر الخصوم وتوسيع الأنصار

كما قصر النورسي حركته على المطالبة بتطبيق أصول الشريعة ومبادئ الإسلام والاستمساك بأركان العقيدة وغير ذلك من الجوانب الإيمانية مع الحرص على تجنب ما يتعلق بالنظم الإسلامية وتأجيل الاهتمام بكل ما يتعلق بالقضايا السياسية .

نحن نلمح في هاتين الحركتين نوعا من الدفاع عن الخطر الأخير للإسلام خطر المحافظة على استبقاء أصل العقيدة والدفاع عن مقوماتها الأساسية . ثانيا وحيثما ارتجت أبواب التعمير عن الموقف الإسلامي من حيث هو نظام شامل ومصدر للشرعية لنظم الحياة والمجتمع وكانت الاستجابة داعية للمفاصلة مع النظم السائدة وهذا ما نلحظه في فكر المودودي وقطب وبوجه خاص في فكر سيد قطب .

ونحن عندما نتحدث عن فكر سيد قطب إنما نقصد بوجه خاص ما أنتج هذا المفكر في الخمسينيات والستينيات دون ما صدر له من أعمال قبل ذلك فإن ما يميز هذا الفكر في هذا المقام مما كان له أثر خاص في تاريخ الفكر والحركت السياسية الإسلامية الحاضرة هو ما ورد في الصياغة الأخيرة لتفسيره " في ظلال القرآن " وفي كتابه الذي شعر بخطره أنصاره وخصومه على السواء " معالم في الطريق "

في الخمسينيات والستينات كانت الحركة الإسلامية مضروبة في رجاله وتنظيماتها وكان الفكر السياسي الإسلامي مستبعد عن المشاركة في تحديد المفاهيم السياسية والاجتماعية ورسم السياسات ورغم كل تحفظات قيادة الدولة في مصر وحذرها مما أسمته " استيراد الأفكار "

وحرصها وحرص دعاتها على الترويح لما أسمي بالنظام المنبثقة عن واقع المجتمع وتاريخه ورغم ذلك فقد غلب الطابع العلماني في صياغة مجمل الأفكار والمؤسسات والنظم ورؤى المستقبل واكتسب " المثال " الغربي قدرا كبيرا من السيادة في القيم السياسية وفي العادات وأساليب العيش وفي هذه الظروف ظهر من تحت الرماد وميض ما عرف بفكر سيد قطب .

كان قطب يؤكد على مفهوم الحاكمية لله وحده في جميع مجالات حياة البشر ويؤكد أن عقيدة الإسلام لا تتحقق بمجرد القيام بالعبارات لأن طاعة الله مطلوبة في شؤون الحياة كافة والصلاة لا تؤدي وظيفتها إذا لم تنه عن الفواحش والتشريع لا ينفصل عن الإيمان والشريعة لا تنفصل عن ذكر الله إن مجمل هذه الأفكار سائدة في الفكر الإسلامي بعامة ولكن سيد قطب أقام هذا الفكر على نهج فاصل وفارق ؛

فهو فيما يؤكد عليه لا يتعامل مع الأفكار المغايرة ولا يقيم معها جسورا ولا يتوجه إليها بحوار فهو فكر صيغ على وجه يهدف إلى المجانية وليس إلى التغلغل والانتشار وقطب يبدأ بمقولة صحيحة لا ينكرها مسلم وهي أن الحكم لله وحده ولكنه يستخلص من ذلك أن كل تشريع وأى قانون نضعه إنما يتضمن معني الشرك بالله سبحانه ؛

ومن ثم فهو مسلك جاهلي واعتبر دعوته إنما تقوم لإنشاء الدين إنشاء أى أنها دعوة لاعتناق عقيدة الإسلام حتى لو كانت بين قوم يدعون أنهم مسلمون واعتبر موضوع التجديد في الفقه الإسلامي موضوعا مرجأ لأن شرط التجديد أن يوجد الإسلام أولا .

لا صعوبة في بيان وجوه المغالاة في هذا الفكر الذي يحصر المسلمين في نطاق " طليعة " محدودة ويحسر هذا الوصف عن جمهور الأمة المطلوب إنشاء الدين فيها إنشاء على أننا لا نريد هنا أن نحاكم فكرا

ولا يكفينا أن نصف أى فكر أو حركة بالاعتدال أو بالتطرف ونسكت إنما علينا أن نتساءل لماذا يظهر نهج فكري وحركي معين ولماذا ينمو أو يخبو ثم علينا أن نعرف أن الاعتدال والتطرف هما حكمان ينسبان إلى ظرف معين أو وضع خاص وأن الفكرة الواحدة يتغير وصفها ومؤداها من حيث التطرف أو الاعتدال بتغير الظرف الذي تعمل فيه ؛

لأن الحكم يتعلق في صميمه بمدي الملاءمة مع واقع الحال بل أكاد أقول أن وجهي التطرف والاعتدال قد يكونان نافعين في الظرف التاريخي الواحد وذلك إذا توجه كل منهما إلى ما يسّر له ونحن هنا بصدد الحديث عن فكر وحركة سياسية وفي السياسة يتوقف النجاح على حسن أعمال كل من سلاحي التشدد والتهاون كل في مجاله وفي ظرفه .

ونحن لا نحاول أن نجري تلفيقا بين فكرين ولكننا نحاول أن نفهم وظيفة كل صيغة فكرية في إطار أوضاعها وما يلابسها وخطأ المدارس الفكرية في علاقاتها مع بعضها البعض إن كلا منها لا يدرك وظيفة الأخريات في جوانب معنية من واقع الحال ؛

فهي تتضارب بدلا من أن تتعاون وهي تضع مقاييس الحكم على أساس من الصواب أو الخطأ المطلقين رغم أن المعيار هنا نسبي يقاس بملاءمة الاستجابة للأوضاع القائمة وما قد تقتضيه أحيانا من تعدد الأدوار .

إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا رحمهما الله ولكن الأمر لا يقوم بالمقارنة بموازين مطلقة إنما يجري وصف كل فكر وظروف إعماله وفكر حسن البنا لمن يطالعه فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس بعامة وهو فكر تجميع وتوثيق للعري

وفكر سيد قطب فكر مجانبه ومفاصله وفكر امتناع عن الآخرين فكر البنا يزرع أرضا وينثر حبا ويسقي شجرا وينتشر مع الشمس والهواء وفكر قطب يحفر خندقا ويبني قلاعا ممتنعة عالية الأسوار والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب .

لقد نشأت جماعة الإخوان كتنظيم علني منشور ثم ما لبث أن ظهر بداخلها ما عرف باسم " النظام الخاص " وهو تنظيم أكثر إحكاما وأوثق رباطا يمثل كتيبة صدام عندما تظهر الحاجة لكتائب الصدام سيما أن البلاد كانت محتلة ولكن وجود التنظيمين في بردة واحدة لم يكن له أن يبقي طويلا لأن لكل من التنظيمين تكوينه المتميز والوسط الملائم الذي يحيا فيه من حيث اختيار الرجال والعلاقات التنظيمية وأدوات العمل ووجوه العطاء المطلوب والمبذول والمفروض أن يكون لكل منهما فكر أو " فقه" يلائم وظيفته ؛

الانتشار أو الصدام والفكر هو ما الحياة الذي يلزم لجماعة أعدت نفسها كتيبة صدام وعضلة امتناع ومحاربة وليس الفكر اللازم لبناء مجلس نيابي هو عينه الفكر اللازم لبناء جيش مقاتل ولا الرجال هم هم ولا علاقات العمل ومستويات النظم هي هي . لذلك فقد حدث بين نظامي جماعة الإخوان ما عرفنا عن وقائع الحركة الإسلامية في نهايات الأربعينيات وبدايات الخمسينيات .

لم يكن سيد قطب في ذلك الوقت من رجال المغالات في الفكر السياسي الإسلامي ولم يعرف " النظام الخاص " ولكن ظروف الخسمينيات والستينيات من بعد والأوضاع التي خضعت لها تجربته الفكرية وملكاته الوجدانية والعقلية وكل ذلك اجتمع ليخرج من يراع هذا الرجل جوهر الفكرة الأساسية التي تقوم عليها كتائب الصدام وقدم الرجل حياته ثمنا لهذا الصنيع .

وقد تبلور فكران فكر الانتشار وفكر الصدام وقام كل على ساقه ليؤدي الوظيفة التي ترشحها له الظروف في كل حال وتنميها الأوضاع في كل آن ونحن لا نقول إن السلام أفضل ولا إن الحرب أوجب هكذا الحال في الفكر الذي يغذي أيا من النشاطين : وإن الواقع الحي يعلمنا أنه لا سلام إلا مع القدرة على الحرب فكلا العنصرين مطلوب في الوقت عينه وكلاهما يغذي الآخر ويتغذي به شريطة أن يعرف كل منهما مجاله ومجال غيره

وشريطة أن نعرف القدر المناسب من كل منهما لعلاج الأوضاع العينية في كل عصر ومصر , قصدت بهذا العرض التاريخي للملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث , أن أوضح عددا من الأمور أرجوا أن أكون جلوتها بعض الجلاء ..

من ذلك أن هذه الفكر كما يتراءى لنا الآن هو حصيلة استجابات تاريخية لهذه المرحلة من حياة جماعة المسلمين وأنه محصلة تراكمت عناصرها لبنة لبنة بواسطة عدد غير محصور من رجال الفكر والسياسة الإسلامية في عصرنا ومنها أن الخلافات بين الاتجاهات المختلفة إنما هي خلافات تحسمها الحاجة التاريخية والاجتماعية للأمة الإسلامية في كل حال

وأن الحاسم في الحكم على الجوانب الإيجابية لكل اتجاه إنما يتعلق بمدى الاستجابة للشكل الأساسي الذي يطبع عصرنا كله وهو مشكل التبعية ومطلب التحرر الإسلامي من هذه التبعية للأجنبي وهذا ما يحدد وجوه التجديد ووجوه المحافظة وإنما الوحدة والتنوع وأساليب الاعتدال والغلو وملاءمات كل وجه من وجوه النشاط .

وإن إيجابيات الاتجاهات المختلفة المختبرة وفقا لما سبق يمكن أن يغذي بعضها بعضا للتراكم في إدراك الأمة كأدوار متنوعة في نسق واحد منتظم.وإن التنوع مطلوب والكثرية نافعة متى أمكن نظم وظائفها لتجيب على الوجوه المتباينة للواقع الحال بتعقيداته وتنوعاته فيعين بعضها بعضا ويصوب بعضها بعضا بغير تناف ..

وإن الظرف التاريخي وأوضاع التحدي التي تقوم أمام الجماعة هي ما تولد أسلوب المواجهة للدفاع عن الإسلام والنهوض بالأمة الإسلامية بوصفها كيانا حيا وهي التي تحدد وسائل الدفاع وأدواته ونحن نحتاج في كل ذلك إلى قدر مقدور من الوحدة مع التنوع بدرجة لا يجلوها إلا التفاعل مع الواقع المعين

الحمد لله طارق البشري

نحو حركة إسلامية علنية وسلمية

د. عبد الله محمد أبو عزة

  • تلقي تعليمه الجامعي في كل من جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة اكسترا في بريطانيا .
  • ما زال يفضل العمل منفردا .
  • نشر عددا من المقالات الإسلامية في مجلتي الشهاب اللبنانية والمجتمع الكويتية (1968 -1973)
  • نشر عددا من الأبحاث العلمية التاريخية في مجالات علمية وضمن أعمال مؤتمرات وندوات .

نحو حركة إسلامية علنية وسلمية

ينشط في ميدان العمل الإسلامي عدد لا حصر له من المنظمات والحركات والجماعات والفئات تحت أسماء وعناوين كثيرة يجمعها كلها شعار العمل للإسلام وتعتقد كل واحدة من هذه الجماعات أن طريقها هو الأقدم ورؤيتها هي الأصوب ومن غير الولوج في أى جدل حول المنظمات والجماعات التي يمكن اعتبارها من "الحركات الإسلامية " فإننا نكتفي بتوضيح مدلول اصطلاح الحركة الإسلامية كما نفهمه وكما نستعمله في هذا البحث .

نحن نقصد بـ "الحركات الإسلامية" مجموعة التنظيمات المتعددة المنتسبة إلى الإسلام والتي تعمل في ميدان العمل الإسلامي في إطار نظرة شمولية للحياة البشرية وتجاهد لإعادة صياغتها لتنجسم مع توجيهات الإسلام

وتتطلع إلى إحداث النهضة الشاملة للشعوب الإسلامية منفردة ومجتمعة من خلال هذا المنظور الإسلامي وتحاول التأثير في كل نواحي حياة المجتمع من أجل إصلاحها وإعادة تشكيلها وفق المبادئ الإسلامية .

أما الحركات والجماعات التي لا تتبني هذه النظرة الشمولية وتحصر اهتمامها في بعض جوانب حياة المجتمع وتسكت عن الجوانب الأخرى فلا تدخل ضمن المحاور الأساسية لبحثنا .

ونلاحظ ابتداء أن الحركات الإسلامية تختلف في الأساليب والوسائل التي تتبناها كما تختلف في ترتيب أولويات ومراحل العمل الأمر الذي يوحي للعجولين في إصدار الأحكام باختلاف أهدافها فحركة الإخوان المسلمين تستخدم المحاضرة ،والمظاهرة ،والصحيفة ،والمجلة والكتاب .

والتربية والمدرسة والرحلات والمخيمات والأنشطة الاجتماعية من بين ما تستخدمه من وسائل من أجل أسلمة حياة المجتمع في كل جوانبها بينما يركز حزب التحرير الإسلامي على إعادة الخلافة وإيضاح الفكر وتحديده ،ويؤجل ما عدا ذلك إلى ما بعد قيام الخلافة أما جماعة التكفير والهجرة

(جماعة المسلمين) فتركز على الدعوة إلى وصم المجتمع بالكفر وعلى ضرورة الهجرة منه والانسلاخ عنه لإقامة مجتمع إسلامي جديد ينقض على المجتمع الكافر لتدميره وإزالته وإقامة المجتمع الإسلامي الجديد مكانه وتنادي حركة الجهاد مع اختلافات يسيرة بين فصائلها بشأن بعض القضايا تنادي يتبني أسلوب الجهاد بمفهومه المثالي ومنذ البداية لهزيمة الأنظمة الكافرة وإقامة المجتمع الإسلامي .

رغم ذلك فإن جميع هذه الحركات متفقة على شمولية الإسلام لكل جوانب الحياة وله أن سعيها في النهاية يرمي إلى إعادة بناء المجتمع الإسلامي في إطار إسلامي شامل .

الدور الإصلاحي للحركات الإسلامية

مع طغيان طوفان السيطرة الغربية العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية اندفع رواد الحركة الإسلامية اندفاعا تلقائيا غريزيا لم يسبقه تحليل ولا تنظير اندفعوا يلوذون بإسلامهم خشية السقوط فريسة للإقتلاع وإبادة الشخصية الوطنيةP

سواء على الصعيد الوطني الضيق أو على مستوي العالم الإسلامي : لقد لاذوا بإسلامهم باعتباره الركن الثابت الذي يصلهم بالله القوة الأعظم في هذا الكون كما أنهم فزعوا إلى الإسلام يذبون عنه ويردون دعاية وضغط كل من يريد أن يشوه صورته في نفوسهم وعقولهم ليجردهم منه في خضم الموجة العاتية لطوفان التغريب القسري .

وتطور العمل الإسلامي على أيدي الرعيل الأول من حركة الإخوان المسلمين إلى تجمع سياسي تمكن من استقطاب قطاع واسع من الجماهير المسلمة وواصل التوسع في داخل مصر وخارجها وإذ تشكل هذا الكيان الحركي الكبير الذي عقد أنصاره العزم على الارتباط بالإسلام والثبات عليه؛

واستمداد عوامل الصمود من قوة الإيمان انتقل مفكروا الحركة إلى الدعوة إلى أسلمة الحياة وبلورة تصور إسلامي ومواقف إسلامية وإلى تحديد واختيار الوسائل التي تعين على تحقيق هذه الأهداف كذلك عنيت الحركة وعني غيرها من الحركات الإسلامية بدرجات متفاوتة بتقوية معاني الإيمان في نفوس منتسبيها وإلى تدريبهم على التزام السلوك الإسلامي في الحياة الشخصية والحياة الاجتماعية على السواء .

وهكذا عندما نستطلع الدور الإصلاحي للحركات الإسلامية نجد هذا الرصيد الذي تحقق في عالم الواقع وفي حياة الآلاف من الأفراد بل وتعدي ذلك إلى مظاهر الحياة الاجتماعية والتوجهات الفكرية والعقلية والسلوكية الاجتماعية .

فحتي الأربعينيات من القرن الحالي كان التيار التغريبي هو الغالب على شكل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية أما بعد توسع الحركة الإسلامية فقد أخذ المظهر الإسلامي المساحة الأكبر

وبكلمات موجزة نحدد هذا الدور بما يلي :

  1. إعادة الحيوية إلى موقف الانتماء إلى الإسلام والاعتزاز به .
  2. الدفاع عن الإسلام والنجاح في نشر الولاء له والتمسك به .
  3. رفض التيار التغريبي والتصدي له من منطلق إسلامي وباسم الإسلام .
  4. محاولات لصياغة تصورات وحلول لمشاكل المجتمع من خلال المنظور الإسلامي والقيم الإسلامية .
  5. تربية أجيال من الشباب والشابات الذين ربطوا حياتهم ومستقبلهم بالإسلام وحاولوا أن يعيشوا له ومن أجله .
  6. نشر روح التضحية ببذل الجهد والوقت والمال والدم والحياة في سبيل تحقيق الأهداف الإسلامية .
  7. المشاركة في القتال دفاعا عن البلاد الإسلامية من ذلك قتال الإسلاميين في فلسطين سنة 1948 وفي مقاومة الانكليز في قناة السويس وفي [أفغانستان[]] (على نطق أضيق)
  8. الاهتمام بقضايا الشعوب الإسلامية والمساهمة بقدر ما تسمح به الظروف لمساعدة الشعوب الإسلامية .

لقد شمل الدور الإصلاحي هذه الأعمال التي تحققت بالفعل على أرض الواقع بغض النظر عن مقدار ما أحرز فيها الإسلاميون من نجاح وما عانوه من فشل لقد اختاروا وقرروا ونفذوا وأصروا وصابروا وصبروا بأقدار متفاوتة من النجاح والفشل؛

ولا مراء في أن هذه الأعمال كلها مرعوبة ولازمة لأنه ضمن المجتمعات الإسلامية وغني عن القول أن مساهمات الحركات الإسلامية في الإنجازات التي تحققت من خلال هذا الدور تختلف من حركة إلى أخري وعلى الرغم من انتقاداتي لحركة الإخوان المسلمين فيما سبق أن نشرته من مقالات وأبحاث فإن هذه الحركة لها الفضل الأكبر فيما تم إنجازات خيرة والفضل لله أولا وآخرا .

السلبيات المعوقة

على الرغم من كل الانجازات التي حققتها الحركات الإسلامية مما ذكرنا ولم نذكر ودون التهوين من أثر وقيمه المقومات الإيجابية التي تميزت بها هذه الحركات ومن غير تجاهل لتصاعد قوتها وفاعليتها وتأثيرها في مجتمعاتها؛

فإن عمل هذه الحركات ما زال يعاني من سلبيات ذاتية معوقة لمسيرتها معطلة لتقديمها نحو ما نذرت أنفسها له من أهداف وتشمل هذه المعوقات من بين ما تشمله قصورا في الفكر وافتقارا للتخطيط وخللا في التنظيم وارتباكا في الممارسة .

ففي الجانب الفكري اكتفت أكثر الحركات بطرح الشعارات العامة والنداءات والمقولات العاطفية التي لم تقم على دراسة موضوعية للواقع وارتباط به من أجل إصلاح خلله بل إن التزام العموميات كان هدفا بالنسبة لبعض الحركات وذلك حرصا من قيادتها على تجميع أكبر عدد من الأنصار حيث لا يختلف الناس على المقولات الإسلامية العامة و لا على امتداح وقبول ما ينسب إلى الإسلام من مقولات .

ومن المؤكد أن بعض الحركات الإسلامية قد خرجت عن هذه العمومية حيال بعض القضايا بل وتطرقت إلى الأمور الصغيرة وحددت فيها آراء وأصدرت فتاوى دافعت عنها نخص بذلك حزب التحرير الإسلامي الذي نشر مشروع دستور إسلامي منذ الخمسينيات وتعرض بالنقد لمشروع الدستور الإيراني سنة 1979 وفي معرض نقده أظهر تبنيه لآراء في قضايا سياسية واجتماعية محددة .

وأعتقد أن هذا العمل يمثل توجها إيجابيا من حيث مبارحته للعموميات وللتحويم حول القضايا من بعيد إقدامه على الإمساك بهذه القضايا واتخاذ موقف منها ومع ذلك فإن هذا التوجه لم يكن قاعدة عامة التزمها عن وعي حيال كل القضايا .

فمن قبيل الشعارات إصرار حزب التحرير في الدستور الذي اقترحه لدولة الخلافة المنتظرة على أن " اللغة العربية وحدها لغة الإسلام وهي وحدها التي تستعملها الدولة " على أن نظام الحكم في الإسلام " نظام وحدة وليس نظاما اتحاديا " ويماثل ذلك الوعد بضمان " إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد فردا إشباعا كليا وأن يضمن تمكين كل فرد منهم من إشباع الحاجات الكمالية على أرفع مستوى مستطاع"(المواد 8 و 16و 121 ط 1979)

هذا في الوقت الذي لا يجيز الحزب إلا أن تكون في العالم الإسلامي كله سوى دولة واحدة تشمله ويحكمها الخليفة المنتظر إنها أحلام جميلة دون شك .

ومن قبيل التفصيلات الصغيرة التي يتعرض لها " الدستور " بضيق أفق واضح أنه يحرم على الحكومة الإسلامية أن تحمي الإنتاج الصناعي الوطني بمنع استيراد البضائع الأجنبية التي يتوافر في البلاد مثيل لها من الإنتاج الوطني

ومن غرائب ضيق الأفق في هذا الدستور تحريم نظام الترقيات للموظفين حيث قال بالنص "يجوز أن تكون الأجرة حسب منفعة العمل وأن تكون حسب منقعة العامل ولا تكون حسب معلومات الأجير أو شهاداته العلمية ولا توجد ترقيات للموظفين بل يعطون جميع ما يستحقون من أجر سواء أكان على العمل أم على العامل "

هذا في الصيغة المعدلة للدستور أما في الصيغ القديمة فقد جري النص على تحريم نظام الزيادات السنوية للموظفين باعتباره مخالفا للإسلام (مادة 37 , 151 ومادة 143 من الصيغة القديمة) .

ويتمسك حزب التحرير في دستوره أحيانا ببعض آراء الفقهاء القدامى دون مبرر من ذلك تبنيه مقولة الفقيه أبي الحسن الماوردي المتوفي سنة 450 هـ بتصنيف الوزارة الإسلامية إلى وزارة " تفويض " ووزارة " تنفيذ " (مادة 41- 50)

وبجانب ميل الإسلاميين إلى تقليد الأنماط التراثية التي لا يلزمنا بها القرآن والسنة ولا تلبي احتياجات حياتنا المعاصرة نجدهم يتقيدون بتراث جديد هو تراث مؤسسي الحركة وفكرهم والأنماط التنظيمية والحركة التي اختاروها؛

وبذلك يحرمون أنفسهم من القدرة على التكيف مع المتغيرات حتى عندما لا يتعارض التكيف مع مبدأ قرره القرآن قررته السنة بل هو مجرد اختيار اجتهادي في سلوك عملي يمكن أن يتم بصورة متعددة لا تدخل أى منها في نطاق الحرام .

ولعل من أظهر العوامل السلبية ميل كثيرين من الإسلاميين إلى الحديث عن الإسلام كأمر غيبي لا يرتبط بواقع حياتي محدد لأناس ولمجتمع يعيشون بين ظهرانية إنهم يعشقون التجريد الإسلام المجرد وهكذا تصبح قضايا المجتمع والوطن ومشكلاته خارجه عن الموضوع

ولقد كان لفكر المرحوم سيد قطب ومدرسته أثر كبير في إحداث هذا التوجه حيث استنكر محاولة تقديم مقترحات وأنظمة تعالج الواقع الحالية للشعوب الإسلامية بل أنه استنكر واستهجن القيام بأى دراسات من هذا القبيل (معالم في الطريق ط1, ص 47,58,9)

ويغلب على عمل الحركات الإسلامية أنه ارتجالي يفتقر إلى التخطيط المسبق المعتمد على دراسات موضوعية تلتزم أصول البحث العلمي وينتج عن هذا النهج سلبيات أخرى معوقة مثل الإسراع في تكفير الناس والحكام بل والمجتمعات بكاملها

وعلى الرغم من أن قيادات الإخوان المسلمين وقسم كبير من منتسبي الحركة رفضوا فكرة التكفير إلا أن الفكرة شاعت في أقوال ومصطلح كثير من أتباعهم الذين ظلموا على ولائهم للجماعة هذا عدا عن الذين انشقوا على أساس فكرة التكفير مثل جماعة التكفير والهجرة (جماعة المسلمين) ومثل حركة الجهاد الإسلامي المصرية .

وانطلاقا من موقف التكفير هذه فكرت (جماعة المسلمين) في أنه سيكون بإمكانها العمل من خلال خطة العدو حتى ولو كان هذا العدو إسرائيل (عبد الرحمن أبو الخير ذكرياتي مع جماعة المسلمين الكويت 1980 ص 44 – 47) توهما لأنها تستطيع استخدام هذا العدو للوصول إلى هدفها الإسلامي.

وتندفع أكثر الجماعات الإسلامية إلى الاصطدام بخصومها بعاطفية تحرمها من تدبر العواقب وما إذا كان الصدام سيخدم أهدافها في النهاية أم ينزل بها كارثة وقد يحدث الصدام بفعل إثارة استدارجية دبرها الخصم المتربص؛

ولكن الإسلاميين لا يجدون الكوابح التي تجنبهم الانزلاق إلى المصيدة وفي حالات كثيرة نجدهم يعطون أنفسهم حق تنفيذ العقوبة بأيديهم لمنع المنحرفين عن جادة الإسلام من الانحراف ولمحاسبتهم .

ولقد وقعوا في حبائل السياسيين والأحزاب السياسية التي استطاعت أن تخدعهم وتستدرجهم لخدمة أغراضها ومن أمثل ذلك مخادعة محمد محمود باشا (رئيس وزراء مصري ت 1939) لحسن البنا وخديعة النحاس باشا لحسن البنا أيضا وخديعة صدقي باشا له سنة 1946 وما سير الإخوان المسلمين مع جعفر نميري عن ذلك ببعيد.

ومن سلبيات التنظيم والممارسة أيضا ما عرفناه عن النظام الخاص مصر (الجهاز السري) للإخوان حيث خرج على طاعة القيادة وأصبح خطرا يهدد الجماعة كلها في أحلك الظروف وكان من أشد الأخطاء في هذا الإطار الجمع بين السرية والعلنية في آن واحد تحت شعار " سرية التنظيم وعلنية الدعوة " فترك كل من جناحي الشعار أثرا سلبيا على الآخر؛

فلا السري ظل سريا ولا العلني ظل دعوة سلمية بريئة عندما عرف ارتباطه بالسري ونحن نعرف أنه حتى سنة 1946 كانت السلطة في مصر تتسامح مع الإخوان المسلمين إلى الحد الذي يجعلها تغض الطرف عن مشاركة العسكريين في ناشطهم وحضور اجتماعهم علنا (صلاح شادي صفحات من التاريخ الكويت 1981 ص 29) .

الحركات الإسلامية تنطوى على مقومات إيجابية

ومع وجود هذه السلبيات التي عددنا وجود غيرها مما لم نعده أو لم نلاحظه نؤكد أن هذه الحركات تنطوي على كثير من الإيجابيات الذاتية وأن غيابها سيشكل خسارة كبيرة لمجتمعه

ومن أهم هذه المقومات:

  1. هذا الاعتزاز بالإسلام والثقة الغامرة بسموه على كل ما عداه .
  2. اتخاذ الحركات الإسلامية للإسلام محورا لحياتها وحياة أفرادها ومنطلقا للحياة بكل أبعادها في مقابل الفصام الذي كان سائدا بين الدين والحياة.
  3. حيوية الإيمان وفاعليته .
  4. مبدأ العمل التطوعي المنبعث من الرغبة في التضحية بالوقت والجهد والمال والنفس واحتمال الأذى والتعرض لمخاطر كبيرة تقربا إلى الله وطمعا في رضاه .
  5. روح القلق الفكري والتوتر العقلي الصاخب الذي نشهد أثره في المئات من المؤلفات الإسلامية التي تعالج مختلف القضايا بغض النظر عن عاطفية وسطحية أكثرها والتي نأمل أن ترتفع إلى مستوى النضج من خلال استمرار هذا الغليان .
  6. الرصيد الهائل من التجارب في حقل العمل الإسلامي وهو رصيد لم يوظف على نحو صحيح حتى الآن لكنه مدخور وسيأتي يوم وظروف تمكن الحركات الإسلامية من الاستفادة منه بمستوى جيد .

ولا مراء في أن هذا الرصيد الكبير سوف يمكم حركة المد الإسلامي من استكمال الدور الذي قامت به الحركات الإسلامية المعروفة ونحن لا نفترض أن تقوم هذه الحركات نفسها بما قصرت عن القيام به حتى الآن إذا يغلب على الظن أنها عاجزة عن تطوير نفسها بدرجة تؤهلها لتجاوز أسباب ضعفها وقصورها؛

أعني الحركات الإسلامية القائمة بيد أن حركة المد الإسلامي الشاملة قادرة بإذن الله على توليد حركة جديدة تستفيد من كل هذا الرصيد الإيماني والفكري والحركي والبشري لتقوم بالدور الذي قصرت الحركات الحالية المعروفة عن القيام به وسيساهم الفكر الإسلامي الذي يهزه القلق في تسليط الأضواء بالتدريج وبعد تجارب ومصادمات فكرية كثيرة على الأخطاء والمعوقات وينير الطريق إلى ما ينبغي عمله .

الانجازات المرجوة مما قصرت الحركات الإسلامية عن تحقيقه

(1) تحقيق الوضوح الفكري للتوجهات الإسلامية:

وأعني بذلك: إذا قلنا أن وضعا معينا في إحدي الدول الإسلامية غير سليم وغير مقبول إسلاميا فإن علينا أن نقدم دراسة علمية تبين صحة ما نقوله ثم نقدم مقترحات بديلة تقوم على دراسة علمية للواقع وتوضح في إطار علمي يتفق مع ما وصل إليه العلم والخبرة الإنسانية الحديثة في هذا الحقل أما الاكتفاء بطرح شعارات عامة أو مبادئ عامة " تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان " فغير كاف لابد من اقتراح الصيغة التطبيقية العملية المفصلة لواقع المشكلة في المجتمع الذي نعيش فيه .

(14) الاختيار والتبني:

معروف أن التاريخ الإسلامي استمر أكثر من ألف وأربعمائة سنة وقد ظل التشريع الإسلامي والقيم الإسلامية تحكم المجتمعات الإسلامية فعليا أو إسميا مدة تزيد على ألف ومائتي سنة وقد شهدت المجتمعات الإسلامية تطورا ونتاجا فكريا هائلا من حيث كمه؛

متنوعا متمايزا في مستواه ومدي صدق إنتمائه إلى الإسلام واستمداده من مصادره الصافية وقد ورثت مجتمعاتنا الإسلامية الحديث كما كبيرا من هذا التراث الفكري الذي يعتبر عند الأكثرية من الناس تراثا إسلاميا

ولذا فإن الدراسين المسلمين يغترفون من هذا الكم الهائل ويتأثرون به على نحو وآخر بحيث يتباين التأثير بين فرد وآخر وجماعة وأخرى فتنشأ الخلافات العميقة في المفاهيم والتوجهات وقد يكون بعضها منحرفا وبعضها الآخر مشتطا .

من هنا صار ضروريا أن تقدم الحركات الإسلامية على اختيار وتبني مفاهيم محددة من الموروث واستنباط مفاهيم جديدة لما لا تجد له مثيلا في التراث الفكري الإسلامي مما تحتاجه حياة مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة .وهذا الاختيار حرى بأن يوفر الوضوح للدعاة والمدعوين ويوضح الطريق للتطبيق عندما تتوافر الإرادة .

ومن الضروري أن يصاحب الاختيار والتبني بيان وتأكيد على احترام اختيار الآخرين مع عدم التصريح والتليمح بأن المتروك يخرج من دائرة الإسلام إلا إذا توافر دليل قوي على ذلك؛

على أنه يمكن القول أن الرأي المتروك كان يتناسب مع الظروف الاجتماعية التي صيغ وطرح فيها لكنه لم يعد يتناسب مع ظروف مجتمعاتنا ولا يلبي احتياجاتها وفي كل الأحوال ينبغي أني يشفع الادعاء بدليله الموضوعي ومن أمثلة القضايا التي تحتاج فيها إلى الاختيار والتبني الواضح .

(أ‌) قضية الشوري حيث تختلف أقوال الفقهاء القدامي في تحديد أهل الشوري وأهل الحل والعقد وفي تحديد من يختار رئيس الدولة أو الخليفة كما تختلف في كيفية الشوري من حيث مشاركة قادة الرأي في الأمة في الوصول إلى القرارات في القضايا العامة كيف تنظم الشوري وهل يؤخذ برأي الأغلبية إن خالفت رأي الحاكمة أم أنها لمجرد الاستنارة .ولقد اختلف المفكرون الإسلاميون في عصرنا الحديث تبعا لهذا الخلاف في المصادر القديمة .

(ب‌) قضية الحرب والسلام في العلاقات الدولية وما إذا كانت الحرب هي الأصل مغ غير المسلمين أم أن السلم هو الأصل وأن الحرب استثناء ناتج عن ظروف شاذة .

(ت‌) المشكلة الاقتصادية التي تعتبر أكثر المشكلات تأثيرا على سلوك الفرد وتحديدا لمسار حياته ومواقفه وعواطفه والمشكلة لها جانبان : يتمثل أحدهما في المبادئ العامة والأطر العامة ومدي القدرة على التكيف ومواجهة الظروف والتحديات المتغيرة والقدرة على تقديم الحلول المناسبة لأي أزمة محتملة وهذا الجانب نظري عام يغطي حاجة المسلمين في أى زمان وفي أى مكان ولا مراء في أن دراسات إسلامية كثيرة قد ظهرت في هذا الجانب لكنها تظل اجتهادات فردية بينها اختلاف وتقارب وتباعد .

وأحيانا تناقض ذلك أن كثيرا من أصحاب المصالح يلجأون إلى الإسلام ويستخدمون نصوصه لتأييد أغراضهم دون تقيد بصحة التفسير أو عدمه كذلك فإن بعض المؤلفين يلتزمون ببعض النصوص والآراء الفقهية القديمة ويتشبثون بها تشبث تحجر من هنا صار ضروريا أن تظهر الحركة الإسلامية كل حركة موقفها واختيارها الذي تتبناه وهو اختيار سيكون قابلا للتعديل والتغيير عند الضرورة وإذا تغيرت الظروف الموجبة له أو تبين فيه خطأ .

(ث‌) أما الجانب الثاني فيتعلق بالظروف الاقتصادية والمشكلات الاقتصادية لمجتمعنا الحالي في دولة نعرف مساحة أراضيها مواردها الطبيعية وعدد سكانها وكثافتها السكانية والإمكانات والقدرات المتوافرة لدي السكان المستخدمة منها والمعطلة

والإمكانات الممكنة التي يمكن تطويرها وتنميتها كما نعرف الظروف الاقتصادية الخارجية المؤثرة وهذا الجانب هو الأكثر مساسا بحياة الناس وتأثيرا في سلوكهم ومواقفهم وردود فعلهم وهو ما ينبغي أن تهتم به الحركات الإسلامية

ليس من قبيل الدعاية السياسية أو الكسب السياسي ولكن خدمة للشعب المسلم الذي تنتمي إليه وتأدية لواجب إسلامي يؤدي القيام به إلى تحسين حياة الفقراء والضعفاء كما يقوى الشعب والمجتمع المسلم الذي تنتمي إليه ولا مراء في أن فهم مشكلات الناس الاقتصادية ومباشرة معاناة البحث عن حلول لها يجعل الحركة الإسلامية أكثر قدرة على ممارسة نشاطها بين القوي المختلفة ويجعل دعاتها وأفرادها أكثر وعيا وفهما وأكثر قربا من الناس لكنه ليس اهتماما هدفه الكسب السياسي كما أسلفنا و بل طاعة لله ورسوله في قوله:" من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ".

(ج‌) معالجة مشكلة الأقليات الدينية في المفهوم الإسلامي العام وفي إطار الدولة الوطنية القائمة حاليا والتي تعمل فيها كل حركة .

لا يكاد يخلو أى قطر إسلامي من أقلية دينية غير إسلامية أفرادها مواطنون عاشوا وأجيال من أجدادهم في ذلك القطر ولقد حلت أوروبا مشكلة الأقليات الدينية بتخليها عن الدين وتنادي قوى مختلفة غير إسلامية من مواطني الأقطار الإسلامية بتبني هذا الحل الأوروبي

لكن هذا الحل يتناقض مع كل أساسيات الحركات الإسلامية الفكرية إن معظم التيارات الإسلامية سكتت عن المشكلة وقبلت بالأوضاع الراهنة منذ أواخر العصر العثماني ومع ذلك فإن بعض الحركات الإسلامية شددت على تطبيق الوضع الذي كان سائدا في العصور الإسلامية منذ صدر الإسلام

أما كبرى الحركات الإسلامية فقد كانت بين الساكتين عن المشكلة ولقد ظهرت أراء فردية ذهبت إلى أن نظام الجزية ليس حتميا من وجهة النظر الإسلامية بل يمكن استبداله بنظام إسلامي آخر له أصول وأدلة من عصر الخلفاء الراشدين لا مراء في أن هذه القضية تثير أشد المواقف حساسية وتتخذ تعلة لمعارضة إقامة نظام إسلامي بل هي التعلة الأولي .

(3) الانتقال من طريقة تجميع الجماهير على المقولات والشعارات العاطفية العامة إلى طريقة تربية هذه الجماهير على التكفير باعتباره فرضا دينيا مهما كانت القدرة الفكرية للفرد والمعني بسطة وعلى الإيمان بالمفاهيم والمقولات الواضحة المختارة والمتبناه تربية تدخل هذه المعاني في أعماق النفوس والوجدان وتحيلها إلى سلوك تطبيقي في حياة الفرد ضمن المجتمعات الصغيرة التي ينتمي إليها وفي حياة المجتمعات الكبيرة

وبعد ذلك فقط يمكن أن تصبح مطبقة رسميا على نطاق الدولة وينبغي أن تعني التربية بترسيخ الالتزام بالموضوعية والاستناد إلى البرهان والخبرة لأن الظن لا يغني من الحق شيئا ولأن الله يعلمنا أن نطلب البرهان: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ... (إن عندكم من سلطان بهذا ..)

كذلك يجب أن تشدد التربية على تبني أسلوب الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة وباحترام الرأي الآخر وبهذا يمكن تجنب أن تؤدي الاختيارات المختلفة إلى انقسامات عميقة بل أن العكس سيكون صحيحا حيث يؤدي الوضوح والموضوعية والحوار بالحسني واحترام الرأي الآخر إلى التقارب التدريجي والتوحيد التدريجي المسند إلى أسس متينة .

(4) تربية روح المبادرة الفردية لتحل محل فكرة الطاعة والانقياد التي سمح لها بأن تأخذ مساحة واسعة أكبر بكثير مما وجه إليه الإسلام ولقد علمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أن كل منا مسئول مسئولية فردية عامة تصل إليه قدرته من المصالح وذلك في حديثه المشهور " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته "

حيث عدد أمثلة من المسؤوليات الفردية يفهم منها أن كل فرد مسئول وعليه أن يأخذ زمام المبادرة في أداء مسؤولياته وغني عن القول أن هذا التوجيه مستند إلى توجيه قرآني أسبق منه من خلال تأكيده: "وكلكم آتيه يوم القيامة فردا" وكذلك تأكيده على أنه "لا تزر وازرة وزر أخري"

أما التوجيه إلى الطاعة فتعني طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة السلطة الشرعي فيما تقرر وفق منهج الله ومن خلال ما تم التواضع عليه من نظام وعرف إسلامي وأما حين تكون حالة المجتمع الإسلامي على ما هي عليه في عصرنا من اضطراب وضياع بين التوجهات والتوجيهات غير الإسلامية وتفكك وضعف ظاهرين فإن كل فرد مطالب بالمبادرة وعدم انتظار التغيير وهو نائم .

وغني عن البيان أن تحقيق هذه المنجزات التي طال انتظارها سوف يؤدي بإذن الله إلى إزالة السلبيات ونواحي القصور التي لاحظناها خلال استطلاعنا السريع لمسيرة الحركة الإسلامية .

ولكن حتى لو تحقق هذا الأمل فإنه يظل على الحركات الإسلامية أن تواجه مشكلتين لتتلمس لهما الحلول كي تستطيع أن تسير في طريق إقامة المجتمع الإسلامي والدول الإسلامية التي تصبوا إليه ومن غير حل هاتين المشكلتين فإن الطريق قد يظل موصدا .

القطيعة بين الحركات

المفترض نظريا أن الحركات الإسلامية جميعا تحمل دعوة واحدة وتعمل لتحقيق نفس الأهداف لأن الإسلام واحد لكن الواقع العملي عكس ذلك فالحركات الإسلامية تتنافس على تكثير الأتباع وأخذهم من الجماعات الأخرى وتبرير ذلك أن الجماعات الأخري على خطأ أو ضلال أو في انحراف .

ومن غير دخول في تحليل أسباب هذه الظاهرة نود أن نشير إلى نتائجها المعطلة والمدمرة خاصة بالنسبة لما تتركه من ضعف في التيار الذي يتبني الإسلام والبديل الصحيح يتمثل في تحول هذه الحركات من الخصومة إلى التناصح وتبادل الرأي والتعاون وضم الجهود في سبيل تحقيق الهدف الواحد .

ولكن.... كيف يمكن أن يتم هذا التحول ؟

أن أول شرط إمكان تحقيق التحول المطلوب هو شرط الوعي .. ونعني بذلك أن تعي كل حركة إسلامية قيادتها وأفرادها أن الصراع بين الحركات الإسلامية يضر بها جميعا ويضر بالقضية الإسلامية بحيث يضعفها أمام الخصوم , ويشوه سمعة المسلمين والإسلام
ويصرف كثيرا من الناس عن تأييد الحركات الإسلامية فإذا توصلت إلى ذلك لابد أن تكون الخطوة التالية احترام الرأي المخالف والدخول معه في حوار هادئ وطويل النفس بهدف اكتشاف ما يمكن الاتفاق عليه والتعاون لتحقيقه كما يمكن أن يؤدي الحوار إلى تقارب الفكر وتوحيده إن التزمت هذه القواعد .. ويمكن أن يتم الحوار من خلال الصحافة والمطبوعات كما يمكن أن يتم من خلال الندوات والحلقات الدراسية المنظمة وكذلك من خلال الاتصال الشخصي .
وتظل الحركات الإسلامية بحاجة إلى البحث عن إمكانات التعاون حتى مع الحركات غير الإسلامية لتحقيق أهداف مرحلية مشتركة تخدم مصلحة المجتمع والوطن غير أن الهدف هنا ينبغي أن يحدد بوضوح وأن يلتزم الإسلاميون جانب الحذر الذي لا يخلق جفاء كي لا يكونوا فريسة للاستخدام السياسي ففي التحالفات السياسية الجمهورية يستخدم ويستغل الفريق الأضعف وعيا دائما مهما كانت قوته البشرية والمادية كبيرة .

مشكلة الصدام مع الأنظمة الحاكمة

هذه أخطر المشكلات التي واجهت الحركات الإسلامية في معظم دول العالم الإسلامي ولو استعرضنا الأحداث في نصف القرن الماضي لوجدنا أن جميع الضربات الساحقة التي تعرضت لها الحركات الإسلامية قد تمت بأيد حكومة؛

ومن المؤكد أن المواجهة ظلت تسير في اتجاه متصاعد من حيث عنفها ومن حيث اتساعها ولا مراء في أن تأثير هذه المواجهة كان سلبيا وليس على الحركات الإسلامية وحدها بل وعلى الأنظمة وعلى المجتمع بجملته .

وفي ضوء ذلك نري أن هذه القضية تقع بين القضايا الرئيسية التي يتوجب على القيادات الإسلامية والمفكرين الإسلاميين دراستها دراسة موضوعية علمية مستقصية للبحث عن الخيار الأنسب ويقيني أيضا أن الأنظمة الحاكمة لابد وأن تهتم بالقضية وتوليها العناية الكافية لدراستها وتحديد الخيار الأنسب لخطة تعاملها مع هذه الحركات .

هل نتحدث عن تعاون الفريقين طرفي المواجهة للوصول إلى حل مقبول منهما ؟ إن هذه أمنية عزيزة وإن كانت قد تبدو مستحيلة الآن كل طرف يبرئ نفسه ويضع كل اللوم على الطرف الآخر الحركات الإسلامي تتهم الأنظمة بمحاربة الإسلام من منطلق العداء له والائتمار بتعليمات الدول الأجنبية الكافرة سواء في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وقد تندرج دول أجنبية أخرى في قائمة التحريض

والأنظمة من جانبها تتهم الحركات الإسلامية بشتي التهم كالإرهاب واستغلال الدين والمواقف الطائفية وتهديد الأمن الوطني والجهل وضيق الأفق والتعصب والعمالة لدول أجنبية ليس ثمة فائدة من محاولة مناقشة هذه التهم أو مناصرة أحد الفريقين في بحث كهذا لكننا نؤكد أن من عادة المتخاصمين أن يبالغوا في اتهام خصومهم وأن ينظروا إليهم بمنظار أسود .

وسواء صحت كل الاتهامات التي توجهها الحركات الإسلامية للأنظمة أو صح بعضها في كل الأقطار التي حدثت فيها المواجهات فإن الواقع والحاجة ومستقبل شعب القطر المعني ومستقبل الأمة الإسلامية والدعوة الإسلامية يستدعي مراجعة المواقف ودراسة الواقع مجددا وتقصي البدائل والخيارات المتاحة والموازنة بينها وهذا الحكم ينطبق على الأنظمة أيضا مبررات قد تكون مختلفة .

أسباب الصدام

الحركة الإسلامية أى حركة إسلامية حركة إصلاحية أو تغييرية أو انقلابية تريد أن تزيل أوضاعا خاطئة أو سيئة لتقيم مكانها الأوضاع الصحيحة أو المثالية التي تنشدها والأنظمة والحكومات من جانبها تري أنها مسئولة عن تطبيق القانون والنظام وحماية أمن المواطن والوطن بكل أبعاد هذه الحماية؛

ولقد أشرنا في بداية هذا البحث إلى تمايز واختلاف الحركات الإسلامية وتنوع أساليبها ووسائلها في العمل فهناك حركات كثيرة في البلاد العربية والإسلامية تستعمل الوسائل السلمية لنشر فكرها وتربية الأفراد على الولاء له واستقطاب الأنصار؛

وقد جعلنا حركة الإخوان المسلمين نموذجا لهذا النوع غير أن هناك حركات أخرى اختارت أسلوب الصدام القتالي ابتداء وسفهت آراء القائلين بالدعوة السلمية وفي ضوء ذلك ربما يقال : إن في الإمكان البحث عن طريقة تعايش سلمي وتعاون بين النوع الأول من جهة والأنظمة من جهة أخرى أما بالنسبة للنوع الثاني الذي اختار القتال فلا مجال للقاء .

وعندي أن الأمر ليس كذلك فالنوع الأول المتبني للأساليب السلمية في الدعوة اندفع هو الآخر أو دفع للدخول في معارك صدامية قتالية في أكثر من قطر وأكثر من مناسبة والجماعات التي اختارت أسلوب الحرب والقتال كانت في معظمها منضوية أفردا في عضوية أهل الدعوة السلمية وعلى ذلك نقول: أن هناك مجالا للبحث عن إمكان وجود طريق بدليل وعلاقات مع الأنظمة بديلة هذا من الجانب الإسلامي .

أما الجانب الحكومي فإن بعض مخاوفه ومآخذه قد تكون صحيحة ولكن بجانب ذلك نجد أن بعض الأنظمة تتشبث بالسلطة استنادا إلى القوة العسكرية وحدها دون إتاحة الفرصة لشعبها للاختيار والمشاركة كما أن بعض أنظمة أخرى تقيم واجهات تمثيل ومشاركة شعبية لا ظل لها من الحقيقة سوى شكلها؛

وهي تخشي فيما لو تمتعت الحركات الإسلامية بحرية العمل التبشيري السلمي أن تخرج عن السيطرة وتستقطب أغلبية الناس فيتعرض للخطر بقاء النظام فالمسألة إذن في غاية التعقيد بالنسبة للجانبين ومع ذلك فإن حالة الاستنفار والصدام المستمر المتكرر ليست في مصلحة الوطن ولا هي في مصلحة الأنظمة أو مصلحة الإسلام أو الحركات الإسلامية .

ما أراني بحاجة إلى التنويه بأنني من المؤمنين بالأسلوب السلمي في العمل الإسلامي وانسجاما مع هذا التوجه وانطلاقا منه يبدو منطقيا أن اقترح على الحركات الإسلامية التزام أساليب الدعوة السلمية أدعو أولئك الذين كانت الدعوة السلمية خيارا لهم ثم تجاوزها في بعض المواقف وبسبب من طبيعة أساليب الإثارة العاطفية ؛

كما أدعو أولئك الذين كفروا بالأساليب السلمية وقرروا أن لا سبيل إلا القتال تحت عنوان فريضة الجهاد الفريضة الغائبة " في رأي بعضهم أنني أدعو هؤلاء وأولئك إلى خيار الدعوة السلمية المصحوب بضبط متشدد لا يسمح بالخروج في أى موقف حتى عندما يبادر الطرف الآخر بالإثارة

أو استعمال أساليب الضغط والعنف ضد الدعاة ويجب التفريق هنا بين التعامل مع عدو خارجي دولة استعمارية غير مسلمة وبين دولة عربية أو إسلامية وسلطة هذه الدولة سلطة مسلمة في نظر الكثيرين وسلطة شرعية .

وهذا الخيار لا يهدف إلى مجرد سلامة القائمين بالدعوة بل أنه يهدف في الأساس إلى سلامة الدعوة وسلامة المجتمع والأمة وسيقود إلى نجاح الدعوة في نهاية المطاف كما علمتنا التجارب البشرية هذا الخيار قد يثير سخرية المتحمسين للقتال باعتباره وليد روح انهزامية لكنني أخشي أن يكون الخيار الوحيد في ظل الظروف القائمة .

وثمة خيار مكمل : إن بإمكان الحركة الإسلامية أن تعلن أنها لا تريد ولا تعمل من أجل وصول قيادتها أو منتسبيها إلى كراسي الحكم وتعلن أنها تحظر على أى من منتسبيها أن يسعي إلى مناصب الحكم وأن على أى عضو يرغب في الوصول إلي الحكم ويسعي لذلك أن يستقيل من عضويتها ولكن بجانب ذلك فإن الحركة تسعى إلى أن يقوم في البلد حكم يلتزم بتطبيق قيم الإسلام ومبادئه وحدوده من خلال دستور إسلامي ؛

وإن أى حكومة تعمل في هذا الإطار سوف تلقي كل دعم وتأييد من الحركة الإسلامية سواء كانت الحكومة القائمة أو أية حكومة جديدة ومعني ذلك أن الحركة الإسلامية ستمتنع عن ممارسة العمل السياسي في صورة كونه تنافسا وصراعا من أجل الوصول إلى الحكم ولكنها ستواصل العمل السياسي في صورة كونه دعوة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ونقدا للانحرافات والخلل الإداري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي وحضا على التصحيح ومساهمة فيه وضغطا من أجل إدخاله وتثبيته .

إن هذه دعوة إلى توجه صعب التحقيق , سيما وأن بعض الأنظمة الحاكمة في دول العالم الإسلامي تتبني إجراءات مستفزة تدفع الإسلاميين المتحمسين إلى الثورة ولا تترك أمامهم سبيلا سوي الدعوة إلى الجهاد في صورته القتالية ومصادمة السلطة في معارك مواجهة غير متكافئة مهما كانت النتائج معروفة سلفا؛

فعندما تستهين السلطة في إحدى البلاد الإسلامية بالدستور الذي وضعته وأعلنت أنها تحكم بموجبه وتعمل لحمايته وتزور الانتخابات علنا وتضع في مجلس النواب أناسا يؤيدون سياستها بالإشارة مهما كان فيها من تضييع لحقوق البلاد وحينما تقدم السلطات على اعتقال مخالفيها المسالمين الذين يمارسون العمل في حدود أنظمتها ؛

وحين يلجأ هؤلاء المضطهدون إلى القضاء فينصفهم فتستهين السلطة بحكم القضاء وترفض تنفيذه وحين تستمح حكومة إسلامية في بلد إسلامي لحزب شيوعي أن يمارس دعوته ونشاطه السياسي بطريقة مشروعة ومعترف بها وتحرم الحركة الإسلامية من الحق نفسه عندما تفعل السلطات هذا وأمثاله فإنها تحض العناصر الواعية حضا على الثورة والصدام معها والضحية في كل ذلك هي المصلحة الوطنية هي الأوطان ومستقبلها حيث تضيع وتحطم كل إمكانات التقدم بفعل تآكل قوانا في صراعنا الداخلي المستمر .

هل نطلب من الأنظمة والحكومات أن تكف عن هذه الأساليب وتحافظ على مبادئ الشوري أو الديمقراطية وتحمي حرية الاختيار وتحترم الدستور والقوانين إلى آخر القصة ! إنها تبدو دعوة ساذجة تثير سخرية الكثيرين كما تبدو صعبة التحقيق لأن محتواها غير مجهول بالنسبة للمدعويين ولكنه متجاهل وبكل إصرار .

وهكذا نجد أن أحدا لا يملك تقديم وصفة سحرية توقف المصادمات والمواجهات بين الحركات الإسلامية والأنظمة الحاكمة ومع ذلك فإن تصحيح أسس العلاقة ليس مستحيلا. إن حركة المد الإسلامي تنطلق في تقدم وتصاعد مستمرين وذلك من خلال الحركات الإسلامية ومن خلال الجهود الفردية للمفكرين الإسلاميين ومن خلال مختلف جهود الجمعيات والمنظمات العاملة لفجر إسلامي جديد .

ولقد ساهمت الحركات الإسلامية بأنصبة متفاوتة في تحفيز وتنشيط حركة المد الإسلامي مساهمات كبيرة انبثقت من مقومات إيجابية ذاتية كما ولدت هي نفسها مقومات إيجابية أخرى عضدت جهود هذه الحركات غير أن سلبيات الحركات الإسلامية وهي سلبيات تتفاوت في حجمها وخطورتها من حركة إلى أخرى بطأت من سرعة الانطلاق نحو الأهداف التي نذر العاملون للإسلام أنفسهم من أجلها

وأدت إلى سقطات وانتكاسات متكررة ولابد من تضافر الجهود الفكرية والعقلية لتمكين الحركات الإسلامية متكررة ولابد من تضافر الجهود الفكرية والعقلية لتمكين الحركات الإسلامية من إسقاط سلبياتها وإعلان التطهر والتبرؤ منها .

فإذا عجزت الحركات الإسلامية عن الارتفاع إلى هذه الدرجة من نقد الذات ولوم النفس فإن مسيرة المد الإسلامي سوف تفرز حركات إسلامية جديدة تتجاوز أخطاء الماضيين وتستضيء بنور ربها وتقود العاملين للإسلام في الطرق الصحيح .

وإذا كانت بعض الأنظمة المعادية للإسلام عاجزة بحكم تكوينها وضيق أفق رؤيتها وأنانيتها وخوفها ممن يوهمونها بالحماية عاجزة عن تصحيح مواقفها وممارستها فإن حركة المد الإسلامي سوف تصل بأمتنا وبمجتمعاتنا إلى الوضع الصحيح بإذن الله .

وهذا الإيمان ليس إيمانا بحتمية قدرية تفعل فعلها والناس نيام ليستيقظوا ذات صباح فيجدوا المفاجأة السارة بل هي حتمية تقتضيها السنن الإلهية في الحراك الاجتماعي الإنساني من خلال ممارسة البشر وهي ممارسة نشهدها في هذا الصخب المستمر في تحرك التيارات الإسلامية الحيوية الواعية ومن خلال هذا القلق الفكري والتوتر العقلي المتحرك النشط الذي سيصل بأمتنا إلى الوضوح بإذن الله .

وعندها ستكون الجهود والتضحيات بناءة مثمرة وسيكتمل البناء بإذن الله بناء راسخا شامخا وضاء بالنور والعدل والإيمان والسلام " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم "

الدكتور عبد الله أبو عزة

الإخوان المسلمون في مصر التجربة والخطأ

د. عبد الله فهد النفيسي

  • تلقي تعليمه في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في كلية " فكتوريا المعادي " القاهرة في الفترة من 1951 -1961م
  • حصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة كبرة في المملكة المتحدة عام 1972 م.
  • له عدة كتب ومقالات تعني بشؤون الخليج والجزيرة العربية .
  • ومن مؤلفاته:
دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث
عندما يحكم الإسلام .
مجلس التعاون الخليجي الإطار السياسي العسكري .
في السياسة الشرعية .
العمل النسائي في الخليج الواقع والمرتجي
دور الطلبة في العمل السياسي .
مستقبل الصحوة الإسلامية .

شخصية المؤسس ومرحلة التأسيس (1928 -1949)

يؤكد المرحوم حسن البنا في (مذكرات الدعوة والداعية) نزعته الصوفية وانضامه للطريقة الحصافية (نسبة لشيخ الطريقة الأول حسنين الحصافي)

فيقول:

" وفي المسجد الصغير رأيت الإخوان الحصافية يذكرون الله تعالي عقب صلاة العشاء من كل ليلة وكنت مواظبا على حضور درس الشيخ زهران رحمه الله بين المغرب والعشاء فاجتذبني حلقة الذكر بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل وروحانيتها الفياضة؛
ومنذ ذلك الحين أخذ اسم الشيخ الحصافي يتردد على الأذان فيكون له أجمل الوقع في أعماق القلب وأخذ الشوق والحنين إلى رؤية الشيخ والجلوس إليه والأخذ عنه يتجدد حينا بعد حين لقد تأثر المرحوم البنا بكتاب قرأه حول الشيخ الحصافي (المنهل الصافي في مناقب حسنين الحصافي)

وكيف أن الأخير كان يدعو إلى الله في استنارة وإشراق وعلى قواعد سلمية قويمة فكانت دعوته كما يقول البنا مؤسسه على العلم والتعليم والفقه والعبادة والطاعة والذكر ومحاربة البدع والخرافات والانتصار للكتاب والسنة والتحرز من التأويلات الفاسدة والشطحات الضارة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛

لقد التقي البنا في حلقات الطريقة الحصافية ببعض رفقائه الذين شاركوه فيما بعد بتأسيس جماعة (الإخوان المسلمين) ومنهم أحمد السكري رحمه الله ولقد ظل البنا مغلق القلب بالشيخ الحصافي وبابنه السيد عبد الوهاب الحصافي والذي تلقي على يديه الطريقة الشاذلية بادوارها ووظائفها كان هذا والبنا طالبا في مدرسة المعلمين بدمنهور وتطورت العلاقة الشخصية بينه وأحمد السكري (التاجر بالمحمودية) فأسسوا (جمعية الحصافية الخيرية) رئيسها السكري وصار البنا سكرتيرا لها

يقول البنا أن الجمعية زاولت عملها في ميدانين : الأول نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة ومقاومة المنكرات كالخمر والقمار والثاني مقاومة الإرسالية الإنجيلية التبشيرية التي كانت تمارس عملها في المحمودية وتبشر بالمسيحية في ظل التطبيب وتعليم التطريز وإيواء الصبية من بنين وبنات

وهكذا نجد أن منطلقات البنا في تلك المرحلة كانت مجردة تماما عن أى توجه سياسي فاهتماماته كانت تنصب في مجال حماية الآداب العامة ومناهضة الإرساليات المسيحية التي كانت تعج بها مصر والتي كانت تستغل وتوظف الفقر والجهل والمرض الذي كان يعاني منه المواطن المصري في سبيل التبشير بالنصرانية ؛

كانت أيام دمنهور بالنسبة للبنا رحمه الله أيام استغراق في عاطفة التصوف والعبادة وكانت سنة آنذاك بين الرابعة عشر والسابعة عشر أى ما بين 19201923 كانت جل مخالطاته بين المدرسين والمعلمين وكان برنامجه اليومي بين التدريس نهارا والانضمام ليلا لحلقات التهجد والذكر التي كانت تحيها الطريقة الحصافية في دمنهور (مسجد الجيش أو مصلي الحطاطية)

ويذكر البنا أنه ورفاقه في الطريقة الحصافية كانوا يزورون (دسوق) من دمنهور (حوالي عشرين كيلوا مترا) مشيا على الأقدام وذلك لزيارة ولي من الأولياء أو ضريح من الأضرحة وكانت قراءاته ومطالعاته معظمها في الصوفية يذكرها في (مذكرات الدعوة والداعية – ص 24) الأنوار المحمدية للنبهاني ومختصر المواهب اللدنية للقسطلاني ونور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ الخضري

وانتقل الينا في القاهرة 1932 بعد دخوله دار العلوم فتأثر بالحياة العامة فيها وحرمت فيه نزعة التصدي لمظاهر التحلل الأخلاقي الذي انتشر فيها وفي جرائدها ومحافلها وعقد البنا العزم على التشاور مع أصدقائه وزملائه في الدراسة بغية تشكيل مجموعة من الدعاة الذين يرتادون المقاهي والشوارع ويحتكون بالجمهور ويعرضون عليه الإسلام ومتطلباته السلوكية بأسلوب شائق جذاب ودون إطالة كما يقول نجحت التجربة في المقاهي فعقد البنا العزم على مواصلة الطريق لما آنس من الجمهور عطشا للتوجيه

ويعدد البنا بعض العوامل التي كانت تخفزه على الاستمرار في الدعوة:

الانقلاب الكمالي على الخلافة العثمانية وانتشار الموجة العلمانية المضادة للدين عبر الجامعة والأحزاب والجرائد والمجلات ويؤكد البنا على أن هذه القناعة في العمل المضاد كما يسميه يشاركه فيها العديد من الطلاب في الأزهر ودار العلوم وكذلك مجالس بعض الشيوخ من أهل العلم أمثال السيد محب الدين الخطيب والسيد رشيد رضا

وبعد أن تخرج البنا من دار العلوم في القاهرة عين مدرسا سنة 1927 بمدرسة الإسماعيلية الأميرية ومن المعروف أن الإسماعيلية قد تعاظم الوجود البريطاني فيها المدني والعسكري فإدارة شركة قناة السويس تتخذها مقرا لها وتحيط بالمدينة المعسكرات البريطانية وبذا انضافت هذه الحالة لسلسلة العوامل المحفزة للبنا وزملائه في أن ينتصروا للدعوة الإسلامية إزاء ما يبثه الوجود البريطاني في المدينة من نزعة أوربية مصطنعة ومستفزة .

واللافت في المر أن البنا عندما بدأ تحركه في الإسماعيلية لم يبدأ في المساجد لأنه يقول (ص 56) أن جمهور المسجد يذكرون دائما الموضوعات الخلافية ويثيرونها في كل مناسبة فاتجه إلى المقاهي يقف هناك بين روادها ويقول كلمة قصيرة جذابة مشوقة رطبة لا تزيد مدتها على عشر دقائق فكان لهذا المر سحره في الجمهور الإسماعيلي وتحولت هذه المقاهي التي يتكلم فيها البنا كلماته ويتخيرها إلى أماكن يرجي من ورائها لدعوة الإسلام كل الخير؛ ونضجت كل الظروف في الإسماعيلية لقيام جماعة (الإخوان المسلمين)

إذ يقول البنا أنه في مارس 1928 زاره في منزله الإخوة الستة:

حافظ عبد الحميد ،وأحمد الحصري ،وفؤاد إبراهيم وعبد الرحمن حسب الله ،وإسماعيل عز ،وزكي المغربي وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كان يلقيها البنا فأبلغوه عزمهم على مبايعته بيعة على (أن نكون لدعوة الإسلام جندا وفيها حياة الوطن وعزن الأمة)

وقال قائلهم: بم نسمي أنفسنا؟ وهل نكون جمعية أو ناديا أو طريقة أو نقابة حتى نأخذ الشكل الرسمي؟ يقول البنا فقلت : لا هذا ولا ذاك دعونا من الشكليات ومن الرسميات وليكن أول اجتماعنا وأساسه الفكرة والمعنويات والعمليات نحن أخوة في خدمة الإسلام فنحن إذن "الإخوان المسلمون"

وبذلك ولدت أول تشكيلة من تشكيلات الإخوان في الإسماعيلية وواصل البنا الدعوة في أبو صوير وبور سعيد والجمالية والسويس والقاهرة حيث انتقل البنا إليها 1932 ومعه انتقل المركز العام لجماعة المسلمين ويذكر البنا (ص 71) أن الشيخ حافظ وهبه مستشار عبد العزيز آل سعود قد بذل مساعي لدي الحكومة المصرية لتوظيفه كمدرس في الحجاز غير أن عراقيل إدارية حالت دون ذلك سنة 1928 أى بعد أشهر من تأسيس جماعة الإخوان المسلمون ؛

وقد أبدي البنا حماسا لمساعي الشيخ حافظ وهبه واستعدادا للانتداب إلى الحجاز والمكث هناك مما يدلل على أن البنا لم تكن تحركه دوافع مصرية (سياسية أو غيرها) في تأسيس الجماعة؛

بل كان يرد أن يزرع فسائل الدعوة الإسلامية بثوبها الديني المحض في كل مكان يتمكن من الوصول إليه كذلك يذكر في (ص 51) محاولات السيد محمد زيارة الحسن أمير الديوان الملكي في اليمن لانتدابه مدرسا هناك وفشله في ذلك وحماس البنا للأمر مما يؤكد أيضا أن الأخير لم تكن لديه رؤية سياسية مصرية محددة يرغب في زج الجماعة الجديدة لأتوتها رغم اشتعال الساحة المصرية بالأحداث الكبيرة آنذاك لكن مع انتقال البنا إلى القاهرة (1932)

وعنه انتقال المركز العام للجماعة بدأت ملامح شخصية جديدة تظهر للسطح عمل البنا بعد استكمال المؤسسات الإدارية للجماعة (قيادية وقاعدية) على عقد المؤتمرات العامة للجماعة لتكون بمثابة الأطر التنظيمية التي تتكفل بعملية إقرار الخطط والسياسات ومراجعتها بل واستشراف ما يلزم لمواءمتها مع متطلبات المراحل المستقبلية

انظر في هذا الصدد الورقة القيمة التي قدمها أحمد أفندي السكري للمؤتمر الثالث مارس 1935 بعنوان " إلى أى مدي وصل الإخوان المسلمون" وماذا يعوزهم وحرص البنا أشد الحرص على انعقاد المؤتمرات العامة للجماعة فانعقد الأول في مايو 1933 والثاني في أواخر نفس العام والثالث في مارس 1935 والرابع 1937 والخامس يناير 1939

لقد كان لهذه المؤتمرات أثرها الكبير في تكريس الشورية وتبادل الرأي والمراجعات الإدارية والتنظيمية والسياسية للقرارات وكانت فرصة كبيرة وهامة لتحسس نبض الجماعة قيادة وقاعدة وكانت تمثل في هذه المؤتمرات كل الهيئات الإدارية للجماعة ابتداء من مكتب الإرشاد مرورا بمجلس الشوري العام الذي يتكون من نواب المناطق ونواب الفروع ومجالس الشوري المركزية ومؤتمرات المناطق وفرق الرحلات ؛

فقط كمثال يذكر البنا في مذكراته (ص17\5) أسماء الذين حضروا كمندوبين للهيئات الإدارية للجماعة في المؤتمر الثالث والذين قدموا من شعب الإخوان في المناطق التالية القاهرة والسويس والإسماعيلية والسلاح وبور سعيد وبور فؤاد والمنزلة وبرمبال القديمة والكفر الجديد وبركة الفيل والمرج ونوي وشبين والقناطر ومنية شبين والخصوص

وتل بني تميم والعلوبة وأبو حماد والقطاوية وكفر الدوار والوسطي وملوي فيعدد أسماء 112 مندوب اشتركوا في المؤتمر وبعدد المعتذرون منهم وقد بلغوا 26 مندوبا لا شك أن لهذه المؤتمرات فائدتها العظيمة في تقوية القناعة العامة ضمن الجماعة بقراراتها وبوحداتها الفكرية والمنهجية في التعامل مع القضايا المطروحة في الساحة من يراجع المواضيع التي طرحت وعرضت على تلك المؤتمرات والمناقشات التي دارت حولها يدرك تماما .

ومن يدرس المراحل التي عاشتها الجماعة بعد مقتل البنا رحمه الله 12 / 2/ 1949 يلحظ غياب هذه المؤتمرات العامة ليس في مصر فقط بل حتى في تنظيمات الإخوان في الأقطار الأخرى (سوريةاليمنليبيا - الجزائر) .

نزيد فنقول أن غياب هذه المؤتمرات العامة في تنظيمات الإخوان في معظم الأقطار التي تشكلت فيها هذه التنظيمات ساهم في خلخلة مراقبة القاعدة لقرارات وسياسات القيادة بل أدي لوصول الكثير من العناصر التي تفتقر للأهلية والشرعية إلى سدتها مما خلق أجواء مناسبة لبروز الشللية والعصبوية والفئوية ضمن التنظيم الواحد في القطر الواحد ودون شك أن الظروف الصعبة التي مرت بها الجماعة بعد اغتيال البنا 1949 وانتقالها من حالة العلنية إلى السرية قد ساهم في ذلك أى في خلق الأجواء غير الصحية .

مع انتقال المركز العام للجماعة إلى القاهرة بدأت التحولات الكبيرة تطرأ على بنية الإخوان الفكرية والتنظيمية ويمكن لرصد هذه التحولات تقسيم هذه التحولات تقسيم هذه الفترة (1932 انتقال البنا إلى القاهرة1949 سنة اغتياله)

إلى ثلاث مراحل :

  1. المرحلة 1932 -1939.
  2. المرحلة الثانية 1939 -1945
  3. المرحلة الثالثة 1945 -1945.

ركز البنا والإخوان في المرحلة الأولي (19321939) على أنشطة تعريفية بالجماعة من هنا كثر التركيز على المحاضرات والدروس في الدور والمساجد وإصدار المجلات (مجلة الإخوان المسلمون) و (مجلة النذير)

وإصدار عدد من الرسائل والنشرات وإنشاء الشعب في القاهرة والأقاليم والاتصال بخارج مصر (الجزائراليمنسوريا - الجزيرة العربية) وإقامة المؤتمرات الدورية في القاهرة والأقاليم والمساهمة في الاحتفال والأعياد الإسلامية والدعوة في وضوح إلى المناهج الإسلامية وتأليف اللجان لدراسات فنية في هذه النواحي .

وفي المرحلة الثانية (1939 -1945) يلاحظ أن البنا والإخوان استثمروا انشغال الحكومة والإنجليز بمجريات الحرب العالمية للتركيز على استكمال البني التنظيمية والإدارية للجماعة ليس في مصر فحسب ؛

بل حتى في البلاد العربية والإسلامية فنشط قلم اتصالهم بالخارج في هذه المرحلة أيما نشاط كما تمكنت الجماعة من الوصول عبر التنظيم المحكم لكل قرية ومدينة وعزبة في جميع أنحاء مصر لأن استكمال البني التنظيمية والإدارية للجماعة في الداخل والخارج كان أهم هدف في المرحلة استلزم ذلك من الجماعة أن تتجنب التوغل في المواقف السياسية التي قد تشغلها عن هذا الهدف .

أما في المرحلة الثالثة (1945 -1949) فمن الممكن أن نسميها مرحلة التنفيذ بعد مرحلتي التعريف والتكوين وهي تعد أخطر مرحلة مرت بها جماعة الإخوان من حيث ضخامة الأحداث التي شاركت فيها وانعكاسات ذلك علي الجماعة وأهمها اغتيال البنا مؤسس الجماعة في 12 / 2/ 1949 م بعد انتهاء الحرب 1945 كانت لا تزال مصر مرتبطة بمعاهدة 1936 مع بريطانيا ؛

وهي معاهدة مجحفة في حق مصر وشعبها وطالب الإخوان بإلغاء تلك المعاهدة وكانت هذه الفترة ما بين 1945 -1949 فترة اضطراب سياسي واضح لدرجة أنه تعاقبت على الحكم فيها على قصرها ثلاث وزارات وكانت علاقة الإخوان بهذه الحكومات تتفاوت من حيث درجة المواجهة فقط ؛

غير أنها لم تكن بأى حال من الأحوال مستقرة ففي 14 /2/ 1946 بلغ التململ السياسي مداه في البلاد فاشتراك الإخوان مع بقية الهيئات الشعبية في مظاهرات صاخبة اضطر الجيش بعدها إطلاق الرصاص على المتظاهرين فقتل من قتل وجرح من جرح وحاصر البوليس المركز العام للإخوان ودورهم في القاهرة؛

وفي 26 / 11/ 1946 وقعت مصادمات أخرى بين المتظاهرين والشرطة احتجاجا على (مشروع صدقي بيغن) قتل فيها عدد كبيرا من الطلبة ومرة ثانية يحاصر المركز العام للإخوان المسلمين وتفتش جريدتهم ومطبعتهم؛

وجاءت وزارة النقراشي في 9/ 12 / 1946 فأرسل الإخوان له رسالة بتاريخ 5/ 1/ 1947 يطالبونه بقطع المفاوضات مع الإنجليز ومطالبتهم بالجلاء الكامل عن مصر وأرض الوادي فإن لم يستجيبوا فعليه أن يتقدم بقضية مصر إلى مجلس الأمن؛

وفي مارس 1948 اغتيل الخازندار (كان هذا القاضي قد أصدر أحكاما قاسية ضد أشخاص ضبطوا في الإسكندرية أمام نادي الجيش الإنجليزي ومعهم قنبلة لم تنفجر) بيد اثنين ممن ينتسبون إلى الإخوان وقد أثبت التحقيق عدم صلة الجماعة رسميا بالحادث

وفي 8 / 12/ 1948 أصدر (النقراشي) رئيس الحكومة قرارا بحل جماعة الإخوان بناء على أن الجماعة كانت تهدف لقلب نظام الحكم في البلاد وسردت المذكرة التفسيرية لهذا القرار وقائع مختلفة أو مبالغا فيها ونسبتها إلى الجماعة تبريرا لاتخاذ قرار الحل الصادر بحقها ؛

ولقد رد البنا على مذكرة الحكومة ردا مفصلا ولقد وزع رده توزيعا واسعا في رسالة عنوانها (القول الفصل) عندما يئس من تسوية الأمر مع الحكومة واستمرار أعضاء (الجهاز السري) أو (النظام الخاص) في الجماعة في تصرفاتهم ومناشطهم العنيفة والتي عرضت كيان الجماعة للحل ومؤسسها للاغتيال أبدي البنا ضيقه بوجهة نظر الحكومة وأصر على أن الأسلحة التي كانت في حوزة الإخوان كان معترفا بها من قبل الحكومة وبعلم منها ؛

وكانت الجماعة تستعملها في أنشطتها العسكرية ضد الصهاينة في أرض فلسطين وكان ثمة اتفاق بين الإخوان وجامعة الدول العربية في هذا الخصوص أمام مقتل الخازندار فقد أبدي البنا أسفه لذلك ولكنه أكد على أن الإخوان كهيئة رسمية لا يجوز أن تكون مسؤولة عن أعمال أفراد فيها (الجهاز السري مرة أخرى)

كذلك أبدي البنا أسفه لمقتل رئيس الوزراء النقراشي غير أنه أكد على أن الإخوان قد تم حلهم كهيئة قبل مقتله ينبغي أن يسأل الإخوان رسميا بعد حلهم كهيئة قبل مقتله فلا ينبغي أن يسأل الإخوان رسميا بعد حلهم واستطرد البنا واصفا الاضطهاد والتعذيب اللذين تعرض لهما أعضاء الإخوان: التعذيب في السجون وفقدان العمل والمتاع والتفتيش التعسفي للمنازل والمراقبة والمتابعة فيها ؛

وأكد البنا في (القول الفصل) أن الأسباب الحقيقة لحل الإخوان فهي الضغط الأجنبي البريطاني واليهودي والأمريكي بالأخص والرغبة في صرف الأنظار عن الفشل في فلسطين اللافت للنظر أن مذكرة الحكومة قد كالت التهم للإخوان ومنهم تهمة التآمر لقلب نظام الحكم؛

ومع ذلك لم تعتقل الحكومة المرشد العام للإخوان حسن البنا وكان البنا قد أخبر زملاءه بأن أحجام الحكومة عن القبض عليه معناه إصدار أمر رسمي باغتياله وقد دلت التحقيقات والمحاكمات التي جرت بعد الثورة أن اغتيال حسن البنا كان أمرا مدبرا من الحكومة المصرية؛

وتم على يد البوليس السياسي فصدرت الحكام على المتهمين الرئيسين الربعة فحكم على المتهم الرئيسي في الجريمة أحمد حسنين جاد بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة وحكم على ضابطين آخرين هما محمود عبد الحميد ومحمد محفوظ بالسجن خمسة عشر عاما وعلى ضابط آخر هو محمود الجزار لسنة واحدة .

تقييم لفترة البنا

يمكن القول أن فترة المرشد العام الأول للجماعة ومؤسسها حسن البنا رحمه الله والذي تولي مسئولية قيادة الجماعة منذ مارس 1928 حتى فبراير 1949 (21 سنة) كانت فترة الفعل والتأثير نظرا لأن أغلب فاعلياتها ومبادراتها كانت تعكس حركة في طور الصعود .

واستطاع البنا بسعته النفسية والشخصية أن يثبت في تاريخ الجماعة بعض العراف والأصول التنظيمية والإدارية الإيجابية منها ظاهرة المؤتمرات العامة التي عقدت تحت إشرافه الشخصي ومتابعته النشطة لقد حرص على مساهمتها في الحوارات والنقاشات التي دارت في تلك المؤتمرات وكانت الأعداد التي تحضر هذه المؤتمرات كبيرة والنقاشات والحوارات في اللجان المتخصصة تفصيلية وفي ذلك فائدة كبيرة والنقاشات والحوارات في اللجان المتخصصة تفصيلية؛

وفي ذلك فائدة كبيرة لرص صفوف الجماعة عبر " أسمنت" الحوار والنقاش وليس عبر الفرمانات الفوقية كما يحصل حاليا في الجماعة نفسها واستطاع البنا أن يكرس الحس الإداري والتنظيمي عبر تفويض السلطات لكل المواقع القيادية في الهرم الإداري للإخوان

أقصد أنه حاول ما أمكنه عدم التدخل في كل صغيرة وكبيرة من مجريات التنظيم والجماعة وأوكل ذلك للقيادات والمواقع المعينة كان البنا هو المرشد العام ويليه الوكيل العام والسكرتير العام ونائب المرشد العام

ويليهم رؤساء الأقسام الرئيسية بالمركز العام (قسم الدعوة ،الأسر ،المهن من العمال والفلاحين ،والاتصال بالعالم الإسلامي ،الطلبة ،الجوالة ،التربية البدنية)

ورؤساء المكاتب الإدارية ثم رؤساء المناطق ثم رؤساء الشعب ثم نقباء الأسر ثم الأفراد كان البنا حريصا على هذا التسلسل لتنشيط الفاعلية التنظيمية لإدارة الجماعة من حيث هي مؤسسة أو هيئة وشبكة من الوحدات الإدارية وتمكن البنا من توثيق الصلة بين الجماعة والمجتمع المصري عبر احتضان الخير والدفاع عنه وعن مصالحه العليا ..

من خلال مؤسسات تقدم خدمات مجانية طبية وثقافية واقتصادية واجتماعية للمواطنين ومن يقرأ في رسائل البنا يجد فيها تأكيدا فكريا على بعض الجوانب التي يهملها عادة الكتاب الإسلاميون فهو في رسالة (دعوتنا في طور جديد)

يقول:

(فالمصرية أو القومية لها في دعوتنا مكانها ومنزلتها وحقها من الكفاح والنضال إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض التي نبتنا فيها ونشأنا عليها ومصر بلد مؤمن تلقي الإسلام تلقيا كريما وذاد عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ وأخلص في اعتناقه وطوي عليه اعطف المشاعر
وأنبل العواطف وهو لا يصلح إلا بالإسلام ولا يداوي إلا بعقاقيره ولا يطلب له إلا بعلاجه وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية والقيام عليها فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟
وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع؟ وكيف يقال أن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون في سبيل خيره وسنظل كذلك وأنها جزء من الوطن الإسلامي العام؛
وأننا حين نعمل لمصر نعمل للإسلام والعروبة والشرق أما العروبة وعلاقتها بالإسلام فيقول الرجل عنها كلاما واضحا في نفس الرسالة:
(العروبة أو الجامعة العربية لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز وحظها الوافر فالغرب هم أمة الإسلام وشعبه المتخير وبحق ما قال صلي الله عليه وسلم إذا ذل العرب ذل الإسلام
ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها وأن كل شبر في أرض وطن عربي نعتبره صميم أرضنا ومن لباب وطننا فهذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدا معني الوحدة العربية والإسلامية)

ويذكر في رسالة اخرى بعنوان (بين الأمس واليوم) وهو يحلل العوامل التي أدت إلى تدهور الدولة الإسلامية انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب من الفرس تارة والديلم تارة أخرى والمماليك والأتراك وغيرهم ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح؛

ويقول في نفس الرسالة

(فاذكروني أيها الإخوان أن أكثر من 60% من المصريين يعيشون أقل من معيشة الحيوان ولا يحصلون على القوت إلا بشق النفس وأن مصر مهددة بمجاعة قاتلة ومعرضة لكثير من المشكلات الاقتصادية التي لا يعلم نتيجتها إلا الله وأن مصر بها أكثر من 32 شركة أجنبية تحتكر كل المرافق العامة وكل المنافع الهامة في جميع أنحاء البلاد وأن دولاب التجارة والصناعة والمنشآت الاقتصادية كلها في أيدي الجانب المرابيين)

هذا الكلام يؤكد على أن البنا كان يدرك مشكلة سوء توزيع الثروة في مصر وينادي بضرورة تمصير الاقتصاد في مصر والتخلص من المحتكر الإنجليزي والفرنسي والبلجيكي الخ .

وأما نقاط الضعف لدي البنا رحمه الله فتتركز في ثلاث جوانب أساسية أولها ضعف إشرافه على (النظام الخاص) أى الجناح العسكري في الجماعة وثانيها إهماله تدريب كوادر قيادية تمتع بأهلية القيادة لتأتي من بعده وثالثها تحامله الدائم على الحزبية والأحزاب مما يعكس لديه غياب النظرية المتكاملة لعلاقاته السياسية داخل مصر

لقد عرض البنا 1940 على خمسة أشخاص هم صالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شربت وعبد العزيز أحمد ومحمود عبد الحليم إنشاء (نظام خاص) أى جهاز عسكري تواجه به الجماعة مسئوليتها إزاء الإنجليز في الداخل والصهاينة في فلسطين و نقول أنه من الطبيعي لجماعة كالإخوان أن يكون لها جناحها العسكري خاصة في تلك المرحلة

لكن كان ينبغي على البنا رحمه الله أن يدرك خطورة هذه الخطوة وجديتها بالنسبة لمستقبل الجماعة ككل ولأمنها عموما فمواجهة الإنجليز داخل مصر عسكريا ليس بالأمر الهين ولا مواجهة الصهاينة في فلسطين ؛

كذلك أكثر من ذلك أن هذا المر لو تيسر فليس من المناسب أن يكون على رأس هذا الجهاز طالب في الجامعة في سنة أولي لا يتعدي 21 سنة ولا شك أن الإنجليز في مصر والصهاينة في فلسطين يستحقون لمواجهتهم عسكريا أكثر من ذلك لقد تسلم عبد الرحمن السندي الطالب في كلية الآداب؛

وفي السنة الأولي منها قيادة هذا الجهاز بعد أن بايع البنا على السمع والطاعة دون أن يدرك الأول ضخامة المهامة المنوطة به لا تشابكاتها السياسية والعسكرية والأمنية ودون أن يدرك الثاني أن هذا (النظام الخاص)

سوف يورط الجماعة في شبكة من المآزق السياسية وسوف يعرض الجماعة للحل والمطاردة والتشريد جراء الأعمال اللامسئولة التي انغمس بها مثل قتل القاضي أحمد الخازندار ورئيس الوزراء النقراشي وحادث المحكمة وحادث حامد جودة رئيس مجلس النواب وإلقاء القنابل على النادي البريطاني؛

فكل هذه العمليات لم تحط بقدر كاف من التخطيط السليم وهذه الأحداث كانت أظهر ما قام به هذا (النظام) سنة 1948 وما قبلها وكلها ضبط فيها فاعلها كما يقول صلاح شادي والروايات التي ترويها مصادر الإخوان أنفسهم فيما يتعلق بفقدان كل سلطان لحسن البنا على قيادة (النظام الخاص) ؛

والتصرفات اللامسئولة التي انغمس فيها وخاصة تحت قيادة عبد الرحمن السندي أقول هذه الروايات أصبحت كثيرة ومتعددة ولم تقف قيادة (النظام الخاص) وبعض أعضائه عند هذا الحد بل كانت وراء كثير من المشاكل التي كشفت ظهر الجماعة لأعدائها من كل حدب وصوب حتى بعد مقتل البنا رحمه الله واستلام حسن الهضيبي رحمه الله القيادة من بعده وسوف نبحث ذلك في ما يأتي إن شاء الله من البحث؛

وفي رأيي أن قيام (النظام الخاص) من الأساس كان اجتهادا في غير محله فهو قد نشأ وقام كما تقول مصادر الإخوان (لتواجه به الجماعة مسئولياتها إزاء الإنجليز في الداخل والصهاينة في فلسطين)

كما يقول صلاح شادي على سبيل المثال لا الحصر والسؤال الذي يلح على:

هل كان بإمكان الإخوان في ذلك الوقت أو في أى وقت آخر مواجهة الإنجليز أو الصهاينة فالإنجليز خاصة عندما نشأ وقام النظام الخاص 1940 كانوا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وكانوا يحكمون العالم الإسلامي يومها بالمراسلات والمهاتفات التليفونية لعظم سيطرتها عليه؛

وكانوا يواجهون (الرياح الثالث) في أوروبا بكل جبروته وعنفه ويحققون النجاحات تلو الأخرى ضده فهل يعقل أن يواجه هذه القوة الدولية نفر من طلبة كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (القاهرة)

مهما اخلصوا النيات والأعمال فالواقع السياسي والعسكري فوق الأرض لا تغيره النيات بقدر ما تغيره الإمكانيات فما إمكانيات (النظام الخاص) إزاء إمكانيات (التاج البريطاني)

أما الصهاينة في فلسطين فمواجهتهم لا تقل صعوبة عن مواجهة الإنجليز في داخل مصر آنذاك فهناك مظلة دولية كبيرة وقوية تظللهم وتمدهم وتمد لهم وشبكة من التحالفات السياسية والمالية على صعيد العالم كله أسسوها بحنكة وروية وبعد نظر قبل أن يحملوا السلاح في فلسطين ؛

فهل عند الإخوان مظلة كتلك التي يستظل بها الصهاينة وهل لدي الإخوان آنذاك واليوم شبكة من التحالفات السياسية والمالية كتلك التي يتمتع بها الصهاينة منذ القرن السابع عشر؛

وبالتأكيد منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل في آب 1897 تحت زعامة تيودور هرتزل ولقد تولد عن هذا المؤتمر مساع يهودية حثيثة ومنظمة وهادئة لتحضير أدوات الاستعمار الاستيطاني اليهودي لفلسطين

فقد تأسس أولا (المصرف اليهودي للمستعمرات) 1898 و (لجنة الاستعمار) 1989 و (والصندوق الرقمي اليهودي) 1901 و(مكتب فلسطين) 1908 و(شركة تطوير أراضي فلسطين) 1908

وعندما تشكلت هذه المؤسسات الضخمة والتي أشرف علي تشكيلها المنظمة الصهيونية كان الهدف منها هو تصميم وتمويل عملية استيطان فلسطين والأشراف عليها والتأكيد من أنها لن تلاقي مصير التجارب الأخرى الفاشلة التي سبقتها؛

واتصل اليهود في البداية بالعثمانيين الذين كانوا يسيطرون على فلسطين وبالألمان واستمروا في بذل الأموال والوعود لكل جهة يتكلمون معها أملا في الحصول على اعتراف قانوني دولي بهم وبوطن قومي لهم ففشلوا؛

وعندما غيروا من استراتيجيتهم بعد مراجعتها استراتيجية جديدة تقوم على سياسة المر الواقع وتحالفوا مع بريطانيا رغم العداء التاريخي معها من أجل أن يصلوا إلى هدفهم : إقامة دولة إسرائيل في فلسطين ونجحت خطتهم وتحقق هدفهم فما هي المؤسسات التي أقامها الإخوان المسلمون من أجل فلسطين ؟

بل هل في إمكانية الإخوان أن يقيموا تلك المؤسسات؟ هل لديهم المال والعلاقات السياسية والشرعية الدولية والواقعية التي تمكنهم من ذلك؟ كل هذه الأسئلة كان ينبغي التصدي لها بعلمية وموضوعية آنذاك وقبل الإقدام على تأسيس (النظام الخاص) إذا كان الهدف منه هو كما حددته مصادر الإخوان أما إذا كان الهدف هو فقط تكوين أداة ردع لأعداء الإخوان في داخل مصر وخارجها من التعدي عليهم فكان من المطلوب تحديد ذلك ابتداء حتى لا تتشعب تطلعات قيادة (النظام الخاص)

وهي قيادة لا مسئولة ولا واعية ولا تحكم تصرفاتها رؤية تاريخية وموضوعية وعلمية للأوضاع والأشياء النقطة الثانية التي كان أداء البنا فيها ضعيفا هو أعداد الكوادر القيادية التي تأتي من بعده وهذه قضية متشعبة وتشتمل على عوامل عدة قد لا يكون البنا وحده مسئولا عنها ولكنه قطعا أحدا أقطابها يصف صلاح شادي حالة الإخوان بعد مقتل البنا رحمه الله فيقول ماذا كان يعني وجود حسن البنا بيننا ؟

لم يكن فقط إشعاع نور على طريق الحق نبصر بها خطونا وإنما كان المحور الذي تبلورت عليه آمالنا للوصول بالحركة الإسلامية إلى هدفها الصحيح كانت حياتنا بعض أنفاسه وصحونا من صحوة وحركتنا من خطوه فلما اختاره الله إلى جواره توقف إدراكنا لمسيرتنا إلى أين نسير وكيف نمضي بعده ؟

فكنا إذا شهدنا مصيبة أحدنا في دينه أرجعنا ذلك إلى مصرعه ! وإذا رأينا غرسا كريما من غراس هذه الدعوة آثار أحزاننا لأنه فقد من تعهد برعايته)

هذا النص الذي كتبه عسكري وليس شاعر يؤكد على أن القيادة في مفهوم الإخوان هي شخص أكثر منها مؤسسة شخص ينتمي وتكون معه نهاية ولابد من شخص آخر يبتدي لتكون معه بداية هذا المفهوم الشخصاني للقيادة قد عانت منه كل التشكيلات العقائدية في العالم الثالث سواء كانت الإسلامية منها والغير إسلامية وأخطر ما في هذا المفهوم من آثار هو ربط المشروع العام للحركة أية حركة بشخص القائد أو الزعيم

(كان المحور الذي تبلورت عليه آمالنا للوصول بالحركة الإسلامية إلى هدفها الصحيح حركتنا من خطوة فلما اختاره الله إلى جواره توقف إدراكنا لمسيرتنا إلى أين نسير وكيف نمضي بعده ؟)

ربما كان في هذا الكلام تعلق التلميذ بأستاذه والمريد بشيخه وليس في ذلك ما يعيب لكني ومن خلال تتبع آثار اغتيال البنا رحمه الله على الجماعة عموما وعلى أدائها أري في هذا النص وغيره كثير في مصادر الإخوان مشكلة كبرى تتعلق بمفاهيم الإخوان حول موضوع القيادة ؛

وآثر ذلك على وعيهم لضخامة المشروع العام الذي تبشر به الجماعة وفي يقيني أن البنا رحمه الله لم ينتبه بما فيه الكفاية لهذه الإشكالية الكبيرة التي واجهت الجماعة بعد مقتله ولم يضع الاحتياطات المطلوبة (المفاهيمية والمؤسسية والتربوية والإدارية)

لتجنبها لذلك ظلت جماعة الإخوان بدون قيادة ما بين مقتل البنا في 12 / 2/ 1949 حتى 19 / 10 / 1951 عندما تسلم حسن الهضيبي رحمه الله القيادة أى أن الإخوان ظلوا بدون قيادة ولا توجيه لمدة تقارب الثلاث سنوات؛

وهذا في حد ذاته يؤكد على مفهوم الإخوان للقيادة بحاجة إلى مراجعة في اتجاه تحويل القيادة من شكلها الشخصاني الفردي الحالي المرتبط بشخص المرشد العام للجماعة إلى شكلها المؤسسي الجماعي والتي تستمر في مهامها متجاوزة أحداثا متوقعة كمقتل البنا رحمه الله وأسكنه فسيح الجنات ويحتمل أن تعيشه في أى مرحلة من حياتها السياسية ؛

وأما النقطة الثالثة التي أري أن البنا لم يوفق فيها فهي عدم تقبله الدائم للحزبية والأحزاب بما يعكس لديه غيب النظرية المتكاملة لعلاقاته السياسية داخل مصر يؤكد البنا في أكثر من رسالة وخطبة وحديث ومقالة أن الإخوان ليسوا حزبا من الأحزاب وأن الإخوان ينكرون على الأحزاب حزبيتها ونقدي لهذا الأمر ينصب على محورين نظري وعملي – نظريا ما هو الحزب ؟

يعرف ذو فرجية وإدموند بيرك وجان بودان وروسو وبيلي وكنت ونيومان ولكنهم كتبوا في موضوع الأحزاب كظاهرة من ظاهرات الاجتماع البشري السياسي أقول يعرف هؤلاء الحزب ربما بألفاظ مختلفة لكنهم يجمعون على أن (الحزب السياسي هو اتحاد بين مجموعة من الأفراد بغرض العمل معا لتحقيق الصالح القومي وفقا لمبادئ خاصة متفقين عليها جميعا)

والحزب كظاهرة طبيعية من ظاهرات الاجتماعية السياسي يقدم خلال تحركه عدة خدمات عامة للشعب ولقاعدة الناخبين : فهو منظمة تعليمية من حيث تقديمه للشعب مختلف المعلومات حول الاقتصاد والسياسة والأمن والمستقبل بطريقة مبسطة وواضحة توقظ فيه الوعي السياسي لجوانب مشكله

والحزب يمكن شرائح المجتمع المختلفة من التعبير عن رغباتها ومعتقداتها بطريقة منظمة وفعالة والحزب يقوم بمهمة الرقابة على أعمال الهيئة الحاكمة طبعا عندما يكون خارج الحكم ووجود أحزاب متنافسة بل ومتطاحنة لا يعني أن الحزب كظاهرة سياسية تقع في خانة السلبيات؛

بل أن هذا التطاحن في ذاته وسيلة عملية أمام الشعب لاختيار الأنسب والتمييز بين السبل والدروب ونسأل بعد أن وضعنا أمام القارئ التعريف الذي استقر عليه علماء السياسية (للحزب) أليس جماعة الإخوان حزبا؟ وفي يقيني أن الجماعة يشكلون حزبا وهم الآن في مصر يبحثون عن كافة المخارج القانونية لكي يصبحوا حزبا معترفا به من قبل السلطات المصرية .

نعم إن الإخوان حزب وليس في هذا أدني انتقاص لمكانتهم ولدورهم النضالي الذي لعبوه في تاريخ مصر المعاصر الإخوان حزب لأنهم اتحاد بين مجموعة من الأفراد بغرض العمل معا لتحقيق الصالح القومي وفقا لمبادئ خاصة (في هذه الحالة الإسلام) متفقين عليها جميعا

هذا نظريا أما عمليا فلم يكن مستساغا سياسيا أن يتحرك البنا في الأوساط السياسية داعيا لإلغاء نعم إلغاء كافة الأحزاب ما عدا جماعته من الوجود في الساحة كانت هناك شبكة من الأحزاب السياسية المتواجدة في مصر سبقت تشكيل جماعة الإخوان المسلمين

وكان لهذه الأحزاب أدوارا سياسية خطيرة ولتلك الأحزاب مؤسساتها وقواعدها الاجتماعية كالوفد مثلا قد وصل للحكم أكثر من مرة ثم أن دعوة البنا المضادة للأحزاب والحزبية قد وترت علاقاته السياسية معها رغم استعداد الأخير قبول جماعة الإخوان كشريك سياسي في الساحة هذا الموقف المضاد للتعددية السياسية والذي تبناه البنا رحمه الله قد وضع الجماعة في زاوية حادة من حيث علاقاتهم السياسية بالفرقاء السياسيين ؛

وربما قطع الجسور مع كثير من الأحزاب السياسية التي كسبت الشرعية السياسة والواقعية سواء بصلتها في الهيئة الحاكمة أم بقاعدة الجمهور ويبدو أن جماعة الإخوان في مصر لم تزل تحاول الخروج من هذا المأزق الذي كان نتيجة لخطأ كبير في اجتهاد المؤسس البنا رحمه الله كما أن تنظيمات الإخوان في باقي البلاد العربية نظرا لإرث الموقف إزاء التعددية السياسية لا تستطيع حتى الآن التعامل السياسي مع الفرقاء السياسيين في مختلف السوح ما عدا في السودان وتونس

حيث تمكن د. حسن الترابي وراشد الغنوشي تحقيق قدر معقول من التحرر الفكري والتصوري إزاء القوالب التقليدية للعمل الإسلامي العام (السياسي منه والاجتماعي) لذا نجد الترابي قادر على هضم متطلبات العمل السياسي والتعامل مع متغيراته ولذا نجد الغنوشي في تونس يحظي باحترام وتقدير كافة الفرقاء السياسيين في الطيف السياسي هناك بما في ذلك محمد حرمل سكرتير الحزب الشيوعي التونسي .

من المشاركة إلى العزلة 19521967

تجمع مصادر كثيرة غير إخوانية على مشاركة الجماعة في تخطيط وتنفيذ " الحركة المباركة " ليلة 23 يوليو 1952 وتؤكد هذه المصادر على وجود تلك العلاقة الخاصة جدا بين تنظيم " الضباط الأحرار وتنظيم الإخوان المسلمون "

ولقد تكشفت هذه العلاقة من خلال حرص التنظيم الأول على فتح ملف اغتيال البنا الإخوان ومحاكمة المسئولين عن ذلك وإصدار أحكام ضد أربعة ضباط من ضباط الأمن في عهد فاروق كذلك ظهرت هذه العلاقة الخاصة من خلال استثناء الإخوان من حل كافة الأحزاب السياسية في البلاد 16 /1/1953 برغم أن الإخوان كانوا وقتها يمارسون أنشطة سياسية أوسع بكثير من أنشطة الأحزاب الأخرى .

هذه العلاقة الخاصة بين الضباط الأحرار والإخوان كانت دائما وأبدا مؤشر واضح على مشاركة الإخوان في تخطيط وتنفيذ ما سمي آنذاك الحركة المباركة وكان من الممكن أن تتطور هذه العلاقة الخاصة لتتحول إلى تحالف استراتيجي بين الهيئة الحاكمة الجديد (مجلس قيادة الثورة) والإخوان

غير أن عوامل عديدة ضغطت باتجاه آخر تماما ويبدو أن ترتيب الأولويات بالنسبة للطرفين قد بدأ يتعارض عندما تبدل ميزان القوى جذريا لصالحهما كان الضباط في مجلس قيادة الثورة أغلبهم وليس جميعهم يرون أنه لابد من التركيز على تحقيق ثلاث أهداف لكي يستقر مد التغيير الذي حصل على هيئة الحكم بانقلاب 23 يوليو 1952:

الأول: تنمية الجيش وتحديثه وفرض هيمنته على جهاز الدولة وهو هدف كان يراد منه كسب الجيش إلى جانب النظام الجديد
والثاني: تحقيق جلاء الجيش البريطاني فلم يكن من المتوقع أن يحظي النظام الجديد بأى تدعيم سياسي شعبي مع وجود الجيش البريطاني فوق الأراضي المصرية في قاعدة قنال السويس
والثالث: القيام بالإصلاح الزراعي في الريف المصري بشل الارستقراطية المصرية صاحبة الأطيان من أى فاعلية في مقاومة النظام الجديد ويكسب دعم الفلاحين الأغنياء لسلطته (المقاولون في الريف خاصة)

ويبدو أن " أولويات " الإخوان كانت تختلف عن هذا التسلسل بل أستطيع أن أزعم بأن نظام الأولويات وترتيبها لدي الإخوان لم يكن واضحا بالقدر الكافي أقصد أن الإخوان وقتها كانوا يعرفون بالضبط ما لا يريدون لا ما يريدون

كانوا ضد سيطرة الضباط على البلاد ربما لأنهم أحسوا بأنهم والضباط على غير وفاق سياسي لذلك نجد الإخوان قد بالغوا في التغبير عن خلافاتهم مع مجلس قيادة الثورة ولقد برز للجمهور من خلال رفضهم الاشتراك في الوزارة

ولقد صرح المرشد العام للإخوان آنذاك حسن الهضيبي رحمه الله للصحف المصرية قائلا : (لقد عرض علينا الاشتراك في الوزارة ولكننا اعتذرنا) وتم فصل الباقوري من عضوية الإخوان لأنه قبل الاشتراك في الوزارة .

ثم نجد الإخوان ولم يكن ذلك ينم عن بعد نظر سياسي يتدخلون في خلافات الضابط داخل مجلس قيادة الثورة فيقفون مع نجيب ولم يكن له قوة داخل مجلس قيادة الثورة وضد عبد الناصر الذي كان يسيطر على الضباط داخل المجلس كان على الإخوان أن يدركوا وقتها أن التنافس بين نجيب وعبد الناصر كان تنافس غرضه السلطة والنفوذ (من الطرفين وليس من عبد الناصر فقط كما تفيد مصادر الإخوان)

وكان من الأجدر والأحوط سياسيا الابتعاد ما أمكن عن هذه اللعبة النارية التي أحرقت أطرافا سياسية في مصر منها الإخوان هذه العوامل مجتمعة : رفض الإخوان الاشتراك في الوزارة والإعلان الصريح حول ذلك في الصحف ومشايعة نجيب ضد عبد الناصر وحشد جمهور الإخوان في هذا المجال أدخل الإخوان في صراع مباشر مع السلطة الجديدة (وهي سلطة لم تستقر بعد)

وهو صراع لم يستكمل الإخوان شروط مباشرته ولم تتحمل السلطة الجديدة الشروع فيه أو حتى مجرد الاعتراف به بما أنها سلطة مضطرية لم تستقر في النسيج الاجتماعي لمصر وكانت المعادلة معادلة الصراع تميل دون شك لصالح مجلس قيادة الثورة برئاسة عبد الناصر الذي كان يمتلك وقتها عنف جهاز الدولة وآلته الدعائية

ومرة أخرى وقع الإخوان في الخطأ: الخطأ في تقدير الموقف وهو خطأ تكرر في المساق التاريخي للجماعة ومن الممكن أن ينشأ الخطأ في تقدير الموقف وهو خطأ تكرر في المساق التاريخي للجماعة ومن الممكن أن ينشأ الخطأ في تقدير الموقف من خلال المعلومات الخاطئة أو قل غير الدقيقة ويمكن كذلك أن ينشأ من طريقة وميكانيكية التعامل مع كشف المعلومات أيا كانت درجة دقتها وفي جماعة الإخوان نشأ الخطأ في تقدير الموقف أكثر من مرة من خلال تزاوج السبيين معا ؛

ونتج عن ذلك مذابح للجماعة ذهب ضحيتها آلاف من رجالات وشباب الإخوان على أعواد المشانق وفي غياهب السراديب والزنزانات وبدلا من أن يقف الإخوان للمراجعة والمدارسة والنقد الذاتي لأساليب العمل وكيفياته (ولا أقول لشئ آخر) يلاحظ المرء أن تفسيرهم لأحداث السياسية التي عصفت بهم لا يخلو من مسحات كربلاتية تؤكد على حتمية المحنة (وأن المحنة منحة ربانية) وأن ما أصابهم هو جزء من التمحيص الرباني للصفوف .

لقد كانت التركة التي حملها حسن الهضيبي ثقيلة للغاية عندما أصبح وضمن ظروف مضطربة تعيشها الجماعة مرشد عاما لها في 19 /10/ 1951 أى بعدما يقارب ثلاث سنوات من مقتل البنا 12 /2/ 1949 اضطربت فيها أحوال الجماعة وتعرضت فيها للحل والمساءلات القانونية وزج من زج من أعضائها في السجون جاء الهضيبي وسط ظروف سياسية وتنظيمية شديدة التعقيد

فالعلاقات مع الحكومة كانت مضطربة ومتوترة وتحتاج إلى التهدئة وقطاع القضاء كان ناقما على الإخوان وذكري اغتيال القاضي أحمد الخازندار لم تزل في الأذهان والنظام الخاص (الجناح العسكري للإخوان) بقيادة عبد الرحمن السندي قد بدا يتضخم ماديا وأدبيا على حساب سمعة ومكانة الجماعة السياسية والاعتبارية والشخصيات البارزة والقديمة في الجماعة كانت تنظر لهذا الوافد الجدي (الهضيبي)

والذي لم يكن في وقت من الأوقات معروفا في الجماعة بشئ من عدم الارتياح ودخل الهضيبي بذلك إلى عالم عجيب وغريب لم يعتاده من قبل وهو المستشار في محكمة النقض والذي يؤمن بالقانون والقانونية ويكره العنف وحب الظهور أمام الجمهور كما يكره السرية ويوجز في الحديث ويخفض في صوته وهو يتحدث أى أن الهضيبي لم تكن فيه سمة القيادة السياسية أو ما كانت تتطلبه قيادة حزب سياسي عقائدي كالإخوان المسلمين ؛

ولأول مرة يتولي قاض زعامة حزب سياسي في العالم الثالث في حد علمي ولقد دفع الهضيبي ومعه الإخوان الثمن غاليا جراء هذا الخلط الخطير في مقادير التركيب القيادي بين (أهل الثقة) وأهل الكفاءة إذا جاز التعبير أن عالم السياسة سريع وصاخب ومتحول ومن أراد العيش فيه لابد أن يعي ذلك وسمات القيادة التي تمثلت بالهضيبي رغم كل الإيجابيات في الرجل لم تكن متناغمة مع متطلبات العمل القيادي السياسي .

يؤكد أكثر من مصدر إخواني أن اختيار حسن الهضيبي كمرشد عام للإخوان كان حلا وسطا كي تخرج الجماعة من ورطة كثرة المرشحين لهذه المسئولية المرشحون كانوا: عبد الرحمن البنا شقيق حسن البنا

وقد كان يشبه الأخير في ظاهر الشكل وطريقة الحديث والحركة وكانت عواطف الإخوان تنجذب إليه بحكم تعلقهم بالمرشد الأول وصالح عشماوي وكيل الجماعة والذي يحظي بتأييد جناح تعلقهم بالمرشد الأول وصالح عشماوي وكيل الجماعة؛

والذي يحظي بتأييد جناح النظام الخاص حيث كان يعتبر من عناصره القيادية وعبد الحكيم عابدين سكرتير الجماعة آنذاك وهو رجل كثير الحركة والنشاط واحمد الباقورى عضو مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية وكان مكلفا بعد حل 1948 من البنا نفسه برعاية شئون الإخوان العامة ؛

وبالإضافة إلي ذلك كان مطروحا اسم عبد العزيز كامل (بعمل حاليا مستشار في الديوان الأميري في الكويت ومصطفي مؤمن (كان مسئولا عن نشاط الجماعة في القطاع الطلابي) وسعيد رمضان (زوج ابنة حسن البنا) ولقد كان الاختلاف بين المرشحين كبيرا فالبنا قال أنه سيرشح نفسه لمنصب الإرشاد وسيسعي إليه وأما عبد الحكيم عابدين ؛

فقال أنه لن يرشح نفسه ولن يسعي إلي المنصب أما أحمد الباقوري فقال أنه لن يرشح نفسه ولن يسعي إلى المنصب وإذا دعي إلى المنصب رفض على أثر ذلك أوضح منير دله (أحد كبار الإخوان)

للمرشحين خطورة هذا الاختلاف وعرض عليهم اسم البنا فرفضوه بالإجماع وبالمثل قام بترشيح كل من الثلاثة الآخرين فلم ينل أحد منهم موافقة أى من إخوانه الثلاثة الباقين ؛

عندما عرض عليهم منير دله اسم حسن الهضيبي الذي لم يكن معروفا إلا الباقوري وعابدين فوافقوا جميعا عليه فقط للخروج من المشكلة وعرض بعد ذلك الموضوع على مكتب الإرشاد فوافق جميع الموجودين على اسم الهضيبي ما عدا د. خميس حميدة الذي امتنع عن إبداء الرأي وقرر المكتب عرض الأمر على الهيئة التأسيسية فوافقت على تنصيب الهضيبي مرشدا عاما للإخوان المسلمين

يلاحظ من ذلك أن اختيار الهضيبي قد رافقته عدة ملابسات تفيد بأن الاستقرار على تنصيبه إنما كان تحاشيا للخلاف الداخلي وليس لأنه كان أفضل من يصلح لتلك المسئولية نقول ذلك أى تقليل لقدر الرجل ومكانته في نفوس الذين عايشوه ولمسوا منه كريم السجايا وصمود الأبطال ومع ذلك نقول بأن اختياره رحمه الله المسئولية بالذات وفي تلك المرحلة بالذات كان اجتهادا مجانبا للصواب فلقد كانت الجماعة في تلك اللحظة التاريخية بالذات بحاجة إلى قيادة سياسية وليست قيادة قضائية .

كانت فترة الهضيبي رحمه الله ما بين 19 / 1 / 1951 – 11/ 8 / 1973 ففي صباح اليوم الخميس انتقل إلى جوار ربه ولقد حفلت تلك الفترة بكثير من الأحداث والمواجهات والمحن الداخلية أى في إطار الجماعة والخارجية أى في علاقة الجماعة بالحكومة .

أما أهم المشاكل الداخلية التي واجهت الهضيبي فهو النظام الخاص أى الجناح العسكري للجماعة والذي بات يسبب ازدواجية في القيادة فقد كان ينافس البنا في قيادته لإخوان وقد شعر البنا بذلك وكان بصدد معالجة هذا الوضع المعوج غير أن المنية عاجلته أما الهضيبي ؛

فقد كان النظام الخاص لا يتعامل معه بندية فقط بل بشئ من الفوقية والاستقلال التام عنه ولذا كان من المطلوب والعاجل وضع حد لذلك كله ويبدو من خلال قراءة روايات الإخوان وغيرهم أن المشكلة الرئيسية في هذا الموضوع هو رئيس النظام الخاص عبد الرحمن السندي الذي بات يتمتع منذ أيا البنا باستقلالية شبه التام عن تنظيم الجماعة؛

لقد ولد هذا الوضع والذي تميز يضعف الإشراف عليه ومتابعة تطوراته تنظيما آخر له رؤيته الخاصة ومشروعه الخاص في الحركة والفعل وعلاقاته المستترة التي تجهلها حتى الهيئات العليا للجماعة (مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية)

من هنا بات النظام الخاص يتحرك وفق قناعات وتوجهات رئيسه السندي وليس وفق قناعات وتوجهات وسياسات مكتب الإرشاد أو الهيئة التأسيسية للجماعة هذه التركة الثقيلة التي ورثها الهضيبي من فترة البنا كان لابد من علاج لها ؛

ولذا نجد الأول قد باشر بذلك فور استلامه المسئولية لذا طلب من (الجمعية العمومية) للنظام أن نجتمع وتفصل السندي واعوانه الثلاث : عادل كمال ومحمود الصباغ وأحمد حسن وانتخبت بديلا للسندي المرحوم يوسف طلعت واختارت إبراهيم الطيب رئيسا لمجموعات القاهرة لكن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد وهذه عينة من عينات المشاكل التي تواكب العمل السري في أى حزب لقد كان عادل كمال المعزول هو الذي يحتفظ بأسماء تشكيل النظام الخاص ؛

وهو الوحيد وقد كان مسئولا عن مجموعات القاهرة الذي يعرف أسماء جميع أفراد النظام وأمكنة تواجدهم وكان من العسير على الجماعة بعد عزله الظفر بتعاونه ولقد ترتب على هذا الأمر مأساة كبيرة في معناها ومبناها ودلالاتها ونتائجها فلقد كلف المهندس سيد فايز وهو أحد أعضاء النظام ليبين لهم خروج السندي ومن معه عن طاعة المرشد الهضيبي ؛

ويدعوهم للإرتباط به فكانت المأساة حمل أحد الأشخاص ظهر الخميس 21 / 11/ 1953 إلى منزل المهندس سيد فايز علبة حلوي بداخلها شحنة ناسفة من مادة الجلجنايت انفجرت في وجهه فأطاحت به وبحائط الغرفة جميعه الذي هوى إلى الشارع بعد ثلاث أيام من الحادث صدر قرار من مكتب الإرشاد بفصل أربعة من قادة النظام الخاص من عضوية الجماعة

وهم: عبد الرحمن السندي وأحمد عادل كمال ومحمود الصباغ وأحمد زكي حسن فبدأت عملية من التقاطب التنظيمي والسياسي داخل الجماعة تأخذ مجراها بشكل سريع ومتوالد رغم نفي المركز العام لإخوان وجود أية صلة بين قرار فصل الربعة ومقتل المهندس سيد فايز ؛

وبدأت الأسئلة تثار في أوساط الإخوان حول سبب الفصل وذهبت مجموعة لمنزل الهضيبي تسأله وهو لا يجيب فاعتصمت مجموعة من المتعاطفين مع الفصولين وكان على رأس المعتصمين بعض أعضاء مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية منهم صالح العشماوي ومحمد الغزالي وعبد العزيز جلال وسيد سابق وقد طالبوا الهضيبي بالاستقالة وبدأوا في حديث لاختيار البديل وكان اسم صالح العشماوي مطروحا

واستطاع الهضيبي وبتأييد من جمهور الإخوان الذي توافد على المركز العام أن يتجاوز ما حصل وأن ظلت آثاره لما بعد وفاته تتفاعل داخل الجماعة أما أهم المشاكل التي واجهت الهضيبي في علاقاته الخارجية فكانت نفور عبد الناصر منه وسعي الأخير الحثيث للتخلص منه لقد كان عبد الناصر في عجلة من أمره من حيث هو رجل عسكري جاء إلى الحكم عبر الجيش؛

وقد كانت أولويات واضحة تقوية الجيش وتنميته وفرض هيمنته على الدول وثانيا تحقيق الجلاء البريطاني من قاعدة القتال وثالثا القيام بإصلاح زراعي في الريف المصري لشل الأرستوقراطية المصرية صاحبة الأطيان من أى فاعلية لمقاومة نظام العساكر أما الهضيبي فلم تتطابق أولوياته مع أولويات عبد الناصر ؛

وخلاصة ما يمكن استشفافه في هذا الخصوص أن الهضيبي كان ضد سيطرة الضباط على البلاد مهما أبرزوا من مبررات قد تبدو للوهلة الأولي موضوعية وقد التقي مع الإخوان في هذه الرؤية عددا من الأحزاب منها الوفد والشيوعي ؛

ولأن نظام أولويات كان مختلفا بين الطرفين كان لابد من الاصطدام وقد تحمل الإخوان في ذلك اضطهاد شرسا لم يعايشوه في أى وقت من تاريخهم وبدأت سلسلة المحن تتوالي على الإخوان بقيادة الهضيبي الذي أودع وإخوانه في مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية السجن ومعه ألوف من شباب ورجالات الإخوان

وبعد أن كانت الجماعة في فترة البنا أو على الأقل في أغلبيتها تعيش مرحلة التأثير والفعل أصبحت في فترة الهضيبي وما بعدها تعيش مرحلة التأثر ورد الفعل واستطاع عبد الناصر متسلحا بعنف آلة الدولة أن يخطف البادرة السياسية من الإخوان وغيرهم من الأحزاب وبالأخص الوفد والشيوعي ؛

وظلت الجماعة تعيش مرحلة المحنة والضياع والشتات ما بين 1954 -1979 عشية وفاة عبد الناصر يشير محمود عبد الحليم لاجتماع (يمثلهم ستة أشخاص من ضمنهم هو نفسه) ومجلس قيادة الثورة يمثله عبد الناصر ؛

وكان الغرض من هذا الاجتماع حل الخلاف المستمر بين الإخوان وعبد الناصر وقد أشار محمود عبد الحليم أنه في نهاية الاجتماع الطويل (من 9 صباحا إلى 3 بعد الظهر) تم التوصل إلى اتفاق على هدنة لها شروطها ؛

وفي حالة تنفيذ الشروط من الجانبين فتح إمكانيات الصلح أما شروط عبد الناصر على الإخوان كان أن يوقفوا حملتهم على اتفاقية الجلاء وأن يوقفوا إصدار النشرات المضادة لعبد الناصر وأما شروط الإخوان على عبد الناصر أن يوقف الاعتقالات والتشريد للإخوان وأن يوقف حملته الصحيفة عليهم تم الاتفاق على ذلك لكن من المسف حقا أن تجتمع الهيئة التأسيسية للإخوان بعد ذلك ترفض هذا الاتفاق

ولقد علق محمود عبد الحليم على ذلك قائلا

(لم يكن إخواننا هؤلاء ولا إخوان الأقاليم يتوقعون ما كنا نتوقعه من أهوال ستنصب فوق رؤسنا صبا لأنهم حجبوا أنفسهم عن الحقائق ورضوا أن يعيشوا سابحين في الأوهام وأرادوا أن يفرضوا على الواقع ما تخيلوه من أوهام) . انتهي

وقد أفرزت هذه الفترة (19541970) وما واكبها من قمع مباشر ومتلاحق لإخوان مدرسة فكرية جديدة وهي مدرسة سيد قطب رحمه الله وما تفرع عنها من مدارس تشمل رؤي وأفكار خرجت عن فكر مؤسسي الجماعة حسن البنا

لقد مر فكر سيد قطب بمرحلتين: الأولي وهي المرحلة الاجتماعية حيث قام بطرح المشكلة الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المجتمع وبتحديد الارتباط بين الشكل والتصور الإسلامي وبدائل الحل (انظر كتابيه: العدالة الاجتماعية في الإسلام ومعركة الإسلام والرأسمالية)

وهناك مرحلة ثانية تبلورت في الستينات وهي مرحلة ظهرت فيها كتبه هذا الدين والمستقبل لهذا الدين ومعالم في الطريق وقد اشتمل الأخير على رؤية نوعية للمجتمع وللعلاقات القائمة في إطار وكيفية تجاوزه ووسائل ذلك التجاوز محور رؤية سيد قطب تقوم على أساس أن النظام الاجتماعي يعيش وضعية الجاهلية

وأن الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى خصائص الألوهية وهي الحاكمية في الوضع الجاهلي تسند إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابا لا في الصور الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولي ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله ..

فينشأ عن هذا الوضع (الاعتداء) جاهلية : جاهلية التصورات والعقائد والعادات والتقاليد والثقافة والفنون والآداب والشرائع والقوانين ويطرح سيد قطب على الصعيد الحركي والتنظيمي مفهوم العزل في فترة الحضانة إذ على الحركة الإسلامية أن تعتزل المجتمع في فترة التكون لكي تتحاشي كل مؤثرات الجاهلية التي تحيط بها وتراجع إلى (النبع الخالص) أى القرآن الذي نكون عليه (الجبل القرآني الفريد) ؛

وفق هذا المفهوم يؤكد سيد قطب أن لا صلح من الواقع الاجتماعي بصورته الحالية وتمضي المقولة إلى حد المفاصلة مع الواقع وتغييره من جذوره ولا شئ : أن ذلك يصطدم بمقولات مؤسس الحركة حسن البنا وخلفه المستشار الهضيبي الذي رد على أفكار سيد قطب والمودودي في كتاب (دعاة لا قضاة)

وذلك قد تحولت مقولات سيد قطب أحد أهم الأطر المرجعية والمصدرية لكثير من الجماعات الإسلامية التي نشأت فيما بعد كجماعة وجماعة المسلمين التي اشتهرت باسم التكفير والهجرة ومن يتأمل الخط التفاعلي للإخوان منذ الأربعينيات مرورا بمطالع الخمسينيات يلحظ مشاركتهم الفعالة في صياغة الخط السياسي والاجتماعي للمجتمع المصري؛

بينما نلحظ أنه بعد محنة 1954 الثانية إلى ما يقارب سنة 1970 استطاع عبد الناصر أن يعزل الإخوان عن مهام التأثير في المجتمع المصري بحيث فرضت تلك الوضعية على مفكر متعايش ومتحسس للقضية الاجتماعية كسيد قطب أن ينكفئ على نفسه لصياغة التخريجات النظرية لمفهوم العزلة الشعورية والتجميعية للحركة .

1970 بداية الانفراج ومعه الفوضي

ومثلما كانت أزمة الجماعة مع عبد الناصر 1954 بداية المحن العصبية لها كانت كذلك وفاة عبد الناصر 1970 بداية انقشاع لتلك المحن إذ تم في 1971 الإفراج عن المستشار الخضيبي ومعظم إخوانه وبدأت الجماعة تلملم لشتاتها وتضمد جراحها العميقة وتتنادي من جديد لتعويض 17 عام من السجن والملاحقة والتعذيب والاضطهاد والتشريد

ويبدو أن الهضيبي كان يعتزم إعادة النظر في عموم الوضع الإداري في الجماعة إذ كان يؤكد في لقاءاته على ضرورة تجاوز أخطاء الماضي من خلال التشاور والتحاور ؛

فانتهز الهضيبي فرصة الحج سنة 1973 فقعد أول اجتماع موسع للإخوان في مكة المكرمة وكان هذا الاجتماع هو الأول من نوعه منذ محنة 1954 كان من قرارات هذا الاجتماع إعادة تشكيل مجلس الشوري؛

ليمثل جميع الإخوان العاملين وتكوين لجنة عضوية لتحديد الإخوان العاملين نظرا لضياغ الكشوفات خلال الأحداث ونظرا لأن معظم الإخوان في الخارج قد هاجروا إلى منطقة الخليج والجزيرة أو البلاد الأوربية والأميركية فقد تركز عمل لجنة حصر العضوية في تلك المناطق :

فتشكلت لجنة الكويت ،ولجنة قطر، ولجنة الإمارات، وثلاث لجان للسعودية في الرياض، وفي الدمام،وفي جدة .

ويبدو من الاتجاه العام لأحاديث الهضيبي والأشخاص الذين يستعين بهم من القانويين بوجه خاص أنه كان يخطط للحؤول دون تصدر أعضاء " النظام الخاص " أوصياء على شؤون الجماعة وتفيد بعض المصادر أعضاء " النظام الخاص " استثمروا فرصة السجن لإعادة تنظيم أفرادهم وتقاسم النفوذ والمسئوليات في أوساط الجماعة

وكان أعضاء "النظام الخاص" كما يبدو يخططون في اتجاه معاكس الهضيبي فهو يهدف " تمدين" الجماعة إذا جاز التعبير أما هم فكانوا يرغبون في " عسكرة التنظيم وتثكينه " ولأن معظم العناصر الفاعلة من إخوان التنظيم العام قد غادروا مصر خلال الحقبة الناصرية طلبا للأمن والرزق والعيش الكريم ؛

فقد تركت الساحة لإخوان النظام الخاص الذين وجدوا الأبواب مشروعة للإستفراد بالقواعد الجديدة من الشباب فانكبت الأعضاء السابقين في النظام الخاص على صياغة تلك القواعد بشكل يتلاءم مع العسكرة المستهدفة

وقد كانت وفاة الهضيبي رحمه الله في صباح الخميس 11/ 8/ 1973 إيذانا بانهيار كل مقاومة ذاتية في الجماعة ضد العسكرية وبداية لانتكاسة فكرية وإدارية وسياسية عاشتها الجماعة ولم تزل منذ ذلك الحين ؛

ومع وفاة الهضيبي تم تجاهل كل القرارات التي اتفق عليها في مؤتمر مكة وخرج إخوان النظام الخاص ببدعة " المرشد السري " الذي زعموا أن الهضيبي قدر رشحه لهم قبل وفاته وشرعوا يطلبون من الإخوان عموما مبايعته فصدرت تلك النشرة الشهيرة من إخوان الخارج بعنوان " المرشد السري المجهول يقود الجماعة إلى المجهول " ؛

وبدلا من أن يتم دعوة أعضاء الهيئة التأسيسية الأحياء (يزيدون على ثلاثين) للتداول في هذا الشأن كما ينص النظام الأساسي للإخوان استفرد إخوان النظام الخاص بالأمر وحلوا محل كل المؤسسات الشرعية للجماعة (الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد) وهكذا نجد أن الهضيبي رحمه الله كان دائما في سباق مع الزمن .

تولي المسئولية في 19 / 10/ 1951 وأنكب على تقليم أظاهر النظام الخاص فعاجلته محنة 1954 وأودع السجن وعندما خرج منه 1971 عاود المهمة فعاجلته المنية في 11/ 8 / 1973 غير أن بدعة (المشرد السري)

قد كشفت أوراق كل الذين كانوا يميلون نحو عسكرة وسرية العمل وكان الذي يتحدث مع الإخوان في تلك الأيام ويتنفس أجواء أحاديثهم بشعر وكأنه يقرأ كتابا للطوسي أو انكليني أو ابن بابويه وهم يروون الروايات عن (الإمام الغائب)

وتحت ملاءة المرشد السري تمكن عناصر النظام الخاص (مصطفي مشهوركمال السنانيريأحمد حسنينأحمد الملطحسني عبد القادر وغيرهم) من إحكام سيطرتهم على شؤون الجماعة وتمت من خلال هذه الهيمنة إبعاد كل العناصر المستنيرة التي تتمتع بالشرعية الأهلية أمثال د. محمود أبو السعود والأستاذ فريد عبد الخالق ود حسان حتحوت والأستاذ محمود عبد الحليم ود عصام الشربيني

وغيرهم من إخوان النظام العام فشكل عناصر النظام الخاص مكتبا للإرشاد من بينهم وهو القائم حتى اليوم بالرغم من ترصيعه مؤخرا ببعض الفصوص والمشكلة الكبيرة في الإخوان خاصة في المرحلة الحالية تكمن في النسق القيادي الذي يميل لتركيز السلطة القيادية في يد شخص واحد

بحيث يتم الإلغاء الفعلي والواقعي للمؤسسات الإدارية الشرعية رغم وجودها الأسمي فهناك مثلا مكتب الإرشاد وقد يضم 12 عضوا لكن كما قال د. خميس حميدة وكيل الجماعة آنذاك في محاكمات 1954 (المرشد كان الكل في الكل أما الباقي ففترينات) محاضر محاكما 1954 الجزء الثاني ص 23 هذا الميل في الإخوان لتركيز السلطة وشخصنتها لا يزال هو من العيوب الرئيسية في تكوينهم القيادي .

وبغية استكمال هيمنة عناصر النظام الخاص على شؤون الجماعة وإضفاء الشرعية على تلك الهيمنة فقد عقد في القاهرة 30/12/ 1976 حتى 1/1/ 1977 اجتماع موسع حضره لأول مرة منذ الإفراج عنه المرحوم عمر التلمساني وكأن حضوره كان تمهيدا للخروج من ورطة " المرشد السري "

واختبارا لشعبيته ويبدو من خلال بعض المصادر الشفهية التي حضرت ذلك الاجتماع أن شخصية المرحوم عمر التلمساني اللينة الهينة الحيية قد راقت لأعضاء النظام الخاص كملاءة تنظيمية وكواجهة سياسية فقط لا أكثر ولا أقل فالتلمساني رحمه الله (4 نوفمبر 419 – 22 مايو 1986) كان وفديا متشددا (انظر كتابه ذكريات لا مذكرات ص 22)

سلسل الوجيه الثري عبد القادر باشا التلمساني الذي كان يمتلك أجود الأراضي في القليوبية وسبعة منازل في القاهرة عاش طفولة سعيدة هادئة ميسرة في سراية ضخمة فيها الجواري والعبيد (انظر كتابه المشار إليه ص 9) درس في الحقوق وأصبح محاميا وانضم للإخوان 1933 وكان يحمل مفهوم الطاعة المطلقة للقيادة ويقول عن علاقته بحسن البنا (كنت معه كالميت بين يدي مغسله)

ولذا لم يبرز اسم التلمساني بين الإخوان عندما اختلفوا عن الخلافات وربما هذا ما دفع عناصر النظام الخاص على اختياره و " تعيينه " مرشد للإخوان المسلمين دون الرجوع للهيئة التأسيسية أو مواد النظام الأساسي وجه القصور في شريعة هذا التعيين أنه تجاهل الهيئة التأسيسية والنظام الأساسي للجماعة وبعد " تعيين" التلمساني رحمه الله انتهاكا صارخا لدستور الجماعة وتصرف أدي فعلا إلى خلل ظاهر في بنيتها لقد كان التلمساني رحمه واجهة ؛

أما القرار في غياب المؤسسات الشرعية للجماعة فقد كان بيد أعضاء النظام الخاص مثل كمال السنانيري رحمه الله ومصطفي مشهور وغيرهم وتقول مصادر التلمساني رحمه الله أن الرجل عاني كثيرا من حصار جماعة النظام الخاص الذين كانوا يضغطون عليه ويصدرون توجيهات لو قاعد الإخوان تتعارض مع توجيهاته ؛

ونقل بعضهم أن التلمساني ليس إلا واجهة فقط وأن الرأي الأخير لهم ويروي المقربون منه أن مناقشة حول موضوع الصلاحيات جرت بين التلمساني وكمال السنانيري حول تعليمات أصدرها الأول ثم نقلت للقواعد بطريقة مغايرة وفسر السنانيري الأمر للتلمساني رحمهما الله قائلا أن التغيير حدث بناء على رأي القيادة وعندما أبدي التلمساني دهشته (إذ كان يعتبر نفسه رأس القيادة)

أفهمه السنانيري أن القيادة هي التي تقرر ما تشاء (أى عناصر النظام الخاص المهيمنين على مكتب الإرشاد) وقال أنه سيبرهن له على ذلك ودعا الإخوان العاملين بمجلة الدعوة وكانت المناقشة في مقر المجلة وسأله: إذا أصدر إليك الأستاذ التلمساني أمرا وأصدرت أنا أمرا آخرا مخالفا فمن تطيع رد الرجل : كلامك هو الذي ينفذ يا أخ كمال وذهل التلمساني وكتم الأمر وأخفي مرارته وأدرك أنه واجهة ليس إلا وتفرغ التلمساني لدوره العام ..

وترك شئون الجماعة لمن عينوه ونجح في تحسين صورة الإخوان إلى حد ما نظرا لما يتمتع به من عفة وذرابة ورقة ولين في التعامل مع الآخر السياسي سواء الرسمي أو الشعبي ولأن الحكومة المصرية بعد حرب 1973 أتاحت للإخوان جوا من الحرية لا بأس به وجد التلمساني مجالا طيبا (نسبيا) للتحرك في مصر؛

فقد عادت مجلة الدعوة للصدور وكانت الجماعة تقيم الاحتفالات في المناسبات الدينية في شتى أرجاء مصر وانخرطت مصر في شبكة من الظروف السياسية والعسكرية أثرت ولا شك على مسار الجماعة: حرب رمضان أكتوبر 1973 وما أفرزته من مناخ سياسي في مصر وخارجها ومعاهدة كامب ديفيد وزيارة السادات رحمه الله للقدس وقد وجدت الجماعة ومن خلال مجلة الدعوة

في ذلك فرصة لتجديد تواصلها مع الرأي العام المصري والعربي وقفت " الدعوة" ضد المعاهد والزيارة وحذرت من مغبة " التطبيع " وتكلم التلمساني في أكثر من مناسبة بهذا الاتجاه ورغم ذلك فقد نبذ العنف وندد به ورفض الاغتيال السياسي وكانت تصريحات للصحافة المصرية والعربية والعالمية كلها تصب في هذا الاتجاه بعد حادث المنصة في 6/ 1/ 1981 .

لقد حرص التلمساني طيلة سنواته الأخيرة وخاصة بعد حادث المنصة أن يكون على صلة مباشرة ودائمة بالحكومة المصرية وخاصة وزارة الداخلية لأنه كان يعتقد أن الاتصال واللقاء مع المسئولين مباشرة يحل كثيرا من العقد ويضيق شقة الخلاف وقد كان حدسه في مكانه كما يبدو.

ولذلك نلمس حرصا من المسئولين في مصر خلال أحداث الزاوية الحمراء الاستعانة به على إخماد الفتنة وقد أسهم في ذلك إسهاما بارزا طبعا بمعية علماء أفاضل أمثال الشيخ محمد الغزالي وغيرهم

ويبدو أن التلمساني المحامي تداخل مع التلمساني السياسي إذ نجده لا يمل من طرح القضية الإسلامية بوفاء وهدوء وبدع بعد ذلك القضاء ليصدر حكمه فإن كان له رضي وإن كان ضده قرر أن يستأنفه ليعيد الشرح والإيضاح وكان دوره خارج الجماعة أكثر بكثير من دوره داخل الجماعة وهذا بالضبط ما أراده له عناصر النظام الخاص الذين تفرغوا للإمساك بتلابيب الجماعة: قيادة وإدارة ومالية وعلاقات.

توفي التلمساني رحمه الله في 22 مايو 1989 عن عمر يناهز 82 عاما قضي منها 39 في صفوف الإخوان و17 كانت في السجن وكان على الإخوان في مصر اختيار خلفا له وبدلا من أن تستدرك الجماعة المخالفات التي عقبت وفاة الهضيبي من تعطيل كامل للمؤسسات الشرعية (الهيئة التأسيسية والقانون الأساسي) وتعين التلمساني لا انتخابه مضت في نفس الخط عندما عينت مرة أخرى محمد حامد أبو النصر المرشد الجديد ؛

أبو النصر هو أحد قدامي الإخوان الذين التحقوا بالجماعة حوالي 1934 وتدرج في المسئولية داخل الجماعة من نائب شعبة في منفلوط إلى رئيس مركز لمنفلوط والقوصة وديروط ثم رئيسا لمنطقة أسيوط زائرا عاما لشعب الصعيد وأخيرا بحكم رئاسته لمنطقة أسيوط أباح له قانون الجماعة آنذاك بالاشتراك في مكتب الإرشاد (عضوا) وقد كان المكتب أيامها برئاسة الإمام حسن البنا رحمه الله لمدة عشرة سنوات قبل وفاته أى 1939 -1949 ؛

وكان أبو النصر كذلك عضوا في مكتب الإرشاد في عهد الهضيبي حتى محنة 1954 أى ما بين 1952 - 1954 حيث حكمت عليه محكمة الثورة بالأشغال الشاقة المؤبدة ولم عنه إلا في أكتوبر 1972 (أى 18 سنة في السجن) وهو متزوج وله ولدان وبنت وهو من مواليد 25 مارس 1913 وتاجر زراعي بشرف على أعماله الزراعية في مركز منفلوط والذي يتأمل أبو النصر وهو يتحدث

ويستحضر صور البنا الهضيبي التلمساني يدرك أن عيار القيادة لدي الإخوان قد أصابه خلل ظاهر في مضامينه السياسية والثقافية والحضارية فالرجل رغم بلاؤه وتضحياته متواضع الإمكانات كقائد إلى درجة كبيرة ومن يقرأ مقابلاته في الصحافة لا يحتاج لكثير ذكاء كي يدرك ذلك (انظر مقابلة أجريت معه في باكستان شعبنا 814 هـ وهي مسجلة على شريط كاسيت كما أنها نشرت هناك)

من يتدبر إجابات أبو النصر على الأسئلة التي وجهت إليه يدرك أن الرجل بالرغم من كونه المرشد العام لحركة كبيرة كالإخوان إلا أنه يفتقر للرؤية السياسية والقدرة على التعبير عن رأيه والقدرة على استيعاب فنون المبارزة في الحوار الصحفي ولذا تحولت المقابلة إلى وثيقة يبرزها كل من أراد التهجم على جماعة الإخوان هذا في الصحافة الخارجية

أما في مجلة الإخوان (الدعوة) فقد أجريت معه مقابلة نشرت في العدد رقم 115 المحرم 614هـ سبتمبر 1986 م ص 12 -15 وقد وجهت له المجلة سؤالا واضحا ومباشرا لم يوفق برأيي في الإجابة عليه إجابة مقنعة:

  • سؤال: الهيئة التأسيسية هي الجهة المسئولة عن اختيار المرشد فكيف سيتم اجتماع الهيئة التأسيسية لحسم هذا الأمر؟
  • جوابه : اجتماع الهيئة التأسيسية غير ممكن بحكم القانون في ظل قوانين البلاد السائدة حاليا وفي ظل قرار حل جماعة الإخوان المسلمين .

تعليقنا : أعضاء الهيئة التأسيسية الأحياء لا يزيدون على الثلاثين إلا بقليل أليس من الممكن تلاقيهم في منزل أحدهم للتداول في هذا الأمر وحسمه وفق القانون الأساسي للجماعة؟ لماذا اجتماع كهذا غير ممكن بينما اجتماع الإخوان في معسكرات تضم المئات ممكن بالرغم من الموانع القانونية ؟

أم أن وراء تجاهل الهيئة التأسيسية ما وراءه حيث فيها التوجهات متبلورة ضد عناصر "النظام الخاص " وما يمثلون من ضيق أفق ونزع نحو الاستبداد في الرأي ؟

وهناك شعور قوى في أوساط المراقبين لحركة الإخوان أن المزايا الحركية لهذه الجماعة بدأ يظهر عليها عناصر الضعف والتفكك في تركيبتها القيادية والتنظيمية فهناك تقلص في رأس الهرم التنظيمي بوفاة عدد من القيادات التي شكلت جيل الآباء المؤسسين التاريخيين للحركة؛

ناهيك عن أن أعضاء مكتب الإرشاد طعنوا في السن بكل ما يطرحه ذلك من آثار كالبطء في الحركة وسلفية التفكير وعدم القدرة على احتواء واستيعاب التمردات الداخلية أو أفكار الأجيال الجديدة التي قد تخرج في ظاهرها عن المفاهيم التقليدية للجماعة

ومن نافل القول التأكيد على أن جماعة الإخوان هي من القوى المحجوبة عن الشرعية نقصد أنها قوة موجودة فعليا في المجتمع المصري غير أن النظام السياسي لأسباب هو يراها وجيهة يحجب عنها حق الوجود القانوني من خلال أساليب عديدة وجماعة تعيش هكذا ظروف ينبغي أن تتأكد قيادتها الحالية من استكمال شرعيتها وأهليتها على الأقل لدي القاعدة العريضة من المنتمين لها تاريخيا وتنظيما؛

وهذا ما لم تفعله القيادة الحالية للجماعة إذ من الملاحظ أن أعدادا كبيرة من ذوي العلم والفكر والسابقة في الجماعة بدأت تنفر من القيادة الحالية وتبتعد عنها وهذا لا يحدث إلا لوجود خطأ أو أكثر من خطأ يجب تصحيحه فليس من العقول أن يقف غالية المفركين من أصحاب السابقة في الدعوة في منأي عن الذين احتلوا مراكز القيادة دون سبب قوي .

التنظيم الدولي للإخوان المسلمين (العلاقات الخارجية)

مع الانفراج الذي تولد عن وفاة عبد الناصر وإفراج السلطات المصرية عن أعداد كبيرة من معتقلي الإخوان ومحاولتهم استكمال هيئاتهم الإدارية لتنظيم نشاطهم داخل مصر طرحت فكرة طموحة للغاية وهي فكرة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ؛

وفي رأيي أن الإخوان المصريين الذي طرحوا هذه الفكرة وقعدوها قانونيا في "النظام العام للإخوان المسلمين" الصادر في 9 شوال 1302 هـ الموافق 29 تموز 1982 وذلك في الباب الخامس تحت عنوان (تنظيم العلاقة بين القيادة العامة وقيادات الأقطار) المشتمل على المواد 43 حتى 47 إنما أرادوا تحقيق أهدافا معينة بالتحديد .

أولها إنعاش تحرك الجماعة داخل مصر عن طريق الدعم المادي والمعنوي الضخم الذي تتلقاه الجماعة في مصر من إخوان الخارج (أفراد وتنظيمات) ثانيها استعادة المبادرة في قيادة النشاط الإسلامي على المستوي الدولي عن طريق القانون العام (الأساسي) للإخوان بعد أن فقد إخوان مصر تلك القيادة نظرا للمحن التي مروا بها خلال الحقبة الناصرية ؛

بالنسبة للهدف الأولي ينبغي القول أن موجة الإفراجات عن الإخوان التي عقبت وفاة عبد الناصر ومعايشتهم للمجتمع المصري وتجربة " المرشد السري " ما بين 1973 -1977 قد كشفت للجماعة أن الساحة تغيرت كثيرا عما كانت عليه مع موجة الاعتقالات 1954

وقد أثر هذا التغير لا شك على درجة شعبية ومصداقية واقتدار الجماعة في عبور المياه العميقة التي كان يمثلها الوضع في المصري آذاك فمن يشخص الظروف التي كانت تعيشها مصر 1977 يلحظ تغيرا كبيرا وهائلا ؛

فمن حيث الحضور السياسي للجماعة وطبيعة التعامل السياسي بينها والدولة في مصر وحجم الأحداث الداخلية والخارجية التي كانت وأصبحت تعيشها مصر وشروطها المبارزة السياسية في المشهدين القديم والجديد والشخوص التي شاركت في الأمر 1977 كل ذلك أفضي بالجماعة في مصر إلى ضرورة الاتجاه للخارج لاستعادة الشرعية في الداخل (أى في داخل مصر) من هذا المنطلق ؛

وعلى أرضية هذه القناعة بدأت وفود الجماعة تتحرك للخارج لتصل ما انقطع وجاء المرحوم كمال السنانيري (نظام خاص) لمنطقة الخليج في هذه المهمة وقد نجح في مهمته لدي إخوان الخليج والجزيرة عموما رغم تحفظ البعض على موضوع " البيعة " لقيادة الجماعة في مصر آنذاك كما تحركت شبكة العلاقات الخارجية للإخوان في دعم هذا المسعي وكانت سنة 1977

وما تلاها نقطة انطلاق بالنسبة للجماعة في مصر بغية تحقيق وتأسيس وتقعيد الاتصال بقيادات الأقطار الأخري من أجل كسب الشرعية داخل مصر وإنعاش نشاطها هناك وقد نجحت الجماعة في مصر تحقيق هذا الهدف من خلال المناشدة العاطفية المشبوبة بالمبادئ الإسلامية في النصرة والمؤازرة والتعاون ؛

غير أنه من الممكن أن تؤكد أن بعض الأقطار كالسودان وتونس كمثال لم ترشح لموضوع " البيعة" لقيادة مصر التي كان يمثلها وقتها المرحوم عمر التلسماني وإخوانه في مكتب الإرشاد المصري (حوالي 13 عضو) ومن الملاحظ أن معظمهم كانوا من إخوان (النظام الخاص) أى الجناح العسكري للجماعة ؛

والذي ألفنا بعض المعلومات عنه تحفظ آخر أثير وما زال يثار أن قيادة الجماعة آنذاك وامتدادها حتى اليوم لم تنبثق من اجتماع قانوني عقدته الهيئة التأسيسية للإخوان في مصر والتي لم تجتمع منذ 1954 (أعضاء الهيئة التأسيسية لإخوان في مصر كانوا تقريبا 164 عضو بقي منهم على قيد الحياة ما يربو على الثلاثين عضو) بيني هذا التحفظ على مادة 11 من (النظام الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة)

الصادر في 12 رجب 1367 الموافق 21 مايو 1947 التي تقول:

ينتخب المرشد العام من بين أعضاء الهيئة التأسيسية في اجتماع يحضره على الأقل أربعة أخماس أعضاء هذه الهيئة ويجب أن يكون حائزا لثلاثة أرباع أصوات الحاضرين وإذا لم ... إلخ (انظر نص المادة في الملحق)

شعر عناصر (النظام الخاص) أن ثمة تساؤلات جوهرية مثارة في أوساط الإخوان في مصر حول شرعيتهم وأهليتهم في استلام قيادة الجماعة ولذا نشطوا في تأسيس " شرعيتهم " في الخارج كما يستمدوها في الداخل أى في داخل مصر

ومن يقرأ ويدرس الباب الخامس من (النظام العام للإخوان المسلمين) الصادر في 9 شوال 1302 هـ الموافق 29 تموز 1982 المواد 43 – 47 يستطيع أن يتصور التركيب الإداري للتنظيم الدولي للجماعة ومعه مركز القوة واتخاذ القرار .

المرشد العام

يقرر الباب الأول من (النظام العام للإخوان) في مادتها الأولي أن مقر القيادة الرئيسي هو مدينة القاهرة (مصر) ولسبب ما تضيف المادة نفسها ويجوز نقل القيادة في الظروف الاستثنائية بقرار من مجلس الشوري إذا تعذر ذلك من مكتب (الإرشاد) ومن يتابع نشاطات قيادة الجماعة يلحظ أن معظمها تدور خارج مصر لأن موضوع الشرعية للجماعة لم يحسم بعد هناك ؛

ومع ذلك فتأكيد المادة الأولي على أن القاهرة هي المقر الرئيسي للقيادة تأكيدا أيضا أن قيادة النشاط الإسلامي على المستوى الدولي ينبغي أن يؤول في النهاية للتنظيم المصري وقيادته وهذا ما حصل بالفعل للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ؛

فرغم اتساع النشاط الإسلامي اليوم في العالم ما بين نواكشوط وجاكرتا وتفريعاته في أوروبا والأمريكتين وبرغم تواجد أعدادا كبيرة من أصحاب الخبرات والملكات والمواهب في الفكر والقيادة والإعلام والسياسة والاقتصاد خارج مصر ؛

نجد ثمة ميل قوي في التنظيم الدولي لإخوان المسلمين نحو تأكيد (مصرية) القيادة فالمرشد العام وأن لم ينص على ذلك صراحة ينبغي أن يكون مصريا وهذا ما حدث بالفعل وللمرشد العام صلاحيات هائلة ولمدة قد تطول إلى نصف قرن لأنه منصب مدي الحياة ولم تحدد له مدة زمنية كأربعة سنوات أو غيره ؛

ومن الغريب أن يكون هذا في جماعة الإخوان وهي التي تعترض على القيادات السياسية المتشبثة بالسلطة مدي الحياة ومن الأفضل سياسيا وإداريا أن تعالج هذه الثغرة في (النظام العام) لما لها من أضرار بليغة على صورة وفعالية ومصداقية الجماعة

لقد حددت المادة التاسعة صلاحيات المرشد العام تحت أربعة بنود :

  1. الإشراف على كل إدارات الجماعة وتوجيهها ومراقبة القائمين على التنفيذ ومحاسبتهم على كل تقصير وفق نظام الجماعة .
  2. تمثيل الجماعة في كل الشئون والتحدث باسمها
  3. تكليف من يراه من الإخوان للقيام بمهام يحدد نطاقها له .
  4. دعوة المراقبين العاملين الممثلين للأقطار للاجتماع عند الحاجة كل هذه الصلاحيات وهي واسعة لا شك هي اليوم بيد المرشد العام للجماعة السيد محمد حامد أبو النصر الذي تولي مسئولياته من 1986 بعد وفاة المرحوم عمر التلمساني المرشد العام السابق .

مكتب الإرشاد العام

مكتب الإرشاد العام كما تنص المادة هو القيادة التنفيذية العليا لجماعة الإخوان المسلمين والمشرف على سير الدعوة والموجه لسياستها وإدارتها كيف يتألف ؟

تنص المادة 19 على أن المكتب يتألف من ثلاث عشر عضوا عدا المرشد يتم اختيارهم وفق الأسس التالية:

(أ‌) ثمانية أعضاء ينتخبهم مجلس الشوري من بين أعضاء من الإقليم الذي يقيم فيه المشرد العام (بمعني مصر)
(ب‌) خمسة أعضاء ينتخبهم مجلس الشوري من بين أعضائه ويراعي في اختيارهم التمثيل الإقليمي .
(ت‌) يختار المرشد من بين أعضاء مكتب الإرشاد أمينا للسر وأمينا للمالية

ويلاحظ من نص المادة الحرص الشديد من جانب المشرع على أن يكون زمام أمر مكتب الإرشاد العام أيضا بيد تنظيم الجماعة في مصر ومن الغريب أن يصر واضح النظام على (مراعاة التمثيل الإقليمي المتوازن) عند انتخاب الخمسة في فقرة (ب) دون أن يكون لذلك أى (مراعاة) عند انتخاب الثمانية في فقرة (2)

لذا نجد أن مكتب الإرشاد العام الحالي مكون من :8 من الإخوان المصرين عدا "المرشد + أخ من الكويت وأخ من لبنان وأخ من الجزائر وأخ من الأردن وأخ من سوريا"

ومن الطبيعي في تركيبة كهذه أن يصبح الكويتي أمينا للمالية لضمان الدعم المالي للتنظيم الدولي وهو دعم للدعوة بقدر ما تكرس هيمنة نجوم المال عليها وبعض العالقين بهم مدة ولاية مكتب الإرشاد العام 4 سنوات هجرية؛

ويجوز اختيار العضو لأكثر من مدة أى يجوز عمليا أن تتحول عضوية مكتب الإرشاد إلى عضوية مدي الحياة مثلها مثل مسئولية المرشد العام وهذه ثغرة خطيرة في (النظام العام) للجماعة ينبغي معالجتها للحفاظ على حيوية وعصرية وأهلية القيادة التنفيذية الممثلة في مكتب الإرشاد العام

وتشترك المادة (2) من (النظام العام) للجماعة ينبغي معالجتها للحفاظ على حيوية وعصرية وأهلية القيادة التنفيذية الممثلة في مكتب الإرشاد العام على حيوية وعصرية وأهلية القيادة التنفيذية الممثلة في مكتب الإرشاد العام

وتشترط المادة (2) من (النظام العام) أن يتفرغ الذي تم انتخابه من عمله لعضوية مكتب الإرشاد العام حيث أن المكتب يجتمع تقريبا في كل شهر مرة واحد غير أن واقع الأمر لا يتلاءم مع هذا الشرط إذ أن عدد غير قليل منهم يباشر عمله في العبادات وتدقيق الحسابات وتجاوز الكتب وغير ذلك وتحدد المادة (24) من (النظام العام) مهام مكتب الإرشاد)

  1. تحديد مواقف الجماعة الفكرية والسياسية من كافة الأحداث العالمية
  2. الإشراف على سير الدعوة وتوجيه سياستها
  3. رسم الخطوات اللازمة لتنفيذ قرارات مجلس الشوري العام في جميع الأقطار .
  4. تكوين اللجان والأقسام المتخصصة في المجالات اللازمة
  5. وضع الخطة العامة .
  6. إعداد التقرير السنوى العام (القيادة – الأحوال العامة – المالية)

من يقرأ هذه المهام الضخمة ويستعرض اسماء وشخوص أعضاء مكتب الإرشاد العام للتنظيم الدولي للإخوان لا يسعه إلا أن يصاب بالإحباط لأن هذه المهام أكبر بكثير من قدراتهم الذاتية إذ كيف يتمكن عضو المكتب من (تحديد مواقف الجماعة الفكرية والسياسية من كافة الأحداث العالمية)

وهو بالكاد يقرأ عناوين الجريدة أما القراءة في الاتجاهات الفكرية والتاريخ المعاصر فهذا أمر غير وارد إطلاقا لأنه وأقولها ببساطة فاقد الشئ لا يعطيه هذا الوضع المؤسف المتدني في الكفاية والاقتدار الفكري والسياسي في قيادة الإخوان إنما نتج عن اهتمامها بالعناصر التنفيذية (التي تطيع طاعة مطلقة وإبعادها للعناصر المؤهلة فكريا وسياسيا والقلقة على مستقبل الدعوة تغليب هذا الأمر أى أهل الولاء على أهل الكفاية نتج عنه هذا التدني في مستوى القيادة لدي الجماعة

والعجيب في األمر أن بعض أعضاء مكتب الإرشاد العام ذهاب مذهبا بعيدا في الربط بين (التقوي والعلم) فإذا قيل له أن قدراته الفكرية والسياسية محددة للغاية وأكثر من متواضعة فكيف سيباشر بمهمته في (تحديد مواقف الجماعة الفكرية والسياسية من كافة الأحداث العالمية) قال ألم تقرأ قول الله (واتقوا الله ويعلمكم الله) (البقرة :282) ؟

حسب منطقة لا حاجة لأهل الاختصاص والعلم الدنيوي وهذا منطق وفهم أعوج للنص لو تبناه المسلمون الأوائل لما كان فيهم أبن الهيثم في علم البصريات والبيروني في الجغرافيا والخوارزمي في الرياضة وابن سينا في الطب والرازي في الطب والكيمياء وغيرهم من الأفذاذ الذين أثبتوا للعالم أجمع أن الإسلام مشروع نهضية بالإنسان ومن أجل الإنسان والمشكلة الذهنية والنفسية لدي أعضاء (مكتب الإرشاد العام) الحالي هي أنهم يصنعون عالما من الأوهام

ثم يتصورون أنه الحقيقية ويتعاملون معه على أنه كذلك : أى حقيقة فعلية وواقعية لقد تورطوا في أكثر من مأساة نتيجة لذلك كانت تأتيهم الأخبار الغير دقيقة والتقارير التي أعدها الهواة والشعراء والخطباء خول الوضع السياسي والعسكري في حماة (سوريا) 80 – 1982 فتورطوا في تحريض الناس على المواجهة العسكرية مع الحكومة السورية آنذاك ؛

وعندما سالت الدماء وطحنت الرؤوس تحت الأنقاض ودمرت المدينة من أثر القصف وزهقت الأرواح (30 ألف روح) نفض مكتب الإرشاد العام يده من الأمر وأخذ يبرر ويتلعثم ويسقط كل إخفاقات على الجهات الأخرى إن جريمة حماة في الأساس جريمة قرار غير مسئول وغير مدروس في مواجهة لم تستكمل بعد شروطها الموضوعية هذا إذا سلمنا بضرورة المواجهة أو بشرعيتها ؛

وكان ينبغي أن تشكل جماعة الإخوان محكمة لمحاكمة أعضاء قيادتها إبتداء من المرشد العام مرورا بأعضاء مكتب الإرشاد العام ووصولا لأعضاء مجلس الشوري لتحديد المسئولية وفرض العقوبات التنظيمية عليهم ومحاسبتهم على سوء تقديرهم للموقف؛

وعلى تجاهلهم لأصوات العقل والتريث والمدارسة التي انطلقت من قواعد الإخوان قبل حلول مأساة حماة لقد تم فصل أعضاء في جماعة الإخوان قضوا حياتهم في صفوفها وجرائمهم لا تتعدي مقالة هنا أو رأي هناك مناقض لرأي القيادة وها هي القيادة تتورط في جريمة حماة يذهب ضحيتها ألوف الناس دون أن يمس فرد منها بسوء أو بما ينكد مزاجه : أين المؤسسات العدلية في الجماعة ؟

ثم كيف إذن تجيز قيادة الجماعة لنفسها المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هزيمة حزيران 1967 (القتل 12 ألف جندي) ولا تقبل بمحاسبتها على جريمة وهزيمة حماة 1982 (القتل 30 ألف نسمة من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب)

لقد كان سوء تقدير الموقف داء بارز في ممارسات (مكتب الإرشاد العام) خاصة في مجال العلاقات السياسية وتفسير الأحداث الكبيرة والخطيرة مثل (الثورة الإيرانية)

ففور حدوث بادرت أمانة سر التنظيم الدولي للإخوان المسلمين بالاتصال بالمسؤولين الإيرانيين بغية تشكيل وفد من الإخوان لزيارة إيران والتهنئة بالثورة وتدارس سبل التعاون وفعلا عينت غيران ضابطا للإتصال بالتنظيم الدولي للإخوان وهو (كما خرازي) واجتمعت أمانة التنظيم الدولي للإخوان في "لوجانو – سويسرا" بتاريخ 14 / 5/ 1979 لدراسة القرارات بشأن العلاقة بإيران؛

واتخذت بعض القرارات السريعة منها :

(1) تشكيل وفد من الإخوان لزيارة إيران وتقديم التهاني بمناسبة نجاح الثورة الإيرانية والإطاحة بالشاه وقد تشكل الوفد من (عبد الرحمن خليفة- أردني) المرحوم جابر رزق (مصري) – المرحوم سعيد حوي (سورى) غالب همت (سورى) – عبد الله سليمان العقيل (سعودي) وفعلا تمت الزيارة في الشهر السادس 1979 ونشرت أخبارها في الصحف الإيرانية بالعربية ومعها صور الأعضاء الوفد وهم يزورون القيادة الإيرانية .
(2) إصدار كتيب عن الثورة الإيرانية لإبراز الإيجابيات الصادرة عن الثورة وقيادتها من أقوال ومواقف
(3) بناء صلات تنظيمية مع حركة الطلبة المسلمين في إيران عن طريق الاتحاد العالمي للطلبة المسلمين وتنشيط عملية الترجمة من وإلى الفارسية خاصة فيما يتعلق كتابات الإخوان
(4) تزويد إيران بالفعاليات الإعلامية للإستعانة بها في المؤسسات الإعلامية للثورة في إيران ورغم هذا التهافت السريع تجاه إيران لم تبد القيادة في إيران حماسا كثيرا له رغم أنه أستحسنته وقبلته ورحبت به
وأدرك الطرفان بعد فترة غير وجيزة (1984 -1985) أن (بينهما برزخ لا يبغيان) وبدلا من أن يتدارس الإخوان أوراقهم ومواقفهم ويضعوها في أطرها السياسية العامة انتقلوا للطرف الآخر من الطيف السياسي فشكل التنظيم الدولي للإخوان لجنة أسموها بتسمية تدل على قصور سياسي بين ؛
وهكذا تشكلت (لجنة فتح إيران) وجعلوا من عمان (الأردن) مقرا لها وعينوا لها رئيسا وأفرزوا لها العناصر ووضعوا لها الميزانية من أموال أعضاء الجماعة الذين يدفعونها ولا يعرفون كيف تصرف ولا فيما ذا أنفقت فالثقة بالقيادة " مطلقة وعميا "

ومن غريب الأمور أن تكون مهمة هذه اللجنة بل إحدي مهامها تحويل الشعوب الإيرانية إلى مذهب السنة وكأن المرقد صار من أولويات العمل الإسلامي على افتراض إمكانيته ألم يكن من الأولي أن يشكل التنظيم الدولي للإخوان بقيادته التي تفتقر للشرعية والأهلية لجنة لفتح القدس وتحرير الأقصين ؟ لكنه القصور السياسي وسوء تقدير الموقف الذي يجعل صاحبه يتعامل مع الأوهام وكأنها حقيقة .

مجلس الشوري العام

مجلس الشوري العام هو السلطة التشريعية لجماعة الإخوان المسلمين ملزمة ومدة ولايته أربع سنوات هجرية يتألف مجلس الشوري العام من ثلاثين عضو على الأقل يمثلون التنظيمات الإخوانية المعتمدة في مختلف الأقطار؛

ويتم اختيارهم من قبل مجلس الشوري في الأقطارأو من يقوم مقامهم يحدد عدد ممثلي كل قطر بقرار من مجلس الشوري ويرشح مكتب الإرشاد العام ثلاثة أعضاء (من ذوي الاختصاص والخبرة)

للإنضمام بصفتهم الشخصية لمجلس الشوري العام صلاحيتها ومهمات مجلس الشوري العام نظريا كبيرة وواسعة ولكن عمليا لا يجتمع إلا وقد سبقته اتصالات تمهيدية مكثفة لتمرير ما يعرض عليه من طرف مكتب الإرشاد العام أو المرشد العام؛

وتتحدث المادة 38 من النظام العام عن حق مجلس الشوري في تشكيل محكمة عليا وحق تشكيل لجان تحكيمية عند الحاجة وثبت من الخلاف الذي حصل داخل تنظيم الإخوان السوري بين جناحي (أبو غدة) و(سعد الدين) انحياز هذه (المحكمة العليا) السافر لخط ورأي مكتب الإرشاد العام في هذا الخلاف دون أى مراعاة للحقائق الموضوعية بالقضية؛

من هنا صارت هذه المادة في (النظام العام) وسيلة بيد الهيئات القيادية في التنظيم الدولي للإخوان لكبح كل التيارات الجديدة المستنيرة داخل إطار الجماعة ويتكون مجلس الشوري العام من 38 عضو بالتشكيل التالي : المرشد العام و13 أعضاء مكتب الإرشاد العام وثلاثة أعضاء ثابتين بالتعيين مباشرة من المرشد العام ..

وبموافقة مجلس الشوري العام (أخ سعودي وآخر سورى والثالث مصري) و2 من تنظيم الأردن و 2 من اليمن و 1 من العراق و 1 من الإمارات العربية المتحدة و1 من البحرين و2 من السعودية 1 ممثلا لتنظيمات الإخوان في القارة الأوربية و1 ممثلا لتنظيمات الإخوان في القارة الأمريكية و3 من سوريا و 1 من الصومال و 1 من تونس و1 من قطر و1 من لبنان و2 من الكويت و1 من الجزائر

ولنا الملاحظات التالية على هذا التشكيل:

  1. مصر ممثلة بثقل غير عادي بالمقارنة باقي الأقطار فالمرشد العام هو رأس التنظيم الإخواني في مصر بالإضافة أن بين أعضاء مكتب الإرشاد العام 8 أعضاء من الإخوان المصريين فوق هذا وذاك مندوب السعودية هو من الإخوة المصريين المتجنسين بالجنسية القطرية هكذا يصبح الثقل المصري في مجلس الشوري العام مؤكدا 13 عضو من جملة 38 وهذه نسبة كبيرة جدا بالقياس لأعداد ممثلي الأقطار الكبيرة مثل سوريا والجزائر على سبيل المثال لا الحصر ولا يحركنا في هذا النقد لهذه الجزئية أى دافع إقليمي بقدر التأكيد على نقطة تجاوزها هذا التشكيل إلا وهو مراعاة التمثيل الإقليمي المتوازن الذي أشارت له المادة 19من النظام العام .
  2. يلاحظ أن أقطار الخليج والجزيرة ممثلة أيضا بثقل يفوق أهميتها بكثير فحاجة التنظيم الدولي للإخوان للمال يتم تلبية من خلال ذلك فأمين مالية التنظيم الدولي الذي يضبط أموال الجماعة ويحصر ما يرد منها وما يصرف ويراقب كل نواحي النشاط المالي والحسابي ويشرف على تنظيمها وفق (اللائحة المالية) هو مواطن كويتي (أصلا عراقي من البصرة) متواضع الثقافة والأهلية والمنشأ بالإضافة إلى ذلك فمندوب السعودية وقطر والإمارات والبحرين والكويت وعددهم سبعة يتم دائما توظيفهم في عملية جباية الأموال للتنظيم الدولي للإخوان وذلك غير اشتراكات الأقاليم الممثلة بمجلس الشوري التي حددت بنسبة معينة من الدخول المالية لأعضاء الجماعة كلها ويلاحظ أن قيادة الإخوان في مصر مستفيدة من ذلك كثيرا ولذا نجدها حريصة على استرضاء بعض العناصر القيادية في تنظيمات الإخوان في الخليج والجزيرة عبر دعوتهم إلى مصر لإلقاء بعض الدروس والمحاضرات إذا جاز التعبير في دورات النقباء هناك.

يلاحظ أن أقطار آسيا البعيدة (الفلبين – ماليزيا – بورما – الأفغان – الصين – إندونيسيا – وغيرها) غير ممثلة في مجلس الشوري العام وكذلك أفريقيا السوداء (نيجريا – الكاميرون – مالي – السنغال – وغيرها) ؛

مما يشير إلى محدودية نشاط التنظيم الدولي للإخوان هناك غير أنه من الملاحظ أن التنظيم الدولي بدأ يتنبه لذلك فنشط عبر (لجنة العالم الإسلامي) والتي يرأسها شاب كويتي قليل التجربة كثير المال للاتصال بالمجموعات الإسلامية هنا وهناك في آسيا وأفريقيا؛

وتوظيف معادلة الثراء والفقر لإحكام السيطرة على الأنشطة الإسلامية هناك ولدينا معلومات مؤسفة عن نشاط هذه اللجنة بين الشعوب الإسلامية هناك فحواها أن من (يبايع) التنظيم الدولي للإخوان يتلقي (الصدقات والزكوات والإعلانات والدعم)

ومن يرفض ذلك يحرم من كل شئ وهو نفس أسلوب تعامل مجلس الكنائس العالمي ووفود التبشيرة في أواسط شعوب آسيا وأفريقيا لقد ولدت نشاطات هذه اللجنة أجواء تسولية في بعض القطار الإسلامية أو الأقليات الإسلامية في آسيا وأفريقيا كل ذلك في سبيل أحكام السيطرة على التوجهات الإسلامية هناك وتوظيفها لصالح خط التنظيم الدولي للإخوان .

مكتب الإرشاد العام ومجلس الشوري العام لأن د. الترابي رفض مبايعة التنظيم الدولي للإخوان وذلك لأنه يعتقد حسب قراءتنا لموقفه أن لكل قطر خصوصيته ولا يجب أن تخضع كل الأقطار لتوجيه سياسي وفكري واحد وأن خير من يصوغ نظرية العمل والحركة في القطر هو أهله وليس أى طرف خارجي وأن هذا لا يمنع التنسيق والتشاور في الإطار العام للعمل الإسلامي ودون أى صورة من صور الالتزام أو الطاعة والأمر

البيعة المنصوص عليها في النظام العام للإخوان حملة واسعة ضد رأي د. الترابي وفصلوا كل التنظيمات السودانية والتشاور في الإطار العام للعمل الإسلامي ودون أى صورة من صور الالتزام أو الطاعة والمر (البيعة المنصوص عليها في النظام العام للإخوان المنشور في ملحق هذا الكتاب)

لقد شن التنظيم الدولي للإخوان حملة واسعة ضد رأي د. الترابي وفصلوا كل التنظيمات السودانية المشايعة له في أمريكا وأوروبا وحاولوا عزلها عن المؤسسات والمراكز الإسلامية هناك وشككوا في توجهاته وحتى في شخصه إذ اتهموه بأنه يطالب الزعامة وعندما أدرك التنظيم الدولي لإخوان فشل أساليبه إزاء (الجبهة القومية الإسلامية) وقيادتها حاول ولا يزال إصلاح ما بينه وبينها بأساليب شتى ؛

لقد أرسل التنظيم الدولي للإخوان عدة رسل للقاء الترابي وإقناعه بالبيعة غير أن الرجل أصر على موقفه (التنسيق لا البيعة) من هنا أثيرت قضية البيعة من حيث المبدأ في تنظيمات (اللجان الشرعية) لدارسة الأسانيد الشرعية إن وجدت

ولها وخرجت معظم هذه اللجان بأنه لا سند شرعي للبيعة المعمول بها في تنظيمات الإخوان وأن البيعة المنصوص عليها في الكتاب والسنة متعلقة (بالإمامة) للمسلمين وهذا أمر لا يزعمه حتى المرشد العام للإخوان نفسه؛

غير أن تنظيمات الإخوان لم تعلن ما توصلت إليه هذه اللجان الشرعية مخافة انفراط العقد لغياب الأحوال الموضوعية الإيجابية التي تحقق الوحدة الداخلية في تلك التنظيمات فأصبحت بذلك (البيعة) وسيلة فعالة أى محاول للإصلاح في الداخل ولضبط تحركات المتململين من الإخوان يقول الشيخ محمد الغزالي في آخر كتاب صدر له كلاما قيما حول هذا الموضوع (البيعة)

يقول:

" كان نقض البيعة في تاريخنا القديم يعني الخروج المسلح على دولة الخلافة فإذا به يتحول اليوم في أذهان بعض الشباب إلى مفارقة إحدي الجماعات العاملة في الميدان الإسلامي ورفض الولاء لشاب تعين أميرا على هذه الجماعة وقد شاعت أحكام فقهية مصدرها هذا الاطلاع الطائش "

والحقيقة من يتأمل موقف الحركة الإسلامية في السودان ممثلة بـ (الجبهة الإسلامية) بزعامة الترابي ويقارنها الحركة الإسلامية في مصر ممثلة (الإخوان المسلمون) بزعامة أبو النصر لا يملك إلا أن يتواصل لجملة من المستخلصات:

  1. استطاعت الحركة في السودان أن تبلور تكتيك الانتقال من حركة صفوية حزبية تنظيمية مغلقة تمثلت بـ (الإخوان المسلمون) هناك ما بين الأربعينيات والستينات إلى حركة جماهيرية مفتوحة تتمثل اليوم بـ (الجبهة القومية الإسلامية) التي استطاعت أن تفرض وجودها في السودان تارة في المعارضة وأخرى في الحكم وأخرى كقوة مرجحة في مجلس الشعب وفي كل الأحوال كقوة اجتماعية تأسست في قاع الحركة الاجتماعية اليومية في الشارع السياسي السوداني في المقابل نجد أن جماعة (الإخوان المسلمون) في مصر لم تزل تتمسك نفس التشكيل الإداري لهيئاتها (المرشد العام مكتب الإرشاد مجلس الشوري) منذ الثلاثينات حتى الآن أضف إلى ذلك أن هذه الجماعة نظرا لعجز الصيغة الحركية لا المنطلق الأيديولوجيلم تستطع أن تبلور أدوارها كمعارضة أو أن تستثمر سياسيا كما ينبغي وأن كان تحالفها مع (الوفد) و(العمل) يعد رقما إيجابيا في رصيد أدائها السياسي .
  2. استطاعت الحركة في السودان عبر صبغتها الجبهوية المرنة أن تستوعب الحالة الإسلامية في القطر وتوظفها لمنهاج الجبهة بينما نجد أن حماية الإخوان في مصر كقوة محجوبة عن الشرعية لم تستطع ذلك بل إن معظم التنظيمات الإسلامية الشابة الجديدة ليس على وفاق مع الإخوان .
  3. لهجة الخطاب السياسي والاجتماعي للحركة في السودان لا يقف عند حد البث العقائدي أو الديني المحض بل يوظف ذلك في القضية السياسية والاجتماعية ولا يطرحه كشرط للإسترشاد النظري ومن يقرأ كلمة الترابي والمطولة زعيم الجبهة الذي ألقاها في المؤتمر الثاني للجبهة يجد فيها شمولا سياسيا ودوليا يعكس عقلا ومنهجا تكاملت فيه شروط استيعاب الصورة بجبهاتها الأربع : من جهة ثانية من يقرأ تصريحات أو كلمات أبو النصر المرشد العام للإخوان في مصر لا يجد فيها تلك الأبعاد والآفاق ذلك أنها تثقف عند حدود البث الديني المحض ولا تخاطب إلا من ينتمي لجماعة الإخوان .
  4. استطاعت الحركة في السودان أن تؤسس شبكة واسعة من العلاقات السياسية مع أنظمة سياسية متباينة في خطوطها ومناهجها ويحظي زعيم الجبهة الترابي باهتمام دولي بين من مظاهره لقاءاته مع رؤساء الدول التي يزورها ومباحثاته مع المسئولين فيها في المقابل نجد أن جماعة الإخوان في مصر لم تنجح في تأسيس تلك الشبكة من العلاقات السياسية مع الأنظمة السياسية المتباينة ولا يبدو أن الجماعة تدرك عزلتها السياسية داخل مصر أو خارجها .
  5. نظرا لسيادة المنهجية الجبهوية التفاوضية المرنة استطاعت الحركة في السودان أن تستفيد من خبرات اتباعها ومشايعيها وأن تصقل مواهبهم الإدارية والتجارية والإعلامية والسياسية عبر استحداث الأطر والصيغ الحركة التنظيمية التي تتكفل بذلك ولذا نجد أن الجبهة في السودان في تطور كمي وكيفي (كم من الجمهور والأصوات السياسية وكيف من الاختصاصيين كل في مجاله) في الجهة المقابلة نجد أن جماعة الإخوان في مصر قد بدأت تفقد عددا كبيرا من أهل الكفاية والاختصاص وكذلك من الجمهور وأن معظم هيئاتها الإدارية والقيادية هم من (الحرص القديم) .
  6. تمكنت الجبهة في السودان أن تؤسس حركة نسائية منظمة ومستقلة ساهمت وتساهم في حشد وتنظيم وتوظيف القطاع النسوي في عمل اجتماعي شامل ومن يحتك برموز تلك المنظمة النسائية ويقرأ نشرياتها ويتمعن بخطابها الاجتماعي يلحظ أنها تجاوزت الحدود التقليدية التي تحوم حولها المنظمات النسائية في البلاد العربية وبدأت تطرح القضية الاجتماعية بشمول ووعي رغم تواضع الإمكانات وتزاحم العقبات في الجهة المقابلة نجد أن جماعة الإخوان في مصر لم تتمكن من ذلك برغم القابليات الهائلة في المجتمع المصري لذلك ولم يزل خطاب الإخوان للمرأة في مصر لم يتعد حدود ما يجوز للمرأة أن تفعله .
  7. التركيب القيادي في الجبهة السودانية (القومية الإسلامية) يحسن التواصل مع التطورات في الساحة ويدرك أهمية التفاصيل في تلك التطورات وضرورة متابعتها بينما نلاحظ أن قيادة الإخوان في مصر لا تحسن ذلك ولا تهتم بتفاصيل الموقف وتطوراته في ساحة مصر ودائما تنطلق من عمومية غير مبينة أساسا على نظرة موضوعية وواقعية ربما يفسرهذا البطء في الحركة والرتابة في التفكير والسلحفائية في اتخاذ القرار العزلة التي عاشها معظم قادة الإخوان في مصر في السجون فأبو النصر وقبله التلمساني ومشهور وحسني عبد القادر وأحمد الملط وغيرهم قضوا فترات طويلة في السجون (ما بن 15 -2 سنة) انقطعوا فيها تماما عن العالم وتعرضوا فيها لأبشع المعاملة وقد انعكس ذلك على موقفهم المعلوماتي والفكري والنفسي وهذا أمر متوقع ومفهوم فللسجن آثاره الخطيرة على الإنسان وإنتاجه وفكره وموقفه النفسي من المجتمع المحيط أفلا رأيت ماذا حدث لفكر سيد قطب رحمه الله جراء السجن واضطهاد فقط قارن بين (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و(معالم في الطريق) كتب الأول وهو حر طليق يتمتع بكامل حقوقه المدنية فجاءت إشراقاته وتجلياته وكتب الثاني وهو في الزنزانة يتعرض لصنوف من العذاب رحمه الله أجزل له المثوبة فجاء (المعلم) زنزانة فكرية هذه الحالة من الاضطهاد لم يعايشها قادة الجبهة والحمد لله ولذا نجد تواصلهم مع المحيط أكثر حيوية ورشاقة وسرعة .

خلاصة

حاولت هذه الورقة أن أعرض وأنقد التاريخ السياسي لجماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها في الإسماعيلية 1928 حتى اليوم وعرضت للمراحل التي مرت بها قبل ثورة 1952 وبعدها من حيث هي حركة "دينية – سياسية"

وقد ركزت على المحاور الرئيسية في تاريخ الجماعة والتواريخ المفصلية والأشخاص الذين شاركوا فيها بغية استخلاص بعض النتائج التي بلورتها بشكل مقارن مع نفس الرافد في القطر السوداني فالمقارنة في كثير من الأحيان توضح ما يصبو إليه الباحث بشكل أكثر مباشرة وجلاء بذلت جهدي أن ألتزم بالمهمة الرئيسية لهذه الورقة .

ما يهمنى أن أؤكد كخلاصة أن جماعة الإخوان نشأت في مرحلة وضمن شبكة من الظروف السياسية والاجتماعية التي عاشتها مصر كتلبية موضوعية لحالة موضوعية أثمرت وقتها ثمارا موضوعية لا شك أن مصر أفادت منها كما أفادت بعض الأقطار العربية وقتها (سوريا واليمن وفلسطين كمثال)

غير أن الحال اليوم غيره بالأمس ولذا نستطيع أقول أنه إذا أرادت جماعة الإخوان في مصر البقاء والنمو والتأثير فعليها في تصوري أن تعبد النظر في كثير من الأمور:

  1. لم يعد التركيب الإدارية القيادية للجماعة مجديا اليوم بل أصبح هو ذاته عقبة أمام الدعوة الإسلامية في مصر وبعض الأقطار العربية التي امتدت إليها يد الجماعة نفسها أقصد أن العصر لم يعد يحتمل (المرشد العام مكتب الإرشاد ومجلس الشوري)
  2. وهو تركيب يكرس من الأمراض الإدارية في القيادة وأهمها تركيز السلطة والقرار بيد فئة قليلة من الأشخاص ربما يعدون على أصابع اليد الواحدة كما هو حاصل من الأشخاص ربما يعدون على أصابع اليد الواحدة كما هو حاصل اليوم لابد من التفكير بصيغة تفتت مواقع السلطة الإدارية القيادية وتنقلها للقواعد وتفوضها للمستويات الأدني من الهيئات الإدارية القيادية التي ينبغي التفكير باستحداثها فنحن اليوم في عصر كثرت فيه التساؤلات جراء الثورة المعرفة والمعلوماتية التي نتجت عن تطور وسائل المعرفة والاتصال ولم يعد من الممكن القبول بفكرة (الإمام) المرشد الحجة ذو العلم المحيط الذي ينهل منه الناس الحكمة والمعرفة والرأي السديد هذا زمن المؤسسات الكبيرة والنظم المرنة وتوفير متطلبات الابتكار وسيطرة العلاقات أكثر من سيطرة الهيكل وتكثيف دور الاختصاصيين لا تهميشهم وتفتيت السلط لا تركيزها وتعقيد قرار الحرب والسلام لا تبسيطه وكل ذلك غير متحقق في جماعة الإخوان بصيغتها الإدارية الحالية .
  3. ينبغي التفريق بين الدين كمعتقد وغاية والتنظيم كحشد ووسيلة ذلك أن الخلط الحاصل بين الاثنين في جماعة الإخوان صار أحيانا يؤدي إلى استعمال الدين كوسيلة بغية الحفاظ على التنظيم كغاية وهنا مكمن الخطر على الدين والتنظيم والمجتمع السياسي الذي يتجاذبان فيه الدين لا يمكن القبول بنقده لكن لأن الخلط حاصل بين الدين والتنظيم صار أيضا ليس مقبولا نقد التنظيم وهنا مكمن الخطر أيضا على الدين والتنظيم والمجتمع السياسي الذي يتجاذبان فيه لذا ينبغي تشجيع النقد الذاتي للتنظيم وفتح المجال أمام الجميع في ممارسة هذا الحق الطبيعي الذي باتت تعترف به كل النظم والجماعات والأحزاب في هذا العصر ولا يبدو أن قيادة الإخوان في مصر مقتنعة بهذا التأصيل كلما شجعنا النقد الذاتي كلما هيأنا ظروفا أفضل لأداء أفضل والعكس بالعكس .
  4. الذي يتفحص (النظام العام) للإخوان أى النظام الأساسي للجماعة يركز في قراءته على العقوبة وشروطها من المادة 4 -7 يلحظ أن كل المواد تتحدث عن واجبات العضو والعقوبات والإجراءات الجزائية التي تتخذ في حقه إذا قصر في الأداء لكن ليس هناك نص واحد يتحدث عن حقوق هذا العضو إزاء الجماع (هيئات وقيادات) ولذا صارت قواعد الإخوان لا تتحمس حقوقها بل لا تشعر بأن لها حقوق إزاء قيادتها ونظرا لهذا التدني في الوعي الحقوقي داخل الجماعة أفرزت أجزاء ومناخات وعلاقات غير سليمة في الهيئات القيادية ذلك أنها أدركت حصانتها من المساءلة والمراقبة من جهة ثانية صارت عملية (فصل العناصر المتبرمة) أو تجميد عضويتها أو عزلها عزلا تدريجيا عادي ويومي تمليه مزاجية فلان أو علان في الهيئة القيادية لقد تم فصل وتجميد وعزل مئات من العناصر الرشيدة والواعية والواعدة والمعتدلة دون أن تشكل لجان تظلم أو التحقيق أو المساءلة لقد كانت الحال أفضل في الخمسينات؛ففي 1953 نشب خلاف داخل جماعة الإخوان بين القيادة وبعض الأعضاء فشكل مكتب الإرشاد برئاسة الهضيبي لجنة للتحقيق في 16 تهمة موجهة لثلاثة من الأعضاء وهم الإخوان (صالح عشماوي – الشيخ محمد الغزاليأحمد عبد العزيز) كانت المداولات التحقيقية في 8 جلسات استغرقت 34 ساعة من النقاش طبعا من المعروف أن الإخوان الثلاثة فصلوا لكنهم تمكنوا من إبداء وجهة نظرهم وأعطوا فرصة جيدة للدفاع عن أنفسهم أما اليوم فعشرات بل مئات من الأعضاء يتم فصلهم أو تجميدهم دون استدعائهم أو التحقيق معهم دع عنك إعطائهم أى فرصة لإبداء وجهة نظرهم أو الدفاع عن أنفسهم وهذا الأمر لا تقره لا الشريعة ولا حتى (القوانين الكافرة) التي يشجيها الإخوان وهذا الوضع يؤدي طبعا إلى كثير من الشروخ والكسور والانشقاقات في الجماعة وكل هذا حاصل ولا داعي لنكرانه والأولي إصلاح هذا المر وتوفير مؤسسات عدلية للتظلم على أن تكون هي القيادة فتصبح هي الخصم والحكم في نفس الوقت فمن الممكن أن يتم انتخابها (لا تعينها) بين من يشهد لهم بتحرى الدقة والتثبت والتبين في إطار من السماحة والسعة والنفسية والفكرية والإيمانية بحقوق الإنسان بما أنه إنسان فالتثبيت إذا لم يكن في هذا الإطار وبهذه الروحية تحول إلى تصيد وملاحقة وهذا ما يصلح الأمر .
  5. وعندما تستكمل جماعة الإخوان الشروط الموضوعية للإصلاح الذاتي (التركيب القيادي المؤسسات العدلية داخل الجماعة إصلاح المفاهيم التنظيمية الخ) عليها في رأيي أن تنفتح سياسيا على القوى السياسية والاجتماعية الجديدة وعلى الأنظمة السياسية بشتي راياتها ومسمياتها وتأسيس من خلال ذلك شبكة من الاتصال والتواصل السياسيين مع العالم الذي يحيط بها فأخطر شئ على أى حركة أيا كانت الراية التي ترفعها (العزلة) فمن خلال شبكة الاتصال السياسي هذه تكتسب شرعيتها السياسية والاجتماعية وبالتالي القانونية ينبغي محو صورة (الجماعة السرية التي يكتنفها الغموض والمشبعة تاريخيا بقابليات اللجوء إلى العنف) وتأسيس صورة أخرى أكثر إشراقا وسلمية والصورة في العقل بالنسبة للحركة أى حركة ربما الاتصال السياسي والتشاورى التفاوضي مع القوي السياسية والاجتماعية المختلفة ومع الحكومة وتأسيس أرضية في تأني وتمهل وعلى مدي طويل وبدأب ومثابرة للخلاف الرفيع والثقة الشخصية بين القيادات أعني قيادة الجماعة وقيادات القوي السياسية والاجتماعية المختلفة وكذلك قيادات الحكومة والأجهزة الحكومية والكف عن تصوير المشكل السياسي على أنه (حق وباطل) في صراع دائم وأن الخلاص السياسي لا يكون إلا على يد (سيد الشهداء) يقول كلمة الحق للإمام (الجائر) فيقتله الأخير إن القضية اليوم أعقد بكثير من ذلك ولذا تستوجب من جماعة الإخوان والجماعات الأخرى مراجعة كثيرا من ذلك ولذا تستوجب من جماعة الإخوان والجماعات الأخري مراجعة كثيرا من المفاهيم التي تحملها حول الإسلام خاصة في مجال التعاطي السياسي .
  6. ربما إذا نجت جماعة الإخوان في ما أسلفنا بند 4 أيضا تنجح في تطوير خطابها السياسي والاجتماعي بحيث يبدو أكثر واقعية وملاصقة للتفاصيل وبعدا عن التعميم كما هو حال خطاب الجماعة اليوم .
انتهي والحمد لله

من أصول العمل السياسي للحركة الإسلامية المعاصرة

عدنان سعد الدين

  • انضم لحركة الإخوان المسلمين في 5/7/1945 واستمر على صلته بها وولائه لمبادئها منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا .
  • استلم مهمة المراقب العام للإخوان في سورية عام 1975 وما زال في مواقع قيادية في تنظيم الإخوان ولا سيما في الحقل السياسي حتى كتابة هذه السطور .

نظام الشوري

فالشوري تعني مناقشة وتقليب النظر في أمر من الأمور العامة أو شأن من شئون الأمة أو البحث في إحدي القضايا ذات الصلة والمساس بمصالح الشعب أو الوطن وتمحيصها من المفكرين والعلماء وأصحاب المشورة للوصول إلى الأفضل والأصوب والأقرب إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد .

لهذا كله فقد أنزلتها الرسالة الإسلامية منزلة عظيمة وبوأتها الشريعة السمحاء مكانة كبيرة في أصول التشريع وخص الكتاب المبين الشوري بإحدي سوره الخالدات واعتبر الالتزام بأحكامها والتخلق بآدابها من مكونات الشخصية الإسلامية ومن صفات المؤمنين الصادقين

وتأكيدا على أهمية الشوري وردت في القرآن مقرونة بفرائض عينية لا يتم الإسلام ولا يكتمل الإيمان بدونها كالصلاة والإنفاق واجتناب الفواحش فقال جل شأنه (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقنهم ينفقون) .

وهكذا دخلت أحكام الشوري وآدابها في حياة الفرد والأسرة وفي العبادات والمعاملات فالآية الكريمة من سورة البقرة تشير إلى شأن من شؤون الأسرة الخاصة بالزوجين فتقول : (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) .

وقد أكثر المفسرون والفقهاء والحكام من التحدث عن الشوري ومكانتها وأهميتها وتأثيرها في كتب التفاسير والأحكام السلطانية والسياسية الشرعية حتى اعتبرها كبار المصلحين ظاهرة صحيحة ودليلا ساطعا على رقي المجتمع وازدهاره كما اعتبروا غيابها دليلا على فشو الظلم والاستبداد فالخليفة العادل عمر بن الخطاب يقول : " لا خير في أمر أبرم من غير شورى " كما ورد في كتاب النظام السياسي في الإسلام لمؤلفه محمد عبد القادر أبو فارس ..

استشارة الرسول صلي الله عليه وسلم:

كان رسول الله صلي الله عليه وسلم أكثر الناس استشارة لأصحابه يستشيرهم في الأمور الكبيرة والصغيرة وفي أيام السلم وإبان الحروب ويسأل الرجال والنساء ويصغي لآرائيهم فرادي وجماعات يستشير المسلمين في معركة بدر فيشير الصحابي الحباب بن المنذر بتغيير الخطة في القتال فيأخذ برأيه ويقول له: لقد أشرت بالرأى.
كما ينزل رسول الله صلي الله عليه وسلم على رأي أصحابه في معركة أحد وبالرغم من أن المسلمين خسروا المعركة فإن القرآن الكريم أكد على مبدأ الشوري فنزل قوله تعالي بعد معركة أحد (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر) فإذا خسر المسلمون جولة أو معركة وتأصيل مبدأ الشوري في مجتمعهم خير لهم ألف مرة من أن يؤول أمرهم إلى تسلط حاكم ظالم وينتهي حالهم إلى الاستبداد والاستبعاد .

الصحابة يستشبرون:

لقد سار الخلفاء والأصحاب على نهج نبيهم وقائدهم في الحياة السياسية وطبقوا نظام الشوري في عصر الراشدين فالصديق يستشير الفاروق ويجمع الصحابة للتداول معهم في أى موضوع لا يجد فيه نصا من كتاب وسنة وكذا كان يفعل عمر بن الخطاب وعثمان وعلى وقادة الفتح
ففي أثناء الصراع مع الفرس طلب قائد الجيش الكسراوي لقاء مع قائد المسلمين للتفاوض معه وبعد أن عرض الفارسي مالديه أجابه قائد الجيش : أمهلني حتى أستشير القوم ولهذا نحن نهزمكم دائما فنحن لا نؤمر علينا من لا يشاور كما نقل ذلك صاحب كتاب النظام السياسي في الإسلام من كتاب سراج الملوك للطرطوسي .
فالصديق رضي الله عنه يتخذ قراره في حرب المرتدين بعد استشارة واسعة للصحابة أقنعهم بما أورد من نصوص وما ساق من حجيج وهذا ما فعله الفاروق في أرض السواد وما اشترطه على من وجوب العودة إلى أهل الشوري ليقولوا رأيهم في استلامه إمارة المؤمنين .

من ثمرات الشوري

وقد أطنب من تحدث عن فوائد الشوري ومنافعها وما تجليه من خير وعن مآسي الاستبداد وما يجره على الأمة من الويل فقد ساق الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس في كتابه النظام السياسي في الإسلام نقولا عظيمة من كتاب السالفين مثل المقولة العظيمة لأمير المؤمنين على بن أبي طالب وهو يتحدث عن فوائد الشوري
فيقول : في المشورة سبع خصال استنباط الصواب واكتساب الرأي والتحصن من السقطة وحرز من الملامة ونجاة من الندامة وألفة القلوب واتباع الأثر وكالذي أورده على لسان الأحنف ابن قيس عندما سئل بأي شئ يكثر صوابك ويقل خطؤك فيما تأتيه من الأمور وتباشره من الوقائع ؟ قال : بالمشاورة لذي التجارب .

حكم الشوري

تحدث كثيرون في القديم والحديث عن الشوري وحكمها في الإسلام فرجح الفخر الرازي في تفسيره الكبير أنها واجبة لأنها جاءت كما يري على صيغة الأمر مما يقتضي الوجوب كما رجح ذلك القرطبي في تفسير وقد روي أبو هريرة فيما أخرجه البخاري فقال: ما رأيت أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلي الله عليه وسلم .

ولكن الآراء تختلف حول الشوري التي هي دعامة من دعامات الحياة السياسية وقاعدة من قواعد الحكم في الإسلام فثمة رأي يقول بأنها ملزمة وثمة رأي آخر يقول بأنها معلمة فالشوري الملزم هي التي تجعل الحاكم أو المسئول مقيدا بالقرار الذي يصدر عن الجماعة ممثلة في مجلس نيابي أو بالمشورة التي تصدر عن أهل الحل والعقد ؛

كما هو التعبير الشائع في الفقه الإسلامي والذي يقولون بالشوري المعلمة ذكروا بأن السلطان أو الحاكمة أو الأمير أو الملك أو أمير المؤمنين أو رئيس الجمهوري يستشير العلماء والفقهاء والمفكرين وأصحاب الخبرة لكنه في النهاية ليس ملزما بآرائهم بل يفعل ما يراه حسنا ويدخل ضمن قناعاته طالما أنه لم يخالف النص أو يخرج عليه .

الشوري واجبة وملزمة

إذا تتبعنا رأي الفقهاء والمفكرين والمجتهدين المحدثين والمعاصرين نجد أنهم قد انتهوا إلى إلزامية الشوري للمؤسسين بعد صدورها عن المجالس المختصة والهيئات المعنية مستأنسين بالنصوص الواردة في المصدرين الأساسيين القرآن الكريم والسنة المطهرة .

ففي القرآن الكريم وردت آيان كريمتان حول الشوري .الأولي : (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) والبعض يفهم من هذا أن الإمام يستشير ثم بعد ذلك يعزم على ماذا يعزم؟ على تنفيذ رأي لا يراه ؟

أم على رأي يخالف فيه أهل الشوري والاختصاص والدراية بمجموعهم أو بجمهورهم ؟ إن الشوري لا تتناقض مع العزم بعد أن يتضح الأصوب والأصلح والآية الثانية تصف أمر المؤمنين في حياتهم وفي صلاتهم وعلاقاتهم وفي صميم شؤونهم بأنه يقوم التفاهم والتشاور وصولا إلى الأمثل والأفضل .

وأما السنة وهي الأصل الثاني أو الأساس الثاني في الإسلام فنجد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد ذهب في الشوري مذهبا بعيدا إذ كان كثير الاستشارة لأصحابه ولآل بيته وللرجال والنساء وللكبار والصغار ولعامة الناس بأشكال مختلفة وطرق متنوعة أى أنه صلي الله عليه وسلم كان يعلم سواد الناس على المشاركة والتفكير وتحمل المسؤولية .

كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر : لو اجتمعنا على أمر ما خالفتكما وفي هذا إشارة واضحة إلى مبدأ الأكثرية فإذا وجد ثلاثة والتقي اثنان منهما على رأي فما على الثالث إلا أن ينزل على رأي صاحبيه هذا ما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو نبي مرسل يوحي إليه وذلك تأصيل للشورى والمشاركة وإشارة إلى مفهوم الأكثرية فكيف يكون موقف المسئولين في الحكومات والأحزاب والشركات وهم ليسوا أنبياء ولا ينزل الوحي عليهم ؟!..

وفي العادة تتقلص دائرة الشوري ويضيق هامشها في إبان الحروب جراء الظروف التي لا تسمح باتساع دائرة الحوار ومع ذلك وحرصا من الرسول الكريم على تثبيت هذه الدعامة في حياة المجتمع الإسلامي فإنه صلي الله عليه وسلم؛

فإنه في أثناء الحروب التي خاضها المسلمون في بدر وأحد والخندق استشار أصحابه ونزل على آرائهم دون أن نري في كتب السيرة أنه صلي الله عليه وسلم عاتب أصحابه على آرائهم التي لم تؤد إلى نتيجة التي كانوا يتوخونها فلم يقل لهم : أرأيتم عندما تحمستم للخروج من المدينة إلى أحد وخالفتم رأيي ماذا حل بكم ؟ كيلا يتقلص تفكيرهم وحتى لا تضيق دائرة مشاركتهم لأنهم كانوا يصدرون فيما ارتأوه عن إخلاص واقتناع .

موقف الفقهاء المعاصرين

عندما نقف على فقد العلماء والمجتهدين المعاصرين ونقرأ ما كتبوه وما صدر عنهم نري أن عدد كبيرا من المتضلعين منهم والموثوقين في علومهم وأماناتهم قد قالوا بالشوري الملزمة أو انتهوا إليها .

فالشهيد حسن البنا رحمه الله قال في أول حياته بالشوري المعلمة وكان متحمسا لها ويحمل إخوانه بالحوار على الأخذ بها ولكنه في أيامه الأخيرة انتهي إلى الأخذ بالشوري الملزمة وترك لنا قانون الجماعة التي صاغته لجنة مؤلفة من: الأساتذة (عبد الحكيم عابدين وطاهر الخشاب وصالح عشماوي رحمهم الله) وكان الأستاذ حسن البنا على رأس هذه اللجنة التي قدمت مشروع النظام ؛

وتم إقراره في عام 1948 أى قبل استشهاده بعام واحد لينص على الأخذ والالتزام برأي الأكثرية وإذا ما تعادلت الأصوات فإن رئيس الجماعة أو الإدارة يكون مرجحا وهذا هو المعمول به في كل المؤسسات المعاصرة في معظم أنحاء العالم .

وكأننا بالأستاذ البنا رحمه الله قد أخذ بالشوري المعلمة عندما كان تلامذته ناشئين وبعد أن بلغوا مرحلة متقدمة في الوعي والفهم وانتهي إلى الأخذ بالشوري الملزمة لتكون أصلا ثابتا في القانون الأساسي للتنظيم الذي أنشأه وقاده .

وللمودودي رحمه الله موقف يشبه موقف الشهيد حسن البنا إذ قال بالشوري المعلمة ونص في كتابه نظام الحياة في الإسلام أنه يجوز لرئيس الدولة أن يستأثر بحق الرفض والرد ثم انتهي به المطاف وبلغت به التجربة الطويلة عبر قيادته للتنظيم الذي أسسه وقادة أن يعدل عن هذا الرأي ويأخذ بمبدأ الشوري الملزمة؛

ويثبت ذلك في كتابه الحكومة الإسلامية وينص على التسليم بما يجمع عليه أهل الشوري أو أكثريتهم وإلا فإن الشوري في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها كما يقول المودودي رحمه الله .

وفي حوار مع الدكتور معروف الدواليبي الذي قام على تدريس أصول الفقه في جامعة دمشق لفترة طويلة أكد رأيه في الشوري الملزمة ونوه بأن هذا الأمر قد بلغ كما يرى مستوى الإجماع؛

ومن قالوا بإلزامية الشوري الشيخ سعيد حوي وقال : هذا الأمر من الموضوعات التي يفاصل عليها ولا يستطيع أن يتساهل بها أو يسكت عليها لأنه بالغ الأهمية في حياة الأمة ومستقبلها كما قال بذلك الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه الفرد والدولة ونص على الأخذ بري الأكثرية أيضا أما الأستاذ محمد الغزالي ؛

فقد نشر في مجلة الأمة القطرية العدد 43 تحدث فيه عن البيعة والشوري كاملا صريحا ووصف من زعم بأن الشوري غير ملزمة بعبارات حادة فقال: أرفض من يقول : الحاكم في الإسلام يتصرف بدون مجلس شورى تشير عليه وله أن ينفرد برأيه متخطيا كل رأي يعرض عليه هذا كلام لا يمكن أن يقال وصاحب الرسالة المعصوم عليه الصلاة والسلام ما زعم لنفسه فكيف يزعم للآخرين ؟!..

القول بأن الشوري لا تلزم أحدا كلام باطل ولا أدري من أين جاء لعل فكرة عدم الزامية الشوري وفكرة المستبد العادل كلها كانت فلسفة لواقع معين لتبرير وتسويغ الاستبداد السياسي من فقهاء السلطة؛

ويتابع الأستاذ الغزالي حواره مع مجلة الأمة فيقول : فالذي رأيناها في سيرة النبي صلي الله عليه وسلم أنه التزم بالشوري أن الشوري من مبادئ الإسلام وقبل أن تقوم للمسلمين دولة قيل لهم : مجتمعكم هذا الذي لا يتحول بعد إلى دولة يجب أن يقوم أمره على الشوري (وأمرهم شورى بينهم) كان ذلك في العد الملكي وعندما قام المجتمع على دولة بعد أن انتقل إلى المدينة

فإنه قيل للرسول صلي الله عليه وسلم بعد هزيمة أحد (وشاروهم في الأمر) وكان أول اختبار للشورى في غزوة الأحزاب عندما كاد النبي صلي الله عليه وسلم يمضي معاهدة بينه وبين القبائل الوثنية المحدقة بالمدينة والتي توشك على اقتحامها فلما عرض ذلك على زعيمي الأوس والخزرج رفضا ذلك فقبل الرسول منهما رأيهما وأخذ به هذا كلام الشيخ الغزالي .

ومن مشاهير الشيوخ وجهابذة العلماء الذين قالوا بالزامية الشوري الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله فقد التزم به وارتضاه لنفسه طيلة الفترة التي كان فيها مسئولا عن تنظيم الإخوان في سورية؛

وكذلك الشيخ محمود شلتوت في كتابه "من توجيهات الإسلام" والدكتور يوسف القرضاوي والشهيد سيد قطب والشهيد عبد القادر عودة والدكتور محمد عبد القادر أبو فارس وغيرهم فهؤلاء جميعا قالوا بإلزامية الشوري مؤكدين ذلك في كتبهم ومحاضراتهم وما خلفوه لنا من تراث فكري وآثار علمية ثمينة .

دائرة الشوري

والشوري أنواع من حيث اتساعها وحدودها والفئات أو القطاعات التي تشارك أو تستشار ومن ذلك ما يحدث عبر وسائل الإعلام وسبل الاتصال المباشر وغير المباشر وأشكال الاستفتاءات التي تعمد إليها بعض المعاهد والمؤسسات للوقوف على اتجاهات الرأي العام أو بعض شرائحه الفاعلة كالعمال والموظفين والفلاحين والحرفيين والتجاريين ؛

ومن ذلك ما يشير به أهل الاختصاص ليقدموا حصيلة علومهم وتجارتهم وخبراتهم في شورى استشارية حينا أو ملزمة حينا في موضوعات محددة وقضايا ذات أثر بالغ في المجتمع ومن ذلك أيضا ما يصدر عن المجالس النيابية المنتخبة أو مجالس الشيوخ التي تجمع بين التعيين والانتخاب وكذا أهل الحل والعقد وغير ذلك من أشكال التمثيل في الهيئات التشريعية والبرلمانية .

إن أرقي نمط في الشوري وأقواه هو الذي يشارك فيه أفراد الشعب بمجموعهم ليصدر عنهم قرارات قطعية تمثل إرادة السواد الأعظم ويشكل إجماع الأمة أو الأكثرية المطلقة من أبنائها ومثل هذا اللون من الشوري ملزم لجميع السلطات ولكل ذي ولاية في الدولة مع إبداء تحفظ شديد حول استفتاءات الـ 99,99

وحصر الانتخاب في مرشح واحد يفرضه الحزب الوحيد أو السلطة التنفيذية والإشراف المباشر من المرشح أو حزبه أو من يمثله فهذا صور شوهت الشوري وأزرت بالديمقراطية وعبثت بإرادة الأمة وجعلت الشعب سخرية للشعوب الأخرى حتى صار الحكم الفردي في نظر كثيرين أقل ضررا من ديموقراطية ممسوخة وشورى مزيفة .

وسبب الترجيح للرأي القائل أن يشارك في الشوري كل مواطن عاقل بلغ سن الرشد أن الضمير في آيتي الشوري يعود على جميع أبناء الأمة (وشاروهم في الأمر) و(وأمرهم شورى بينهم) كما أن الضمير في آية الاستخلاف تعود على مجموع أبناء الأمة (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)

وهو الرأي الذي أيده الدكتور محمد عبد القادر فارس في الصفحة 110 من كتابه النظام السياسي في الإسلام وأشار إليه الشهيد سيد قطب في كتابه الظلال اذي نقله عنه الدكتور فارس ؛

وأثبته الدكتور حسن الترابي في محاضرات عن الحرية والوحدة والشوري والديمقراطية جمعها في كتاب قال فيه : فلابد إذا لتحقيق أتم المشاركة الشعبية في الحكم من أن تفشو الشوري في الحياة كلها وتتصل بنظمها كافة ونصوص أخرى من ذلك الكتاب أكد فيها الدكتور الترابي على المشاركة العامة في الشوري وفي الحياة السياسية.

الديمقراطية

بعد صراع شديد وتضحيات هائلة حقق المجتمعات الغربية إنجازا عظيما في حياة الإنسان وتاريخه الحضاري عندما تحرر من سلطان الملوك المستبدين والأباطرة المتأهلين ورجال الأكليروس ليضحي حرا طليقا يفكر من غير خوف ؛

ويعمل دون قيود ويبني مجتمعه كما يريد ويشارك في تسميه الحكومة وانتخاب ممثليه بصوت مسموح ورأي معلن , وهكذا ولد النظام الديمقراطي وأصبح معلما ودليلا تقام له النصب وتخوض الشعوب الحروب من أجل الحفاظ عليه ؛

بل إن كثيرا من الدول تعتبر شرطا أساسيا في صلاتها مع الحكومات كي تقيم معها علاقات سياسية وبعضها تقاطع الدول التي تلغي الديمقراطية ويقوم على أرضها نظام ديكتاتوري كما يحدث الآن لجنوبي أفريقيا كما اضطر عدد من الدول كاليونان وإسبانيا والبرتغال أن تعدل عن النظم الفردية وتأخذ بالنظام الديمقراطية لتكون مقبولة في المحيط الدولي .

إن عددا كبيرا من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يرفضون الديمقراطية بمختلف صور الرفض فالبعض يتحفظ منها والبعض يغمز قناتها والبعض يعلن رفضه لها وآخرون دأبوا على مقتها والتهجم عليها , حتى أساء كثيرون الفهم تجاه هذه المواقف , ووضعها بعض المراقبين أو المتحاملين عليها في خانة الدفاع عن النظم الديكتاتورية والحكام المستبدين ؛

ومهما كانت نية الرافضين للنظام الديمقراطي حسنة فإنهم قد أساءوا من حيث يدرون أو لا يدرون إلى العمل الإسلامي وإلى التنظيمات المحسوبة على الدعوة الإسلامية حتى أن لفيفا من خصومهم المتربصين بهم وظفوا هذا الموقف وهذا الفهم في تنفير الناس منهم وفض الجموع عنهم ووضع بذور الشك في نفوس كثير ممن ينتمون للتنظيمات الإسلامية .

وحجة هؤلاء الإخوة أن الديمقراطية تختلف عن نظام الشوري الذي يغني عن الديمقراطية ويتقدم عليها من جوانب عديدة كما أن الشوري ركن ركين من نظام شامل بينما تمثل الديمقراطية أسلوب عمل سياسي قابل للتبديل والتحرير ويشيرون إلى أن الديمقراطية كلمة أجنبية مترجمة دخلت في قاموسنا السياسي منذ أمد قريب ؛

وأخيرا وليس آخرا يقول :

إن النظام الديمقراطي يسمح للشعب بأن يحكم نفسه بالنظام الذي يريد ولو كان هذا النظام مخالفا للعقيدة ضارا بالأخلاق مؤديا للصحة مخلا بالآداب وما في الشوري فالمجتمع مقيد بالنصوص وقواعد الأخلاق والآداب الإسلامية ذات الدلالة القطيعة وبما أن هذه النظرة تقضي إلى مواقف وسياسات بل وصراعات ساخنة في كثير من الأحيان فلا مندوحة من مناقشتها مع المعنيين بها والمهتمين بالنتائج المترتبة عليها .

إذا تجاوزنا بالحوار موضوع الاصطلاح باعتبار الديمقراطية كلمة مترجمة ودخيلة على العربية لأن فقهاءنا منذ أمد بعيد حسموا مثل هذا الجدل بقولهم : لا مشاحة في الاصطلاح لأن العبرة للمضمون لا للشكل وللمعاني وليس للمباني؛

فالمعروف أن كلمات وفدت على العربية منذ القديم لتكون في التعامل الطويل من صميم لغتنا والقرآن الكريم قد حوى عشرات الكلمات ذات الجذور والأصول الأعجمية كالسندس والكرسي والاستبرق لتكون على المدي كلمات عربية خالصة .

أقول إذا تجاوزنا أمر الاصطلاح وتساءلنا ما البديل المعارض والمناقض للديمقراطية ؟ لجأءت الإجابة التي لا يختلف عليها اثنان أنه النظام الديكتاوري والحكم الفردي ولو سألنا نفس السؤال بالنسبة لنظام الشوري لجاءت الإجابة نفسها بأن الديكتاتورية هي التي تعارض وتناقض نظام الشوري في الشريعة الإسلامية ؛

وهذا النتيجة تنتهي بنا إلى أن ثمة عناصر مشتركة وتقاطعا واسعا بين الديمقراطية والشوري فكلاهما يعارض الفردية والديكتاتورية والاستبداد وعندما يأتي التساؤل بصيغة أخرى ما هي الديمقراطية وما تعريفها وما العناصر التي تكونها أو تتألف منها ؟

تكون الإجابة : الديمقراطية هي حكم الشعب أن يحكم الشعب نفسه بنفسه أو بالأصح هي حكم الأكثرية لأن إجماع شعب على أمر أو قضية أو مبدأ يكاد يكون مستحيلا وأن نسبة المائة بالمائة ليست موجودة في واقع الشعوب إلا بالعالم الثالث التي يصوت فيها لصالح المستبد الأموات والمغتربون والذين نفذ فيهم حكم الإعدام ؛

فالعنصر الأول والأساسي في الديمقراطية هو حكم الأكثرية وما يتبعه أو يلازمه من حرية في التفكير والتعبير والنشر وتشكيل الأحزاب والعنصر الثاني هو المشاركة في الحكم عبر المؤسسات والصيغ المشروعة ليشعر المواطنون جميعا أنهم أبناء الوطن وشكاء في خبراته وملزمون في حمايته وصونه والدفاع عنه والعنصر الثالث في الديمقراطية حرية الاختيار فالشعب حر في اختيار النظام الذي يقتنع به والأسلوب الذي يرتضيه .

أما بالنسبة للعنصرين الأول والثاني فإن الشوري تلتقي مع الديمقراطية فيهما دونما تردد أو تحفظ فالشوري في أوضح معانيها ترمي إلى حكم الأكثرية والمشاركة وحرية الاختيار والتحرر من الإكراه والإجبار كما تؤكد على المساءلة والمصارحة وقول الحق وتقويم الخطأ وتصحيح الإعوجاج ؛

ورب قائل يقول : لكن الشعب يختار في الديمقراطية النظام الذي يريد ونحن ملزمون بالنصوص الشرعية لا نملك لها تغييرا ولا تعديلا وبالرغم من صحة هذا القول , فإن الأحزاب في العالم الغربي لا تتقدم للحكم وتلتزم بها وتحاول إقناع الشعب بقبولها فطالما أن الديمقراطية لا تلزم الشعوب بنظام بعينه فما الذي يخفيها منها ؟

ما الأسلوب الذي نرتضيه للتغيير وتطبيق المبادئ التي نؤمن بها ؟ ألسنا أولي من الاخرين بتقديم البرامج المحددة الواضحة التي تصلح أحوال الجماهير وترتقي بهم وتحل معضلاتهم وترفع عنهم إصرهم والأغلال التي عليهم؟

أليس من الواجب على الهيئات والجماعات والأحزاب التي تستمد برامجها السياسية والاقتصادية والإصلاحية من مبادئ الإسلام وشريعته السمحاء ورسالته العظيمة أن تقدم ذلك بثوب قشيب ولغة مقروءة وأسلوب مقنع ليعلم الناس كل الناس أو جلهم أن هذا هو طريق الانقاذ والنهوض والفوز في حياتهم وبعد مماتهم ؟

هل يجوز لحزب أن يفكر في فرض مبادئه على الناس بالقوة والإرهاب ؟ فالطريق هو طرح البرنامج المنفذ الواضح فإذا اقتنع الجمهور وتبناه وأعطي الثقة على أساسه وإلا فعلي الجماعة أو الحزب أن يعيد النظر بخطته وأسلوب اتصاله بالشعب لتجديد لغة الخطاب وبذل الجهود الكافية وتنشئة الأجيال على المبادئ والأفكار والتعاليم التي تشق للأمة طريق الخلاص .

إن تحفظ الأحزاب التي تدعو لاستئناف الحياة الإسلامية من الديمقراطية خطأ فادح والتهجم الدائم عليها عمل خطر يستغله الحكام المستبدون والخصوم التقليديون فطالما أن الشعب حر في اختيار نظامه ؛

فإن شعبنا حريص على عقيدته ومبادئه ونظامه الذي يستمده من رسالة الإسلام وطالما أن الحكم للأكثرية فإن هذه الأكثرية قد حرمت من التعبير عن ذاتها منذ أمد بعيد وعندما نفشل في إقناع الأكثرية بخطتنا وبرنامجنا فلنراجع أنفسنا ولنتهم جماعتنا بالتقصير والعجز ونمارس ما يسمي بالنقد الذاتي أو بالتعبير الإسلامي الأدق بمحاسبة النفس بصوت مسموع تمهيدا لإعادة النظر كليا أو جزئيا فيما نحن فيه.

لو جاز لأى حزب من الأحزاب السياسية سواء أكان في أقصي اليمين أو أقصي اليسار أن يتحفظ على الديمقراطية أو يقيدها بدعوى الديمقراطية الصحيحة أو الموجهة فليس ثمة مسوغ لأى تنظيم أو حزب يلتزم مبادئ الإسلام أن يتخلي عن الديمقراطية أو يفتر في تأييدها أو يقف موقف المتفرج من اغتيالها أو التآمر عليها فالحرية كالكرامة لا تتجزأ والمبادئ لا تنتصر بالإكراه والاستبداد ؛

وإنما بالتفاف الشعب حولها واقتناعهم بها ودفاعهم عنها فقد بعث محمد بن عبد الله بالرسالة صلي الله عليه وسلم فكان وحيدا فما زال يدعو ويحاور ويقنع ويبشر وينذر ويصبر ويصابر ويتحمل الأذى حتى فهم أعداؤه الذين حاربوه وقاتلوه بأنه علي الحق المبين , فآمنوا بحرية واقتناع وليس بجبر ولا إكراه ليكونوا خيرا أمة وليقيموا المجتمع المثالي والدولة الفاضلة .

نماذج من الشوري النبوية

في الرخاء والشدة كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يكثر من استشارة أحصحابه في كبير الأمور وصغيرها يستشير الرجل والمرأة والكبير والصغير وكثيرا ما ينزل على رأيهم ويعدل عن رأيه تعليما لهم وتأصيلا لنظام الشوري في مجتمعهم .

استشارهم في معركة بدر فعدل عن خطته وأخذ بالخطة التي اقترحها عليه الصحابي الخباب بن المنذر واستشار أصحابه في أحد وعدل عن رأيه وأخذ برأي الشباب في الخروج إلى ملاقاة قريش بدل التحصن في داخل المدينة واستشار يوم الخندق في غزوة الأحزاب وأخذ برأي الصحابي سلما الفارسي؛

واستشار في أمر الصلح مع غطفان في حصارها للمدينة فأخذ برأي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعدل عن رأيه لينتهي بعد هذا النهج في الشوري إلى إرساء الأساس الثابت عندما قال لصاحبيه: أبي بكر وعمر: لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما .

وعندما أصر صلي الله عليه وسلم على رأيه في الحديبية أوضح لأصحابه أن ذلك وحي من الله فقال : أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني .

خطر الاستبداد

إن أفدح الكوارث التي حلت بشعبنا العربي وأمتنا الإسلامية على مدي العصور ومدار التاريخ في عهود الأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين هو الاستبداد السياسي فالاستبداد آفة كبرى بل كارثة تحدث عنها تاريخنا؛

كما تحدث عن آفة أخرى لازمتها وهي التصرف بالأموال العامة فهذه نتيجة لتلك عندما يكون الإمام أو الحاكمة أو السلطان أو القائد ملتزما بدستور الأمة وقوانينها وأحكام شرعها القويم ؛

وحينما يعف عن المال العام ليحفظه وينفقه في مصارفه التي تعود بالخير على الجميع وعندئذ تسير الأمة في طريق النهوض وتختصر الزمن على درب البناء وتحقق الخوارق في التقدم والإنجاز؛

ومثل هذه الآمال تظل وهما وسرابا إذا كانت الحرية مصادرة ولا شعب مقيدا والخوف مسيطرا لابد من تحرير الشعب أولا من الفقر والتخلف ومن الاستبداد والخوف ولابد من الارتفاع إلى مستوى رفيع من الوعي السياسي ليكون الجمهور قادرا على المشاركة والمراقبة والمحاسبة وهذا يستدعي تطبيق مناهج كاملة في التثقيف السياسي وبث الوعي بين الجماهير على كل صعيد ؛

وعندئذ يسعد الجميع حكاما وشعوبا فالحاكم يضمن لنفسه الاستقامة إذا كان شعبه واعيا ومدركا لواجباته لأن النفس أمارة بالسوء والإنسان معرض عندما يكون في موقع المسؤولية للإنحراف والغرور والتسلط جراء ما ينهال عليه من مدح وإطراء فلا مناص من أن يحاسب نفسه ويحاسبه من حوله عبر المؤسسات والمجالس وهيئات التشريع والتنفيذ والقضاء .

لقد كان عمر بن الخطاب نموذجا رفيعا للحاكم الذي يحاسب نفسه ويرتفع بالجماهير إلى مستوى مشاركته ومراقبته ومساءلته ليضمن لنفسه الثبات والاستقامة والنزاهة وكان ينادي بالناس ليجتمعوا ويعقدوا مؤتمرا شعبيا عاما وكان شعار مثل هذه المؤتمرات الطارئة : الصلاة جامعة فيهرع الجميع إلى المسجد الذي تعالج فيه شؤون المجتمع السياسية والعسكرية والقضائية والتربوية وغيرها

فكل فرد من المجتمع يصيغ السمع للبيان أو التصريح أو القرار الذي يصدر عن أمير المؤمنين لقد دعا عمر الناس مرة فقال : أتذكرون عمرا عندما كان عميرا يرعي على إبل فلان في شعب كذا من مكة ثم نزل فعجب الناس وسأله بعضهم : لماذا فعلت هذا يا أمير المؤمنين ؟

فقال : أحست نفسي بشئ من العجب فأردت تأديبها على رؤوس الأشهاد ودعاهم مرة فتزاحمت المناكب في جنبات المسجد فصعد المنبر ثم قال : ما تفعلون بي لو ملت برأسي هكذا وهكذا ؟

كناية عن التفريط في حق الناس ومجانبة الصواب وتنكب طريق الخير والعدل فرد عليه من زاوية المسجد أحد الحاضرين أسماعهم وأشرأبوا بأعناقهم ينتظرون نتيجة هذا السجال ! فعمر الذي تحسب الدنيا كلها له الحساب يقف له من كان بالأمس رفيقا فأصبح بعزة الإسلام ومبادئه حرا طليقا يقف له:

ويبلغه بلسانه ولسان الحاضرين أو قل بلسان الأمة : لن نتساهل في ظلم أو مخالفة أو تفريط بحق شرع الله وحقوق البلاد والعباد فيرد عمر عليه بما يشبه الزجر قائلا : إياي تعني فيجيبه : نعم إياك أعني يكررها ثلاثا برباطة جأش وصوت يجلجل حتى إذا بلغ الترقب أعلي درجاته؛

قال الخليفة المعلم العادل : الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوم عمر بسيفه إذا أعوج يعلن أنه اطمأن على سلامة المسير وأنه لن يفرط أو ينحرف لأن كل فرد في الأمة يراقب ويحاسب ويحمل المسئول على الجادة والمنهج السليم.

الدكتاتورية كارثة على الشعوب فهي تضيق بالنقد والنصح وتغتال المواهب وتقضي على الإبداع وتزرع الرعب حتى يصبح المواطن خائفا من ظله لهذا صار الحكم الديكتاتوري عارا على أصحابه وعلى كرامة الإنسان .

وها نحن نرى الحكومات في العالم الثالث والكتلة الشرقية يبشرون شعوبهم بالحريات ليمارسوا حقوقهم في الحياة السياسية في بلادهم وبناء أوطانهم لتعم البشري ويسود الأمل في فجر جديد للشعوب قاطبة كي تشهد انتصار الديمواقراطية في التسعينات من هذا القرن لتبزغ شمس الحرية ويتواري ظلم الديتاتورية وينقشع ظلام الاستبداد .

ها نحن نرى الاتحاد السوفييتي الذي عاش لسبعين سنة خلف الستار الحديدي أسوأ أشكال الديكتاتورية والإرهاب وهدر حقوق الإنسان يمارس نقده لهذه السياسة بلسان الأمين العام للحزب والزعيم السوفييتي غورباتشوف الذي أصدر كتابه البريستوريكا أو إعادة البناء

وذكر فيه من عيوب هذا المجتمع في انخفاض الانتاج وسيطرة الخوف وهبوط الحياة الروحية وانتشار الخوف والكذب والنفاق والسرقة والإدمان ما فاق كل نقد وجهه أعداء الشيوعية للمجتمع السوفييتي وعزا ذلك كله لتكميم الأفواه والتسلط والاستبداد في كل مرافق الحياة في الاتحاد السوفييتي وأعلن بكل وضوح أن علاج هذا يكمن في الحرية والمشاركة والنقد وحق الاعتراض والاختيار وبكلمة واحدة اختصر فيها كتابة : مزيد من الاشتراكية تقتضي المزيد من الديموقراطية .

موقف الجماعات المعاصرة

لقد انتهت معظم الجماعات الإسلامية المعاصرة إلى الأخذ بمبدأ الشوري الملزمة وأدخلته في أنظمتها وطبقته في ممارساتها كالجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية وتنظيم جماعة الإخوان المسلمين في البلاد العربية وغيرها من التنظيمات القائمة في السودان وأفريقيا وفي الدول الآسيوية كماليزيا وأندونيسيا وغيرها

أما تنظيمنا فقد ارتضي عبر مؤسساتها الشورية التي أقرت الأخذ بالزامية الشوري وأثبتت ذلك في بيان الثورة الإسلامية منذ حوالي عشرة أعوام وأقرت النص التالي :حدد القرآن الكريم للمؤمنين صفات يتميز بها مجتمعهم ويعرفون بها من بين سائر الشعوب وجعل الشوري واحد من أبرز هذه الصفات فقال جل وعلا في كتابه العزيز (وأمرهم شورى بينهم)

كما أمر الله سبحانه النبي صلي الله عليه وسلم أن يتلطف بأمته وأن يستشيرهم في الأمر تثبيتا لقاعدة الشوري في الحكم وفي بناء المجتمع فقال سبحانه (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمن فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)

لقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يستشير أصحابه في كبير الأمور وصغيرها يستشير الرجال والنساء في السلم والحرب علي حد سواء: ففي المعارك الكبرى الثلاث التي خاضها وقادها في بدر وأحد والأحزاب استشار الجند من أصحابه ونزل على رأيهم راضيا حينا كما حدث في بدر وكارها حينا كما حدث في أحد ؛

ولو شاء لأمضي ما يريد فهو رسول الله يتلقي الوحي ولا ينطق على الهوي ولكنه عليه الصلاة والسلام يعلم أمته مبادئ الشوري ويريبهم على التزامها ويؤكد عليها حتى في أشد الأوقات حرجا وكان يقول لبعض أصحابه: لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما .

الشوري أساس الحكم الصالح من الوجهة الإسلامية وقد أثبتت تجارب الأمم صحة هذا المبدأ وأنه قارب النجاة من الأمواج العاتية والعواصف الهوج والعاصم من الدكتاتورية السياسية والعسكرية ومن الطموحات الفردية والطغيان الحزبي أو الطائفي .

إن الثورة الإسلامية تعلن استمساكها بالشوري , وتأكيدها على إطلاق الحريات السياسية للمواطنين جميعا وإلغاء المسوغات التي يتخذ منها المستبدون والطغاة ذريعة باسم شعارات خادعة للجنوح بالحكم إلى التسلط والطغيان .

لا حياة للأمة بدون الحرية والشوري وحفظ كرامة الإنسان يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: إذا رأيت أمتى تهاب أن تقول للظالم: إنك ظالم فقد تودع منها .

التعددية الحزبية

تشكيل الأحزاب

تتباين الآراء حيال هذا الموضوع والمعنيون في الشوري الإسلامية أشد اختلافا وأعظم تباينا وأذكر عندما كان منهاج الثورة الإسلامية في سورية يأخذ طريقه إلى الطباعة كان كثيرون من قيادات العمل الإسلامي ترفض التعددية رفضا حادا

وتأبي أن تسلم ثمرات تضحياتها للنظارة والمتربصين وكانت الإجابة لإخوتنا قاطعة ليس في حسباننا أن نفرض تنظيمنا وأفكارنا على المواطنين نود أن نقنعهم بآرائنا ومبادئنا ومن طبيعة شعبنا الوفاء؛

ولذا لا نتصور حزبا أو تنظيما يضحي في سبيل مبادئه إنقاذا لوطنه وأمته ثم يخذله الشعب لا يجوز لنا أن نرتكب خطيئة الخميني الذي فرض على الناس أن يقولوا نعم أو لا على عكس ما نصح به شر يعتمداري بل نتركهم ليقولوا ما يريدون وعندما نفشل في كسب الأصوات وتأييد المواطنين ندرك أننا ما نزال دون السوية المطلوبة أى أننا لم نصل بعد إلي إقناع الجماهير بأفكارنا ومناهجنا .

إن الحكم الذي تدعمه الجماهير وتلتف حوله بإدراك واقتناع أقوي وأثبت من الحكم الذي ينال التأييد بدافع الرهبة والخوف هذا الأمر ناقشناه طويلا بل كانت القناعة بعد مفاصلة مؤداها أننا لا نستطيع أن تستمر في سيرنا دون توضيح هذا الموضوع ذي الخطورة البالغة ليعلن التنظيم الذي ننتمي إليه أنه جزء من الشعب لا يعلوه ولا يتقدم عليه , ولا ينفرد دونه في المسئولية والمشاركة .

الشعب أكبر من الحزب

ومن الأخطاء القاتلة التي تقع بها بعض الأحزاب شعور أعضائها أو قادتها بأن الحزب فوق الشعب يمارس وصيته وهيمنته عليه ويجعل من المواطنين رعايا وتابعين .

فالحزب مهما كان كبيرا في عدده فإنه لا يشكل في أفضل حالات الاستجابة الشعبية إلا نسبة عددية صغيرة من أفراد الشعب فلو أن حزبا ضم مائة ألف عضو من شعب يبلغ تعداده عشرة ملايين وهذه نسبة عالية جدا قلما يبلغها تنظيم مهما كان قويا ومحكم البناء؛

فإن نسبته تبلغ في هذه الحالة واحدا في الملحمة فقط فهل يجوز في أى قياس وأى حال أن يستأثر واحد في المائة بالسلطة وبناصية القيادة السياسية والعمل السياسي في الوقت الذي لا يملك مثل ذلك تسعة وتسعون في المائة من أبناء الشعب ؟

الحزب أو التنظيم الذي يحظي بتأييد الشعب وثقته هو الذي يمثل نبضات قلبه ويلامس وجدانه ويعبر عن ضميره ويشعر بالآمه ويمثل أمانيه وآماله وطموحاته .

الإمام البنا وتشكيل الأحزاب

قيل عن الأستاذ حسن البنا رحمه الله أنه كان ينكر وجود الأحزاب السياسية ويقف ضد تشكيلها لقد هالني هذا الموقف من الرجل العملاق الذي ما رأيت مثيله في تقديم النموذج الأمثل للقائد والداعية في الفهم والتجرد والزهد والإخلاص وإدراك الواقع والقدرة على معالجته والشعور بآلام الناس والصبر عليهم وملء قلوبهم باليقين ونفوسهم بالعزيمة

والنهوض بهم والأخذ بأيديهم إلى ساحات العمل والبناء ودروب العزة والمجد والجهاد كيف يقف الرجل هذا الموقف من نشوء الأحزاب؟ وقد شعرت بالارتياح عندما أجد لهذا القائد الفذ خطأ كي يبقي الكمال لله والعصمة لرسوله صلي الله عليه وسلم وحتى نقول : لقد أصاب الأستاذ البنا رحمه الله في هذا الأمر واخطأ في ذلك لأن الأئمة العظام والعارفين الكبار كانوا يخطئون أنفسهم ويخطئهم غيرهم ؛

بلغ الحال ببعض الإخوة وهو يلقي محاضرة أن يستشهد بكلام الأستاذ البنا رحمه الله مرات ناسيا أن يستشهد بآية كريمة أو حديث شريف وفي هذا الأمر مغالاة يأباها الدعاة وينكرها البنا رحمه الله لو كان موجودا؛

فالفقه الإسلامي المبرأ من البدع والدخن لا ينص على عصمة أحد من الصحابة أو الأئمة أو العارفين بل تبقي العصمة لرسول الله صلي الله عليه وسلم كما قال ابن عباس : كل الناس يؤخذ منهم ويرد عليهم إلا صاحب هذا القبر مشيرا إلى قبر النبي صلي الله عليه وسلم

وقد ناقشت في هذا الأمر الأستاذ أحمد سيف الإسلام نجل الإمام حسن البنا رحمه الله الذي ورث الكثير من الصفات الحميدة عن والده كالكرم وحب الناس والإخلاص للإسلام كما يشهد بذلك عارفوه ولا نزكي على الله أحدا

يقول الأستاذ أحمد سيف الإسلام :

والدي لم ينكر وجود الأحزاب السياسية أبدا بل أنكر واقع الأحزاب وانحراف بعضها وارتباطها بالإنكليز وإفسادها للنفوس أنكر عليها أوضاعها الشاذة ولم ينكر حق الشعب في تشكيل الأحزاب السياسية .
فهم البعض من مقولة الأستاذ البنا رحمه الله كلام في تعريف جماعة الإخوان (لسنا حزبا سياسيا ولا جمعية خيرية ولا ناديا رياضيا .. الخ) إنه يرفض وجود الحزب السياسي مكتفين بالنفي قبل الوصول إلى الإثبات فالبنا رحمه الله يكمل التعريف قائلا (ولكننا روح يسري في هذه الأمة فيحييه بالقرآن)
أى أن أهدافنا تتجاوز ما يرمي إليه الحزب والجمعية والنادي بل تشملها وتتجاوزها وتزيد عليها في صياغة تامة للفرد والأسرة والمجتمع وفق تعاليم الرسالة الإسلامية والهدي النبوي العظيم .

الجنرال ضياء الحق

في لقاءات متكررة مع الجنرال ضياء الحق حاكم باكستان طرح في بعضها موضوع الأحزاب السياسية ذاكرا أن أربعة من كبار رجال الفكر من سورية والسودان وباكستان وأوروبا أفتوا له بأن الإسلام لا يسمح بقيام الأحزاب السياسية ؟ الإسلام بنظر الجنرال لا يسمح لحزب مؤلف من مئات الألوف أو عشرات الألوف بالحكم ولكنه يسمح للجنرال أن ينفرد بالحكم يا للعجب ؟..

لقد سألنا اثنين ممن استشهد بهما الجنرال فأنكرا ذلك واستغربا منه لأنهما جربا الحياة السياسية وقادا الأحزاب وشاركا في الحكم في عدد من الوزارات الائتلافية لقد كانت التجربة مع الجنرال مرة كالحنظل , لأنه لم يف بأى وعد قطعه على نفسه؛

ولم يحرجه عدم التزامه بوعوده عندما كان يذكر بها ومما يؤلم ويؤسف أن كتابا وعلماء ومجلات ذرفت عليه الدموع وأسبغت عليه من الأوصاف والألقاب ما يقال عن كبار الدعاة والمصلحين بل أن بعض المغالين منهم اعتبروا موته اغتيالا لمنهج الإسلام كما قال عن نفسه عندما رشح نفسه للرئاسة واعتبر انتخابه قبولا للإسلام وعدم انتخابه رفضا لشريعة الإسلام !!.

لقد خدع ضياء الحق قطاعا عريضا من المسلمين , دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن حقيقة الرجل وعن طبيعة حكمه ولو بذلوا جهدا يسيرا لعلموا أن الجنرال وظف الحرب العراقية الإيرانية لجني الأرباح من التجارة ومن صفقات السلاح على حساب شلال من دماء المسلمين في كل من العراق وإيران؛

وليعلموا كذلك أنه أسند أخطر المراكز في الداخلية والدفاع وغيرها للأقليات في وطنه متحديا مشاعر الملايين من سكان باكستان وأنه حكم قبضته العسكرية على بلد المائة مليون بحكم عسكري فردي بالرغم من كل الوعود التي بذلها على مدى اثنتي عشر سنة بعودة الحياة الديمقراطية دون جدوى؛

لو سأل الذين بكوا على ضياء الحق جميع قيادات الأحزاب الإسلامية في باكستان لسمعوا الإجابة الحاسمة عن ديكتاتورية الجنرال وتراجعه عن العهود التي قطعها على نفسها أمامهم بإجراء الانتخاب والتخلي عن الحكم العرفي والعسكري

لقد شهد قادة الجماعات الإسلامية الكبرى (جمعية علماء الإسلام وجمعية علماء باكستان وجمعية أهل الحديث والجماعة الإسلامية وغيرهم) بأن الجنرال لم يلتزم قط بوعوده مع شعب باكستان وأحزابها فلماذا يتورط بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية بالحماسة والدفاع عن الديكتاتوري المتسلط على دولة من أكبر الدول في العالم الإسلامي ؟

وإذا كان له موقف إيجابي تجاه الأفغان فلأنه جني منه المليارات دون أن يتعارض مع سياسة الولايات المتحدة في صراعها مع السوفييت الذي وظفه واستفاد منه المجاهدون الأفغان في صراعهم ضد التدخل السوفييتي في [أفغانستان[]] .

إن الغرض من الحديث عن سياسة ضياء في باكستان إنما هو تعرية لهذه الأنظمة الديكتاتورية التي توغل في التسلط على شعوب العالم الإسلامي متسترة بالإسلام وفتاوى بعض المسلمين مدعية بأنها تحكم باسم الإسلام وشريعته السمحاء لتحلق أشد الأذى وأفدح الضرر بسمعة الإسلام والمسلمين وأن نتائج الانتخابات التي أفزعت من أفزعته لم تكن مفاجئة للمطلعين على خفايا الأمور بل كانت حسب قانون الفعل ورد الفعل متوقعة كما جاءت كنتيجة للإستهتار والاستبداد وحكم الفرد ومصادرة الحريات

الإسلام وتأليف الأحزاب

بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يعربون عن عدم ارتياحهم لوجود الأحزاب السياسية وآخرون يجهرون بكراهيتها واعتبارها مصدر شر ويلاء على الأمة .

ومنهم من يصرح بتحريمها ويفتون بذلك بل لقد ذهب أحد القادة لحزب إسلامي في شمالي أفريقيا بالإدلاء بحديث في مجلة إسلامية قال فيه بحظر الأحزاب وتحريمها في الوقت الذي كان يشكو فيه من طغيان حكومته لأنها تمنع العمل السياسي ولا تسمح له ولا لإخوانه بتأليف حزب أو تنظيم سياسي !!

ومن المفارقات العجيبة أن هؤلاء أو معظمهم يعاني من مصادرة الحريات والأحكام العرفية وزج الدعاة في السجون ومنع قيام الجماعات وعدن الترخيص لها بالعمل الإسلامي من خلال القنوات الدستورية واللوائح والأعراف السائدة .

إن حجة هؤلاء أن المجتمع الإسلامي في أول نشأته كان خاليا من الأحزاب وبالطبع فهذا كلام نقف عنده ولا نسلم به ففي صدر الإسلام نشأت المدارس الفقهية أتي كانت توازي الأحزاب في أيامنا وتزيد عليها لأنها كانت تقدم الحلول والأحكام والفتاوي والاجتهادات في كل أمور الحياة؛

وعلى جميع الصعد وفي شتى المجالات وفي كل شأن يخص الفرد أو الجماعة أو الدولة أو الشئون المالية والسياسية وكانت المدارس الفقهية متباينة في أحكامها وفي الآراء التي تصدر عنها فقد كانت منها مدارس أو فقهاء عرفوا بالتشدد كما هو حال عبد الله بن عمر وبعضها كان يأخذ بالرخص كما هو حال عبد الله بن عباس ومع الأيام نمت هذه المدارس نموا عظيما وخلفت لنا تراثا ضخما وثروة فقهية عظيمة لا تملك نظيرها أية أمة في ماضي الزمان وحاضره .

الحزب مجموعة أفراد تلتقي على أهداف محددة وتتعاقد على العمل لتنفيذها كما هو الحال بالنسبة للشركة والجمعية والرابطة الثقافية التي تضم كل واحدة منها مجموعة أعضاء تعاقدوا فيما بينهم لتحقيق أهداف في الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة ومن المحتمل أن تكون بعض الأهداف سيئة وبعضها مشروعا كما هو الحال بالنسبة لأي عقد وعندئذ تناقش الشروط والأهداف وتبقي فكرة العقود أو مشروعيتها قائمة ومباحة وأحيانا واجبة .

عندما تكون أفكار الحزب وأهدافه سليمة ونافعة وطريقه صحيحا وقويما فإن الحزب عندئذ يكون مدرسة تخرج المفكرين والمجاهدين والمضحين دفاعا عن مبادئهم وأوطانهم وأمتهم ومثلهم العليا وفي هذه الحال فإن الحزب أو الجماعة تنقذ الشعب وتنهض به وترقي بوعيه ومستواه .

سألنا عددا من القادة المختصين الذين عملوا في الحقل السياسي وتضلعوا في الدراسات الفقهية والأصولية في السودان ومصر وباكستان وسورية عن مشروعية تأليف الأحزاب السياسية والمستجيبة إلى دواعي الحاجة ومنطق العصر

وقال الأستاذ الكبير الشيخ مصطفي الزرقا وهو من كبار الفقهاء المتمكنين المعاصرين قال الشيخ منكرا على من يحرم العمل الحزبي وقيام الأحزاب : من يقول ذلك ؟ لماذا نضيق واسعا ؟ وسألناه على ملء من محبيه الإجابة الأولي التي صرح بها منذ سنوات وهي أن تأليف الأحزاب أمر مشروع إذا كانت أغراضها وأهدافها صحيحة وسليمة وكان سلوك قادتها وأفرادها مستقيما .

كان تشكيل الأحزاب السياسية أمرا متاحا وكان الحصول على ترخيص لذلك شيئا ميسورا في الثلاثينات والأربعينات وبعض الخمسينات قبل تسلط الطغاة على الحكم في الوطن العربية والعالم الإسلامي ولكن التنظيمات الإسلامية كانت في هذا زاهدة ولطلب الترخيص في العمل السياسي رافضة ؟ بدعوى أنهم ليسوا أحزابا سياسية ولكن القوانين تنص على هذا الأمر والعرف في ميزان الشريعة يراعي طالما أنه لا يحرم حلالا ولا يحل حراما فلماذا نسبح ضد التيار دونما داع أو ضرورة ؟

فالحصول على الترخيص واجب في عرف الدول والمجتمعات وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ! فلماذا نحرم الجماهير العريضة من العمل المباح كي تخدم مبائها ومثلها ؟ لماذا نحكم على أنفسها هذا الحكم الصارم ؟ لماذا نحظر على تنظيمنا هذا الحق المباح والمتاح ؟ ليكون حلالا للطيبيين والخبيثين وحراما على جيل استرخص كل غال ونفيس في سبيل الله دفاعا عن عقيدته وأرضه وشعبه ؟

وتمر الأيام لتجد التنظيمات نفسها خارج الدائرة ونراها تطالب منذ عقود في السماح لها بالعمل السياسي كسائر المواطنين دون جدوى , فتلجأ إلى المحاكم والقضاء والمراجعات الحكومية والحوار مع المسئولين كي يعاملوا كما يعامل المواطنون من كل عرق ودين ومذهب .

عندما نتساءل عن جدوى قيام الأحزاب ودواعي تأليفهما كجزء من الحياة السياسية في المجتمع فإن هذا التساءل يوجب الحديث عن الإسلام ذاته من حيث طبيعته وأحكامه فالشريعة كما هو معلوم تهدف إلى تأمين المصالح العليا لكل فرد من أفراد الأمة كلها كالحفاظ على العقل والدين والمال والعرض والنسل وأن مبادئ الإسلام بالتالي ليست أوامر ونواهي ؛

كما تورط بذلك بعض الأحزاب المنسوبة إلى الإسلام فوصلت في تفكيرها هذا إلى طريق مسدود لم تستطع أن تخرج منه وعندما نستخدم لغة الأرقام ونرسم خطا بيانيا لخريطة الأحكام في الإسلام نجد أن هذه المساحة تحتوى على أوامر ونواهي؛

أو على مفروضات ومحظورات وعلى مباحثات ونجد أن الفروض والمحرمات تمثل مساحة محدودة قياسا للمباحات التي تشغل المساحة الأوسع ولهذا قال الفقهاء كلاما وأصلوا قاعدة لا اعتراض عليها تقول : بأن الأصل في الأشياء الإباحة .

إن جميع الموضوعات التي لا تنتهي تحتمل وجهات نظر كثيرة وأحيانا متباينة فالنظام العسكري الإجباري أو الاختياري يحتمل كثيرا من المشروعات من حيث مدة الخدمة وأسلوبها ومضمونها وأهدافها وطرق تنفيذها , وثمة عشرات المذاهب والمدارس إن لم يكن أكثر فيما يخص التجارة الخارجية ؛

وقل مثل ذلك في الصناعة والمشروعات العمرانية وبرامج الصحة وتنظيم البلديات وغير ذلك مما يتطلب وضع سياسات وبرامج وخطط وما يتبع ذلك من قيام المؤسسات وأحداث الدوائر والوزارات ليقوم هذا كله على ضوء المبادئ الأساسية والأحكام المنصوص عليها في الشريعة الغراء وعلى الاجتهاد فيما وراء ذلك من المباحات في المساحة الأشمل وهنا نجد أن وجهات النظر والمدارس والآراء مختلفة وأحيانا متباعدة فهل نكره الناس أن يصبوا تفكيرهم في قالب واحدا ؟

أم ندع الأزاهير تتفتح والتنافس يأخذ مداه والمبادرات الفردية تزدهر والتسابق المشروع بين الأفراد والجماعات يثمر إنتاجا واجتهادا وعطاءا ؟ فإذا التقت جماعة وعزمت على تشكيل حزب متخصص بالحفاظ على البيئة والنظافة وعلى المقومات الطبيعية للمجتمع كما يحدث في غير بلادنا فماذا نقول لهم ؟

وإذا تقدمت مجموعة بطلب الترخيص لتأليف حزب يعمل طبقا لبرنامج اقتصادي مدروس يحوى خططا في التجارة والمصانع والعلاقات الاقتصادية الخارجية يراعي فيه الحياة ومستوى المعيشة والمفاهيم الاقتصادية ومتغيرات العصر ومعطيات الظروف والعلاقات الدولية من الوجهة الاقتصادية وغير ذلك ونلقل مثل ذلك في الاهتمام وخطط التعليم وصلة ذلك بالتنمية وبرامج المستقبل ؛

كل هذا يستدعي تعاونا وتكتلا وخبرات تقضي إلى تشكيل الجماعات والجمعيات والأحزاب التي تعمل في وضح النهار عبر القنوات المشروعة دون خوف ولا وجل ولا تحرك في الظلام أو السراديب لينهض الوطن بأبنائه وينهض المواطنون بوطنهم وتتحول الأفكار عن طريق الإقناع وتبني الجمهور لها إلى مبادئ دستورية ولوائح قانونية؛

ويحافظ القضاء على كرامة المواطن من أى جموع أو جنوح لحزب من الأحزاب أو تنظيم من التنظيمات كيلا يتحول إلى عصابة ترهب الناس وتفزعهم برجالها أو صحفها ومهما قيل في سلبيات التعددية الحزبية فإنها تهو بجانب ويلات الأنظمة الاستبدادية وطغيان الفرد .

هكذا كان فهمنا للإسلام رسالة تحافظ على حرية المواطن وعلى كرامة الإنسان وتحميه من الجبروت والطغيان وتنهض به إلى مدارج الرقي الروحي والفكري والحضاري وإلى مراقي النجاح والفوز والسؤدد وتحرره من كل قيد يزري به أو ينتقص من إنسانيته أو يضيق الخناق لى قناعاته؛

ليعتقد ما يراه بنور عقله ونافذ بصيرته لهذا كله أخذ التنظيم الذي ننتمي إليه تجربة العمل السياسي وتأليف الأحزاب في كل أدبياته التي ما تزال تصدر عنه تباع منذ عشر سنوات وأهمها وفي مقدمتها هذه الفقرة التي صدرت في أعقاب عام 1979

وأعلناها في مطلع عام 1980 بهذه الكلمات في بيان الثورة ومنهاجها:

"ومن الحقوق الأساسية للمواطنين تأليف الأحزاب السياسية إذا لم تخالف الأمة في عقيدتها ولم ترتبط بدولة أجنبية في ولائها والفصل في ذلك أو في أى اتهام يوجه لحزب من الأحزاب من حق القضاء المختص كيلا تتحكم السلطة التنفيذية في هذا الحق وفي الحريات السياسية الأخري للتخلص من المنافسين والانفراد بالسلطة دون الآخرين .
إن الثورة الإسلامية في ضوء ما تقدم تعلن أنه ليس لديها تحفظ على أى حزب منطلقة في ذلك من قناعاتها الراسخة أن الغلبة للحق والعاقبة للتقوي وضمن مناخات الحرية الكاملة فإن الثورة الإسلامية تسقط مسوغات وجودها إذا كان تخشي على الإسلام من منافسة الأحزاب الأخري ".

الحركة الإسلامية العنصر الدينامي الاجتهادي في أسسها الفكرية

د. فتحي عثمان

  • ولد بصعيد مصر 1928 وتعلم في المدارس المصرية حتى نال ليسانس وماجستير الآداب من قسم التاريخ بجامعة القاهرة وليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية ثم نال درجة الدكتوراه من جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية .
  • قام بالتدريس في جامعات متعددة بمصر والجزائر والسعودية والولايات المتحدة كما كان أستاذا زائرا في الجامعة الوطنية بكوالا لمبور ماليزيا . وتولي رئاسة التحرير التي كانت تنشر في لندن من 1981 إلى 1987 وهو الآن مستشار للمركز الإسلامي لجنوب كاليفوريابلوس أنجليوس في الولايات المتحدة الأمريكية وأستاذ زائر بجامعة جنوب كاليفورنيا .
  • له مؤلفات منها " الفكر الإسلامي والتطور " " المدخل إلى التاريخ الإسلامي " " التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير " " الفكر القانوني الإسلامي بين أصول الشريعة وتراث الفقه " " الحدود الإسلامية البيزنطية بين الاحتكاك الحربي والاتصال الثقافي " " الدين للواقع " " آراء رائدة من تراث الفكر الإسلامي " " القيم الحضارية في رسالة الإسلام " دولة لفكر التي أقامها رسول الإسلام عقب الهجرة " " عبد الحميد بن باديس " رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة "

وله صلة وثيقة بالحركات الإسلامية المعاصرة ولا سيما في السودان وتونس وماليزيا وباكستان .

الحركة الإسلامية العنصر الدينامي الاجتهادي في أسسها الفكرية

مشكلة الحركات الإسلامية المعاصرة الكبرى هي عدم وضوح العنصر الدينامي الاجتهادي في أسسها الفكرية وإن وضح في تكوينها التنظيمي ونشاطها العملي فهي " معاصرة " من حيث قيام انتخابات لاختيار أعضاء مجلس إدارة تضطلع بها الجمعية العمومية للأعضاء أيا كان حظ هذه الانتخابات من الجدية

وهي معاصرة في نشاطها العملي : تعقد المؤتمرات والندوات وتصدر الصحف وتستعمل الإذاعة والتليفزيون إذا أمكن وقد تقيم مؤسسات اقتصادية أو اجتماعية من مدارس ومراكز طبية وتقدم مساعدات نقدية أو عينية وقد تدخل الانتخابات ؛

ولكنها في أسسها الفكرية تتقيد غالبا بما هو مدون في تراثنا الفكري وتغفل عن خط " الاجتهاد " في الفهم والاستنباط والتطبيق بالنسبة لأسلافنا وبالنسبة لنا فكل ما حواء هذا التراث بالنسبة لعلاقات الحاكم والمحكوم أو الرجل والمرأة أو الآباء والأبناء مثلا مسلم به واجب النفاذ جملة وتفصيلا: بالنسبة للأصول الثابتة قطيعة الورود والدلالة في وحي الله المعصوم

بل في مفاهيم البشر لوحي الله واستنباطهم منه واستجابتهم لثقافة عصرهم وحاجات مجتمعاتهم وهم يتفهمون هذه الأصول ويتفهمون واقعهم ويقدمون له فكرهم الناتج من محصلة الثوابت والمتغيرات معا وقد أوضحت ذلك بجلاء في كتابي الذي صدر من أكثر من ربع قرن بعنوان " الفكر الإسلامي والتطور "

يمكن إبراز الدور أو الأدوار المنوطة بالحركات الإسلامية المعاصرة للإسلام في تحريك الواقع في المجتمعات الإسلامية وترشيده وتغييره في تقديرى في المهام التالية .

إيضاح البعد الإنساني التطورى التاريخي في نمو التراث الفكري الإسلامي بعامة والفقه الإسلامي بخاصة وتسليط الأضواء على عملية التراكم التراثي الحي وانتهائها إلى التوارث الركامي المتحجر الميت والتمييز الساطع الناصع بين الثابت والمتغير

وبين الملزم وغير الملزم وبين الوحي المعصوم بهدايته الدائمة والاجتهاد البشري بنسبته الحتمية القاصرة وبذلك يتقرر ويرسخ الأساس الأيديولوجي والنفسي للتجديد والاجتهاد في مجالات كالتربية والاقتصاد والفن وغيرها وتلبية الحاجات المعاصرة من المصادر الثابتة ومن ثم لا يتنكر المسلمون أى إبداع حضاري إيجابي ولا يكون مثلهم الأعلي تكرار ما مضي من التاريخ منذ قرون !

تنمية العدة الفقهية الأساسية: وهي فهم " البشر " وقضاياهم ومحاولة التوصل إلى حلولها على هدي القرآن والسنة ولا التركيز على " المصادر " وكلماتها وعباراتها وتحليلها لغة وبيانا ومنطقا واتفاق الجهودية الفردية والجماعية في " بلاغيات " المصادر بدلا من محاولة إدراك " سوسيولوجيا " الواقع من جهة؛

وأعماق المصادر وحكمتها في ترشيد هذا الواقع وعلاجه وتغييره إلى ما هو أفضل ومن عدة الفقه الأساسية التي لا غني عنها كذلك ترتيب الأولويات في خطة الإصلاح الإسلامي وفقهاء الرواد قد ميزوا بين النصوص في حجيتها وقوتها في ذاتها وفي دلالتها وإلزامها من حيث تطبيقها فهناك مراتب من حيث قطعية الورود والدلالة

ومراتب في الإلزام بالنسبة لما هي قطعي الورود والدلالة وهل هو للإيجاب أو الندب أو الإرشاد إذا كان أمرا وهل هو للتحريم أو الكراهة إذا كان منها وأوجبوا تقدير الضرورة والحاجة بالنسبة للمحظور واستجاب فقهاء " للمصلحة " المرسلة المتغيرة واعتبروها في فقههم؛

واعتبر فقهاء آخرون " عموم البلوي" .. وصارت هذه المصطلحات في أصول الفقه تاريخا متينا لا ينتفع منه بل صار " أصول الفقه " نفسه علما نظريا لا حياة له في واقعنا الفقهي كما صار " تاريخ الفقه " أيضا دراسة نظرية قد توجه فقط لإثبات عبقرية السلف أو التعصب لمذهب وقد لا توجه لشئ ما على الإطلاق .

والحركات الإسلامية طبعا ليست معاهد أكاديمية ولكنها تستطيع بل هي التي تستطيع وحدها تهيئة "المناخ" للتعال مع تراثنا الفكري والفقهي في هذا الضوء وللشروع فورا في التجديد والاجتهاد مع الحدّب والحنان خلال هذه " الولادة " ومع " الولد " في معاناته و" الوليد " في إهابة الغض

وقد استطاعت الحركة الإسلامية المعاصرة مثلا تهيئة المناخ لمحاولة إقامة " دولة إسلامية " تطبق شريعة الإسلام في وجه نزعة علمانية عاتية حتى انتهت المؤسسات التعليمية والقانونية والسياسية والقضائية إلى أن تتقبل هذا الاتجاه ثم تحاول أن تسير فيه .

إبراز أهمية " الحرية " و" كرامة الإنسان " وحقوقه الأساسية الثابتة في رسالة الله الخالدة التي ما جاءت إلا لتحقيق صالح الإنسان ورقية المادي والمعنوى فالله غني عن العالمين ولا تزيد ملكه طاعة ولا تنقص منه معصية فقد انتقل المسلمون مع الحركات الإسلامية المعاصرة من فهم الإسلام على أنه صلاة وصيام وشعائر؛

فحسب إلى فهم الإسلام على أنه بضع عقوبات وحظر للربا فحسب وكلا الفهمين يمثل قصورا وتحديدا وانحصارا وانحسارا عن حقيقة رسالة الله الشاملة وحقيقة الإنسان في جوهره الفريد وطاقاته المتعددة المبدعة الهائلة وهذا التقديم والتصحيح أساسي للعرض الأيديولوجي المقنع للإسلام في عالمنا المعاصر .

الانفتاح على جماهير البشر داخل بلاد المسلمين و على جماهير البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأفكارهم في العالم المعاصر بحيث يكون الإسلام جزءا لا يتجزأ من الإنسانية المعاصرة والحضارة المعاصرة وبحيث يعتاد المسلمون النظر إلى أنفسهم باعتبارهم عاملا فعالا في الواقع العالمي

تقوم علاقاتهم معه على الحوار الفكري والعملي وعلى الأخذ والعطاء لا على الفرض والإملاء برغم أنهم يمثلون الحكمة الإلهية العليا التي لا تقبل ندا ولا شريكا أو الانطواء والانزواء نتيجة للاستعلاء نفسه فالحكمة الإلهية نزلت على الناس خلال وسائط بشرية تجاوبت مع الناس وأحسنت التعامل معهم سواء أقبلوا عليها أم انصرفوا عنها؛

وتتابعت الأجيال المسلمة تتعامل مع العالم المعاصر حتى تأثر كثيرون " بالبشر " المسلمين في سلوكهم وعلاقاتهم الإنسانية فأسلموا حيثما لا تصل " الكلمة " أحيانا كثيرة إلى نفس التأثير عرضا وعمقا فليس الناس دائما مفكرين متعمقين ولكنهم دائما وجميعا بشر حساسون متفاعلون ويتأثرون بالعلاقات والسلوك والمواقف الإنسانية .

تحتاج الحركات الإسلامية المعاصرة إلى تعزيز الحرية الفكرية في داخلها وتقبل آراء الغير من خارجها واعتبار الحوار البناء الذي أكده الإسلام قوام الحياة واعتبار الشوري الحقيقية الفعالة بمعني المشاركة في صنع السياسة والقرار والاختيار الحر المسئول للقائمين على ذلك أساسا جوهريا لكل جماعة مسلمة حتى تكون ولاية الأمر ويكون ولاة الأمر بحق من الجماعة

كما عبر القرآن (وأولي الأمر منكم) وتكون " الشوري" قرينة العقيدة والصلاة والانفاق في مقومات الجماعة المنتمية للإسلام كما ذكر القرآ، وليس من المقبول أن تدعو جماعة إلى أن تحترم الدولة حرية الفرد والجماعة بينما لا تحترم هي حرية الفرد أو حرية الجماعات الأخري ويعين على ترسيخ الحرية الفكرية والحوار البناء والشوري الفعالة في الحركات الإسلامية المعاصرة أن تجد في التربية الأيديولوجية لأفرادها ولا تقنع فحسب بالتربية الروحية أو الخلقية

أو تقنع بالتربية الأيدلوجية المتجمدة في قوالب الماضي والمنزوية عن واقعنا المعاصر فلا يهرب أبناء تلك الحركات إلى التاريخ ليعيشوا في عالم موهوم متخيل وإنما يأخذون من الماضي رصيد الثقة على التغيير المتلائم مع حاجات العصر

ويدرسون عملية " التغيير " في تطور التاريخ وفي الواقع المعاصر ويستعينون بالعلوم التي تدرس هذا التغيير وتحاول أن تقنته كما ينفتحون على الواقع الأيديولجي والحركي المعاصر ليعرفوا أين يقفون منه وينتفعون به وكيف يخططون لمسيرتهم في ضوء المتجددات والمتغيرات وهكذا يتحول الهيكل التنظيمي القائم على " الانتخاب " إلى حقيقة الاختيار الحر والنقد البناء

وإلى تقدير اختلاف الرأي مع ضمان القنوات الشرعية للتعبير عن الآراء المختلفة في حرية وضمان الوسائل للإستفادة من الآراء المتعددة كذلك تكون الأدوات الإعلامية للحركة صورة لهذا التعمق الفكرى والأمانة والثراء فقد حرصت الحركات الإسلامية المعاصرة على أن تكون لها منشوراتها الدورية وغير الدورية

ولكنها كثيرا ما تركز علي " سطحيات " و" حماسيات " بدعوى التجميع وعدم التفريق وكثيرا ما تكون الأدوات الإعلامية والجماعة كلها أحيانا في أيدي قلة مسيطرة إن لم يكن فردا واحدا وبذلك يكون التنظيم الشوري شكلا وتكون الأدوات الإعلامية منبرا محتكرا يردد ويكرر نغمة وحيدة رتيبة .

أما سلبيات الحركات الإسلامية المعاصرة: فأبرزها في مجال الفكر: افتقاد التجديد والاجتهاد والانفتاح على جموع المسلمين العريضة وواقعهم وعلى العالم الواسع المعاصر بثقافاته وممارساته وافتقاد الحوار الجاد البناء مع النفس ومع الغير

وفي مجال التنظيم: غلبة الطاعة للقيادة على الشوري في حقيقتها وجوهرها وغلبة الولاء للتنظيم المعين والتقوقع فيه عن النظر للحركة الإسلامية في مجموعها وللشعوب وللإنسانية ككل وفي مجال التخطيط : الانطواء على النفس وتجاهل القاعدة العريضة في جماهير المسلمين وفي شعوب العالم

وهكذا تكون الحركة الإسلامية وكأنها لفئة معينة من المسلمين لا للمسلمين جميعهم ولا تخاطب العالم الذي تقارب مصالحه وتوثقت أدوات الاتصال فيه ويحتاج المسلمون إلى إسماعه صوت شعوبهم وصوت دعوتهم في حين يزورون عنه ويستعلون عليه .

وتحتاج الحركات الإسلامية إلى أن تقترن خطط العمل الطويل المدي بخطط العمل المتوسط والقصير المدي فلابد أن تكون لها دراستها وخططها بالنسبة لعلاج الواقع القائم سياسيا كان أو اجتماعيا أو اقتصاديا فلا تلوح دائما بالإسلام في عبارات مبهمة؛

ولا تقصر حلوها وتؤجلها إلى حين غلبة الإسلام أو الإسلاميين وقبضهم على ناصية الأمور بل لابد من إسهام في الدراسة وتقديم الحلول الممكنة للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاقتراحات المحددة للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاقتراحات المحددة للإصلاح السياسي وكفالة الحقوق والحريات وضمان العدالة الاجتماعية وتوسيع نطاق التعليم وزيادة كفاءاته وتحقيق النمو الاقتصادي في الواقع القائم فالعاقل هو الذي يعرف خير الشرين لا الذي يعرف فقط الخير من الشر كما تشير إلى ذلك كلمة هادية منسوبة لعمر بن الخطاب .

كذلك لابد للحركة الإسلامية المعاصرة في أى صورة تنظيمية ممكنة من مشروعات تعليمية أو صحية أو اجتماعية أو اقتصادية تكون حقلا تدريبيا للمسلمين ومجالا للإفادة من الخبرات القائمة في تلك المجالات والتنافس معها في الخير وعونا على إدراك حقيقة الواقع الاجتماعي الذي تعمل فيه الحركة ووسيلة عملية لتقديم دعوة الإسلام الإصلاحية إلى الجماهير العريضة وتعريفها بالحركة الإسلامية القائمة بين ظهرانيها.

وتحتاج الحركات الإسلامية المعاصرة إلى صحافة وإعلام أكثر ثراء وتنوعا وجاذبية بحيث تستفيد أدواتها الإعلامية من الوسائل التكنولوجية والقوالب الفنية المستحدثة وما زالت مجالات كالقصة والمسرح وأدب الطفل والفنون التشكيلية والتعبيرية بل وحتى الشعر والغناء في حاجة إلى حسم أيديولوجي يبني عليه ريادة وابتكار وعطاء ولو كانت مجرد بداية واستهلال .

أعتقد أن على الحركة الإسلامية أن تكون لها خططها طويلة المدى وخططها قصيرة ومتوسطة المدى بالنسبة لإصلاح الواقع السياسي وأن تستفيد من حصيلة الخبرات الإنسانية في مجال التطور السياسي فهي لا تعمل في فراغ وتاريخ التطور البرلماني في الشعوب المختلفة بما فيها الشعوب الإسلامية وثمرة تجاربه بسلبياتها وإيجابياتها ينبغي دراسته بجد وتعمق؛

كما أن تاريخ الحركات الثورية الشعبية قد عكفت على تحليله عقول ذكية وأقلام بارعة ولا ينبغي أن تغيب حصيلة ذلك كله عن الإسلاميين ليبدأوا المناقشة أو المحاولة والخطأ: هل الإصلاح أو التغيير الجذري هل الوسائل الشعبية السلمية أو العنف ... إلخ وحتى الصدام إذا تحتم ينبغي دراسته بعمق: متى يكون محتوما ومتي يكون منتجا يؤدي إلى ما هو أفضل لا ما هو أسوأ .. وهكذا .

ولابد من محاولة إقناع جاد مخلص أمين للقاعدة الإسلامية وللنظام الحاكم بأن الإسلام تحقيق للعدل وللنظام والاستقرار وللتطور الصحي السليم إلى حياة أفضل معا وهو لايهيج المظلوم ويطلق قواه الثورية العدمية في فوضي ودون هدف كما لا يروج للأمر الواقع والنظام القائم لمجرد أنه واقع وقائم وقابض على السلطة " وخير من الفتنة"!

أن التوازن بين " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " و " اتقاء الفتنة " ينبغي أن يتضح في أذهان الإسلاميين أنفسهم والتخطيط السياسي ينبغي أن يقوم على علم بالواقع النفسي الاجتماعي للحاكم والمحكوم وعلى علم بالقوى الاجتماعية السياسية الداخلية والعالمية؛

وعلى علم بالأدوات السياسية الفعالة المتعددة من إعلام وتحريك للجماهير العريضة وإعداد للكوادر وتغلغل إلى الأوساط القائمة بتوجيه الأمور من التكنوقراطيين والبيروقراطيين إذ لهم أهميتهم القصوى في بناء الدولة وتسييرها؛

ومحاولة الوصول إلى ولاة الأمور وصناع القرار السياسي في طبقاتهم العليا إلى عقولهم وقلوبهم والعمل على كسب ثقة من أمكن منهم إن العلم بكل هذا وممارسته ضرورة قبل أن تلهب الجماهير بسياط " حتمية الثورة " التي أخذت تتعانق مع " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " و" الجهاد " في سبيل الله والمستضعفين !

وليس من المعقول أن يقدم الناس أموالهم وأرواحهم ويتعرفوا على تجار السلاح ويتدربوا عليه ويحاولوا استيعاب وسائل العنف الثوري قبل استيعاب وسائل الإعلام والعمل السياسي الجماهيري بما فيه من احتمالات التصعيد الشعبي العلني المفتوح من تظاهر وإضراب وحركات طلابية وعمالية لا تصل إلى النسف والاغتيال !

ويحتاج هذا الأمر إلى تأصيل تفكيرى عام وإلى تخطيط عملي في ضوء ظروف الواقع في الزمان والمكان ولا يغني في ذلك الإجمال والتعميم ..

على أنه ينبغي اجتثاث جذور الفكر الإنقلابي عموما الذي يعتقد أن إزاحة أفراد أو فرض أفراد بالقوة من أعلي يكفي لإقامة نظام إسلامي ما دام الشعب مسلما بصفة عامة مهما كانت حقيقة فهم الإسلام والعمل به فمثل هذا التصور الإنقلابي يتعارض مع الإسلام بل حتى مع مفهوم الثورة الجماهيرية العريضة ذات الأهداف الشاملة في التغيير الجذري .

وعلى دعاة الإسلام أن يؤكدوا أن هدفهم هو أن يتحول نهج الحكم في مقاصده ووسائله إلى اتباع تعاليم الإسلام لا يغيروا أشخاص الحاكمين وأنهم لا يطمعون في سلطة وإنما يبذلون وسعهم لإيضاح حقيقة حكم الإسلام اعتقادا أو فكرا أو تشريعا أو سلوكا وجمع القلوب والعقول والجهود عليه

وإن كل مؤمن بالإسلام وتحكيم شريعته عامل على ذلك هو أخوهم الذي تجمعهم به عروة الإيمان الوثقي التي لا انفصام لها وأن الحاكم والمحكوم عليهما واجب الانتفاع بهداية الله وتبين خير السبل لتحقيق ذلك .

كذلك فإن على دعاة الإسلام أن يوقنوا أن التحول الديموقراطي الصادق الجاد مما يفسح المجال ويعزز الجهود للدعوة إلى الإسلام والعمل على تحكيم شريعته ولا يتناقض معهما وعليهم أن يتبينوا ويثبتوا في جلاء أن شريعة الإسلام في أسسها ومبادئها ضمان لحقوق الإنسان؛

وحشد لطاقات الأفراد المعنوية والعقلية والمادية ولطاقات المجتمع والدولة في سبيل حماية هذه الحقوق ومن ثم يكون عليهم أن يرحبوا بكل خطوة مخصلة جادة نحو الديموقراطية وأن يؤيدوا كل مساع إليها وأن لم يؤكد التزامه المباشر القاطع بإقامة الدولة الإسلامية أو تحكيم الشريعة فالتدرج نحو الهدف والاتفاق على خطوات مرحلية أمر معروف في منطق العقل ومسيرة المجتمع ورصيد التاريخ فضلا عن إقرار مبادئ الإسلام وتاريخه لمثل هذا التدرج.

ولا يعني هذا بحال التخلي عن النقد الموضوعي البناء والتضحية المخلصة في أمر معين فهذا طبعا يختلف عن الرفض لمبادئ القرار وليس التزاما صريحا بتطبيق شريعة الإسلام جملة وتفصيلا ومضمونا .

أما محاولة إقامة الحركة الإسلامية المعاصرة كجهة متأزرة وفتح قنوات التشاور والتعاون بين تنظيماتها المتعددة ومع غيرها من التنظيمات والشخصيات التي يمكن اجتمعها مع ممثلي الحركة الإسلامية بحكم وحدة الأهداف النهائية أو المرحلية؛

فأمر لابد من الجد في إقناع تنظيمات الحركة الإسلامية المتعددة نفسها به ويمكن أن يبدأ بجبهة للإسلاميين على نطاق غير محلي ثم جبهة للإسلاميين مع غيرهم في نطاق محلي فقد يكونون أدري بمن هم في بلدهم وأقدر على الحكم عليهم وبذلك نتوقي الاتهامات والتناقضات التي تدمر الجبهة وتجعلها تولد ميتة؛

ولابد من الصبر وطول النفس والحمة والحنكة في إقناع الإسلاميين بذلك فهم لم يعتادوا إلا " التفكير الواحدي " لا التعددي حتى داخل التنظيم الواحد وفي تاريخنا الحزبي والحركي القومي الإسلامي ما يؤكد ذلك .

واعتقد أنه يمكن مع وضوح الرؤية والصبر قيام " هيئة شورية " على نطاق عالمي تجتمع سنويا أو مرتين في العام وتمثل فيه الجماعات الإسلامية التي تقبل العضوية كما ينضم لعضويتها الأفراد القابلون المقبلون للمشاركة ويكون هؤلاء أول الأمر في صورة " مؤسسين "

ثم يضمون إليهم من يرون من تنظيمات أو أفراد بأكثر من فرد في الاجتماع مع تحديد حد أقصي على أن يكون لها صوت واحد عند التصويت أما الأفراد من أعضاء تلك الهيئة فيكون تصوبتهم فرديا بطبيعة الحال ويذكر عدد أصوات الأفراد على حدة وأصوات التنظيمات المنضمة على حدة وتصدر الهيئة " توصيات " لا قرارات ملزمة وتصدر هذه التوصيات بالأغلبية مع بيان رأي أو آراء الأقلية ..

ويمكن أن تتفرغ عن الهيئة لجان متخصصة دائمة (أيديولوجية وتنظيمية لائحية ،سياسية ،اقتصادية ،تعليمية ،إعلامية ... الخ ) أو مؤقتة لبحث مسائل هامة معينة كما يمكن أن يكون للهيئة أمانة عامة لها موظفوها الدائمون؛

وأن يكون لها مجلس تنفيذي إن رؤي ذلك وليس لهذه الهيئة أية صلاحيات إدارية بالنسبة للتنظيمات المنضمة إليها ويجوز أن تنظم ندوات علمية مقفلة أو مفتوحة وتمويل مثل هذه الهيئة ليس باليسير وعليها أن تعتمد على التمويل الذاتي من أعضائها تنظيمات وأفراد بصفة أساسية ويمكن أن تقبل الهبات والتبرعات على أن يتقرر القبول بالإجماع .

نحو مراجعة المقولات والآليات

  • الكاتب وهو الآن في بداية السبعينات من عمره يعتبر شاهدا حيا على مسيرة الإخوان المسلمين منذ الأربعينيات حتى يومنا هذا .
  • نشرت له عدة أبحاث ودراسات في مجال الدعوة الإسلامية " فكرة وحركة .
  • من أهم إسهاماته (أساسيات في موضوع الإسلام والحضارة) ورقة القيت في الندوة العالمية للشباب الإسلامي الرياض 1979 و (الإخوان المسلمين فكرة وحركة) ورقة ألقيت في ندوة البحرين دعي إليها مكتب التربية للخليج العربي 1984 وله كتاب (الإخوان المسلمون في ميزان الحق)
  • حاصل على ليسانس وماجستير شريعة وعمل مديرا لدار الكتب المصرية ثم وكيلا لوزارة الثقافة وهو الآن محام .
  • نحو مراجعة المقولات والآليات

الحمد لله وكفي وسلام على عباده الذين اصطفي ...أما بعد فإن نشوء ما يسمي بالحركات الإسلامية أو الجماعات الإسلامية أو الدينية لم يحدث من فراغ ... وليس هو في ذاته عمل تجرمه الدساتير الحديثة في أكثر دول المنطقة

وهو عمل يعد من قبيل أعمال ما نص عليه القرآن من مبدأ التعاون بين الناس على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومن قبل مبدأ التعاون بين المؤمنين والمؤمنات على أداء واجب لا أمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقوله تعالي : (ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)

والأصل في عمل هذه الجماعات أو الحركات هو الدعوة إلى الخير أى نشر الدعوة الإسلامية كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين وهو أيضا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمعروف هو : كل ما ينبغي قوله أو فعله طبقا للشريعة الإسلامية ومقاصدها كالسعي إلى نشر العلم ومحو الأمية والإحسان إلى الفقراء والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى المبادئ الدستورية الإسلامية كالشوري والعدل والحرية والمساواة ؛

كل ذلك داخل مفهوم المعروف في الإسلام وهو كما نعلم عمل الجماعات الإسلامية الراشدة قديمها وحديثها ولما كان الفكر بطبيعته ليس شيئا ينبت من فراغ لا سيما الفكر السياسي والاجتماعي ومن ثم فإن دراسة هذه الجماعات من منظور الفكر الذي تؤمن به تصدر عن ما قد يطرأ عليه من تغيرات أو تحولات نتيجة لتفاعل الظروف والمواقف والضرورات .

وحيث إن هذه الدراسة مكلفة بتقديم رؤية مستقبلية فإن ذلك المطلب يقتضينا نظرة تاريخية لو كانت مجملة على نشأة هذه الحركات أو الجماعات وذلك حتى يتسني لنا أن نعرض لحاضرها وأن نتطرق من بعد إلى رؤية مستقبلية لها

وهي أى هذه الجماعات على ما يكون بينها من أوجه الاختلاف في الخطة أو المنهج أو الوسائل فإن هناك هدفا نهائيا يكاد يجمع بينها هو العودة إلى الكتاب والسنة وتطبيق شريعة الإسلام واعتبار هذا الهدف هو المنطلق إلى التغيير والإصلاح الشامل لواقع المسلمين المتخلف حضاريا المتدهور اقتصاديا ... المتدني اجتماعيا .

نظرة تاريخية لماضي الحركات الإسلامية

من المعروف أن عالمنا العربي والإسلامي مر بمرحلة الاحتلال الأجنبي العسكري الذي زحف على عالمنا العربي الإسلامي إثر ما طرأ عليه من عوامل الضعف السياسي والعسكري والحضاري التي شجعت الدول الاستعمارية الطامعة في خيراته ومميزاته الاستراتيجية على غزوة واحتلال أرضه واستنزاف ثرواته وإنهاك قواه

وقد امتدت هذه المرحلة إلى ما بعد الحرب العالمية الأولي وأن مفسدة الاستعمار الأجنبي لم تخلو من مصلحة إذ إنها نبهت العالم العربي والإسلامي من إغفاءته العلمية والحضارية أني طال زمنها حيث أفاد المسلمون من احتكاك فكرهم الإسلامي التقليدي بفكر الغرب الذي أخذ منا فيما سبق

ثم سبقنا فيما لحق وقد كان دور الحركات الإسلامية في عملية التفاعل مع طروحات الفكر الغربي الذي وفد علينا حلال مرحلة الاستعمار وتوظيفه في عملية الأحياء والبعث الحضاري أقول كان دور الحركات الإسلامية في هذه العملية دورا بارزا ولقد عرفت منطقتنا ظاهرة " البلقنة " حيث عمد الاحتلال الأجنبي إلى تفتيتها وتقسيمها من خلال تكريس الحدود الجغرافية وتأكيد البني الثقافية المحلية والعرقية والإقليمية والقومية .

ضاق رواد الإصلاح في النصف الأول من القرن التاسع عشر لضعف المسلمين وتدهور أحوالهم ونشوب الخلافات بينهم فراحوا يبحثون عن أسباب هذه العلل فكان هناك ما يشبه الإجماع بينهم إلى أن مردها انحراف المسلمين عن دينهم

فلما ظهرت حركة " التغريب " في المنطقة واستهدفت بث النزعة " العلمانية " بمفهومها المجافي للعقيدة وأصول الإسلام الثابتة والتي ترمي إلى إحلال العلم محل الدين وفصل الدين عن السياسة والدولة وإقصاء الدين عن المجتمع؛

زاد اهتمام العلماء والدعاة المصلحين بالدعة إلى الإحياء الديني وإلى قيام الإصلاح على أساس من تعاليم الإسلام وأصوله وقد تم هذا التحرك من خلال الحركات الإسلامية التي بدأ ظهورها على الساحة في النصف الأول من القرن التاسع عشر ومن أبرز هذه الدعوات أو الحركات , الدعوة السّنوسية في شمال أفريقيا والحركة المهدية في السودان

ومن أبرز الدعاة في الحقبة السيد جمال الدين الأفغاني والسيد عبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا وغيرهم من رواد الإصلاح الذين يعتبرون امتدادا طبيعيا لمن سبقهم من الأئمة والدعاة مثل " ابن تيمية " و" محمد عبد الوهاب " وكانت مراكز العلم في البلاد العربية والإسلامية هي مراكز هذه الحركات الإسلامية

ولقد لعبت المساجد الكبرى دورا أساسيا في الذود عن الإسلام وبلورة المقاومة للإستعمار الغربي نذكر منها مسجد " القرويين " في فاس و" الزيتونة " في تونس " و" الأزهر " في القاهرة , كما بادر العلماء المسلمون في تأسيس الجمعيات الإسلامية فتأسست جمعية المقاصد الخيرية و " جمعية علماء الجزائر " وجمعية " أم القري " وغيرها من الجمعيات .

وحيال ذلك انقسمت الاتجاهات الفكرية في المنطقة إلى ثلاث فرق :

  1. فرقة اتجهت بكليتها إلى المدينة الغربية وحضارة الغرب ومناهج حياته والانحياز له والأخذ عنه دون نظر إلى الإسلام وترى أن في ذلك الطريق إلى الإصلاح المنشود ومن أمثال أصحاب هذا الاتجاه " قاسم أمين " و" لطفي السيد " و" طه حسين ".
  2. وفرقة أدارت ظهرها للغرب وعكفت على الاتجاه السلفي التقليدي متمسكة بوجوب العودة إلى التقديم جل هذا الفريق من علماء الدين .
  3. وأما الفرقة الثالثة فهي التي حملت الاتجاه التجديدي في إطار الإسلام دون الخروج على أصوله وأحكامه مع القبول بمبدأ الحوار بين الفكرين الإسلامي والغربي والإفادة من علوم الغرب وثقافته وأنظمته السياسية الديمقراطية وكل ما يقوم به نفع للأمة ولا يعارض أصول الدين وهي فرقة وسط بين الفرقتين السابقتين وجمع أصحابها بين الثقافتين الإسلامية والغربية ومن أبرز رموز هذه الفرقة " جمال الدين الأفغاني " و" محمد عبده " " السيد رشيد رضا " و" عبد الرحمن الكواكبي " والفقيه الدستوري الشهير " عبد الرازق السنهوري " ومنهم أيضا " الشيخ حسن البنا " مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928

هكذا نجد أن نشوء الحركات الإسلامية في عهد الاحتلال الأجنبي قد حركته دوافع تاريخية وشرعية نخص منها بالذكر:

الجهاد لتحرير المنطقة من براثن الاحتلال الأجنبي ثم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قياما بمواجهة التغريب دعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية وإذا كان الجهاد قد أثمر جلاء الاحتلال الأجنبي فإن عملية مقاومة الجماعات الإسلامية لموجة التغريب والعلمانية لم تزل كل مسوغاتها الشرعية قائمة حتى يومنا هذا لذلك نستطيع القول بأن بعض الأسباب التاريخية التي أدت إلى نشوء الحركات الإسلامية لا زالت قائمة .
ومن المؤسف أن بعض الجماعات الإسلامية أخذت تخلط في فهمها بين مبررات النشوء ومبررات الاستمرار من حيث خلطها بين فهم التاريخ وفهم الحاضر بمعني أوضح فقط أسقطت بعض الجماعات الإسلامية مرحلة الاحتلال الأجنبي بكل مواصفاتها على مرحلة الاستقلال السياسي وما حملته من ظواهر جديدة
مما أدي إلى الصدام المتوقع بين بعض تلك الجماعات والدول والسلط السياسية الجديدة في المنطقة والتي قامت بعد الحرب العالمية الثانية ولا تزال بعض الجماعات الإسلامية تنظر بعلاقتها بالدول والسلط السياسية كما كانت تنظر لعلاقتها بقوى الاحتلال الأجنبي ومن هنا وجدت بعض الجماعات الإسلامية نفسها في زاوية الصدام والأزمة مع حكومات أقطارها .

مآخذ على أكثر الجماعات الإسلامية الراهنة

ومن خلال رؤية نقدية لواقع الجماعات الإسلامية في وقتنا الحاضر لدينا طائفة من المآخذ التي تشوبها وتؤثر على عطائها

وقد تكون سببا في إعاقة حركتها أو الانحراف عن أهدافها نوردها فيما يلي :

  1. افتقار الرؤية الموضوعية الشاملة لواقعنا العربي والإسلامي وما طرأ عليه من متغيرات على الساحة الدولية وصراع المصالح الكبرى المتلاطمة فيه . إن الافتقار لهذه الرؤية الموضوعية الشاملة تجعل من تحرك الجماعات الإسلامية أقرب ما يكون إلى ردود الأفعال أو إلى الأفعال المنفلتة اللا إرادية وبذلك يحرم العمل الإسلامي فرصة إحراز أى تقدم ملحوظ نحو هدفه النهائي وأول من يسأل عن هذا الأمر قادة العمل الإسلامي لعجزهم عن امتلاك هذه الرؤية الاستيعابية نظرا لقلة معرفتهم ولضيق إطلاعهم ولذلك نجدهم غير مبالين بظواهر عصرنا الجديد من احترام مبدأ التخصص وإعمال مبدأ الشوري في اتخاذ القرار وغير ذلك .
  2. غياب خطة العمل الإسلامي : لا تنجح حركة عقائدية شعبية بغير أن يتوفر لها استراتيجية أو خطة عمل مدروسة محددة الأهداف والمراحل موضحة الوسائل لبلوغ الأهداف المرحلية والنهائية وبدون هذه الخطة يضطرب مسار الحركة وتتعرض لمخاطر قد تؤدي بحياتها أو تنال من فعاليتها ونمائها واستمراريتها .
  3. عدم الالتزام الجاد بالمبادئ من داخل الحركة ذاتها : ومما يؤخذ على كثير من الجماعات الإسلامية أنها لا تلتزم في ذاتها وفي علاقاتها بالغير بالمبادئ والأصول الإسلامية وعلى رأس هذه المبادئ والأصول والشوري والعدل والمساواة وحرية الرأي والنقد وفرض الوصاية والهيمنة على الآخرين وهي نزعة بارزة لدي عدد غير قليل من الجماعات إسلامية وما يتبع ذلك من نزعة تقديس أشخاص القيادة وتصنيف المسلمين حسب درجات الولاء للتنظيم أو قيادته وفي ذلك لا شك مفسدة للمسلمين وللجماعات الإسلامية .
  4. الأمية الدينية لدي كثرة من الشباب المسلم : يلاحظ أن عددا غير قليل من شبان الجماعات الإسلامية يعاني من الأمية الدينية ونستطيع رصد ذلك مائلا في صور مختلفة من الغلو أو ما يسمي بالتطرق الديني وهي ظاهرة عرفها المسلمون منذ فترة غير قصيرة فيعدد من الأقطار العربية والإسلامية والأصل في هذه القضية أنها ولدت خلف قضبان السجون وتحت سياط التعذيب في منتصف العقد السادس وبرزت على الساحة في أواخر العقد السابع وقد تخلصت ظاهرة الغلو هذه في بعدين : أولهما تكفري الحاكمة والمجتمع وثانيهما تغيير المنكر بالقوة ولم يعد خافيا انشغال الرأي العام بها واهتمام أولي الأمر بضرورة احتوائها أو القضاء عليها .

مشكلات تواجه الجماعات الإسلامية المعاصرة

لقد أصبحت الصحوة الإسلامية حقيقة قائمة وأمرا واقعا تشغل بال الغيورين على الإسلام وأمنه كما تشغل بال أعداء الإسلام لأنها تعد مؤشرا على يقظة المسلمين بعد إغفاءه طال في عصور التخلف والضعف .

غير أن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بوجود طائفة من المشكلات التي تواجه الصحوة الإسلامية من منظور فكري وسياسي واجتماعي ونجمل هذه المشكلات فيما يلي :

  1. الحاجة إلى تحديد مواقفها من الصراعات الفكرية والمذهبية المعاصرة مثل المذهب الشيوعي العقائدي " الماركسي " وما طرأ عليه من تحولات وتطورات فكرية سياسية بعد مجئ " غور باتشيف " لقيادة الاتحاد السوفيتي والمذهب الحر الليبرالي الذي ينادي بالديموقراطية السياسية والرأسمالية الاقتصادية والإباحية الاجتماعية والفردية النفعية .
  2. تحديد مصطلح " الخلافة " في منظور الفقه السياسي الإسلامي قديمه وحديثه وهل هي صيغة حم لها من الصفة التاريخية غير ما لها من الحم الشرعي .وينبغي في هذا الإطار تأصيل مفهوم الخلافة كنظام سياسي وتحديد المبادئ الأساسية التي تبني عليها فالشوري والعدل والمساواة وكفالة الحقوق والحريات للمواطنين وغير ذلك من القيم الدستورية والإسلامية التي تعتبر من الدعائم الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام .
  3. حسم بعض القضايا المعلقة مثل الموقع الاجتماعي للمرأة في الإسلام وما يتعلق بقضايا الاختلاط والزي والعمل والإسهام في الأمور العام وخاصة السياسية وحقوقها وحرياتها وغير ذلك مما يدخل في هذا الإطار .
  1. قضية الوحدة الوطنية: هناك حاجة ماسة إلى معالجة هذه القضية الهامة من كافة وجوهها في وضوح وصدق وصراحة من منظور مبادئ الإسلام وإزالة ما لحق هذه القضية من غبش الجهل وأهواء أعداء الأمة والملة ورعونة بعض المتعصبين عن جهل أو هوي .
  2. قضية تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال مشروع حضاري إسلامي متكامل تطبيقا مستنيرا متطورا يجمع بين التزام المبادئ الكلية والقواعد العامة والأصول الثابتة والأحكام التشريعية الملزمة في الكتاب والسنة بين ما يأمرنا به الإسلام وتحضنا عليه مبادئه من اجتهاد في مجال العبادات كما يسميه الأصوليون ومجال القانون العام في لغة فقهاء القانون الوضعي ولا خلاف في أن تطبيق الشريعة قد صار مطلبا شعبيا وليس مطلبا قاصرا على الجماعات الإسلامية .
  3. ونحن نعتقد أن هذه المشكلات لا يمكن أن توجد لها الحلول العلمية والموضوعية إلا إذا أعيد بناء الجسور بين حكام الأقطار العربية والإسلامية وبين التيار الإسلامي وتخطي الفجوة القائمة الآن بينهما ففي ذلك الكسب الحقيقي للإسلام والمسلمين والذي سينعكس أثره علي قضايا الحرية والشوري والتنمية والإصلاح والهوية الحضارية والوحدة التي ننشدها لأمتنا .

رؤية مستقبلية للجماعات الإسلامية

ينبغي ونحن في صدد دراسة الجماعات الإسلامية أن نضع في الاعتبار النقاط المحورية التالية:

  1. ضرورة الوعي بأن هذه الجماعات بشتي راياتها ومسمياتها تعتبر قطاعات عضوية من شعوبها تحمل في نسيجها ومكوناتها أقدارا مؤثرة في نسيج هذه الشعوب ومكوناتها بإيجابياتها وسلبياتها فالجماعات الإسلامية ينبغي إذن أن تدرس في سياق التطور السياسي والاجتماعي للشعوب العربية والإسلامية وليس بمعزل عن ذلك .
  2. ضرورة الوحي بأن أقطارنا العربية والإسلامية داخلة في إطار دول العالم الثالث أى الدول المتخلفة وأن الحركات الإسلامية تعمل بالتالي داخل هذا الإطار أى إطار التخلف .
  3. امتدادا لما ذهبنا إليه ينبغي الإحاطة بشيوع الإرهاصات الإسلامي في شتى أرجاء العالم العربي والإسلامي الحضاري الشامل هذا الانتشار السريع للفكرة الإسلامية لا يعني البته الاستغناء عن مناشدة الرأي العام العالمي في كثير من الدول المتقدمة نظرا لما لهذه الدول من علاقات مهيمنة وريادة مع دولنا العربية والإسلامية فنحن اليوم نعيش في زمن قويت فيه شوكة الرأي العام العالمي واستيقظ فيه ضمير الإنسان وتهيأ لمراجعات إنسانية لما آلت إليه أحوالها (أى الإنسانية)
  4. وتدعونا الرؤية المستقبلية للحركات والجماعات الإسلامية المعاصرة ونحن نستشرف هذه الآفاق العالمية إلى أن ندق ناقوس الخطر من أن تستنزف الرؤية الاستشرافية وحبسها خلف قضبان الحس الإقليمي المحلي إن من شأن هذا الانغلاق الوقوع في الدوامة المحظورة من صدام محلي بين التيار الإسلامي وأكثر أنظمة الحكم وهذا ما نحذر منه وندعو لتجاوزه ونحسب أن هذه الجماعات لو كانت على المستوى المطلوب قيادة ورؤية وجماعة لوجدت خطة عمل ثابتة ولتغير مسارها ولحققت إنجازات ملموسة في طريق أهدافها .

والحمد لله على ما يسر لنا من واسع فضله ولا أقول إلا ما قال شعيب عليه السلام (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أني ) والله يلهمنا السداد في الرأي والصدق في القول والعمل والله من وراء القصد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين .

من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة

الدكتور محمد عمارة

  • درس بالأزهر تسع سنوات حتى نهاية المرحلة الثانوية ثم في كلية دار العلوم جامعة القاهرة ومنها نال درجة الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية .
  • أنجز دراساته العليا بكلية دار العلوم في الفلسفة الإسلامية وكانت أطروحته للماجستير عن " المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية" ... أما موضوع الدكتوراه فكان عن " الإسلام وفلسفة الحكم".
  • متفرغ للعمل الفكري ... قدم للمكتبة العربية الإسلامية أكثر من سبعين كتابا ما بين تأليف وتحقيق لتراثنا القديم منه والحديث وتبرز في أعماله الفكرية اهتماماته بالفكر الإسلامي وتراث الاستنارة والعقلابية الإسلامية والتمايز الحضاري وإلقاء الضوء على صفحات التاريخ التي تسهم في صياغة المشروع الحضاري العربي الإسلامي البديل والمنافس لمشروع التغريب .
  • كما تتميز كتاباته بالنظرة النقدية لتراث حقبة التراجع والجمود في تاريخنا الحضار وبقراءة جديدة لأصولنا الفكرية في ضوء متغيرات العصر وبمنطق العقلانية الإسلامية المتميزة .
  • كما تتميز كتاباته بالنظرة النقدية لتراث حقبة التراجع والجمود في تاريخنا الحضاري وبقراءة جديدة لأصولنا الفكرية في ضوء متغيرات العصر وبمنطق العقلانية الإسلامية المتميزة .
  • من أحدث كتبه (الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري) و(الإسلام وحقوق الإنسان) و(الغزو الفكري وهم ؟ أم حقيقة ؟؟) و( الطرق إلى اليقظة الإسلامية) و(الاستقلال الحضاري) و(من معالم المنهج الإسلامي)

الذي يقدم فيه اجتهاد الصياغة منهج الإسلام البديل عن منهج التغريب مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة كانت هذه الصفحات وإن لم يكن في يوم من الأيام قد انتسب إلى عضوية تنظيم من تنظيمات الحركات الإسلامية ...

إلا أنه ليس غربيا عن أن يكتب في هذا الموضوع ... موضوع "الحركات الإسلامية : نظرة مستقبلية" ... وعلى الأقل من خلال الزاوية والجزئية التي اختار أن يفرد لها هذه الصفحات ..

فبحكم التكوين الفكري الموروث الذي اتخذه سبيلا للتعلم وللعلم : الدراسة في الأزهر ودار العلوم وبحكم التخصص الأكاديمي في العلوم الإسلامية .. والتفرغ لقضايا الفكر الإسلامي ... كان الاهتمام بالحركات الإسلامية شاغلا أصيلا من شواغل كاتب هذه الصفحات حتى في حقبة من تاريخه السياسي والفكري كان فيها رافضا لطريق هذه الحركات فبحكم العلائق وبحكم هذا الرفض أيضا كانت هذه الحركات في بؤرة الاهتمامات .

ولقد زادت هذه الاهتمامات فبلغت مستوى المتابعة للكثير من أدبيات الحركات الإسلامية . ومواقفها وأنشطتها وللمد والجزر اللذين تناوبا على العديد من فصائلها ... زادت هذه الاهتمامات في الربع قرن الأخير .. وذلك منذ أن استخلص كاتب هذه الصفحات عقله ووجدانه وإسهاماته الفكرية لقضية البعث الإسلامي جنديا من جنود الفكر الذين يجتهدون لتجديد دنيا المسلمين بتجديد الفكر الإسلامي ".

ولقد تجسدت حصيلة هذه الزيادة من الاهتمام بفكر وأنشطة الحركات الإسلامية المعاصرة في عديد من الكتب والفصول والدراسات التي قدمها كاتب هذه الصفحات إلى المكتبة الإسلامية . فبعد دراسة الأصول التاريخية والجذور التراثية في كتاب (تيارات الفكر الإسلامي) كانت الدراسة لـ (تيارات اليقظة الإسلامية الحديثة).

ثم جاءت الدراسات التي أنجزتها عن الشيخ حسن البنا (1324 – 1368هـ 1909 -1949 م) وجماعة الإخوان المسلمين ... وعن أبي الأعلي المودودي (1321 – 1399هـ 19031979م) والجماعة الإسلامية وعن سيد قطب (1324 – 1386 هـ 1906 -1966م) وتيار الرفض الغضب الإسلامي ... وعن جماعة الجهاد والفريضة الغائبة

وبعد إنجاز هذه الأعمال الفكرية زادت اهتمامات كاتب هذه الصفحات بأدبيات فصائل تيار الرفض والغضب الإسلامي فأخذ يجمع هذه الأدبيات على أمل أن يفرد لفكر هذا التيار عملا يفي بدراسته دراسة موضوعية إن شاء الله .

إذن ... فكاتب هذه الصفحات وإن لم يكن عضوا في أى تنظيم من تنظيمات الحركات الإسلامية المعاصرة إلا أنه يرجو أن تكون لديه مؤهلات الحديث في هذا الموضوع .

وإضافة إلى ما تقدم وهي إضافة بالغة الأهمية في هذا المقال فإن الاهتمام بفكر ونشاط الحركات الإسلامية المعاصرة ليس لمجرد الدراسة التي تستهدف أن تصدر في كتاب أو عدد من الكتب والأبحاث ... وإنما هي اهتمامات مجاهد سلاحه الفكر بإخوة المعركة الواحدة ورفاق الخندق النضالي الواحد

الذي نجاهد منه جميعا لبعث هذه الأمة وانتزاع استقلالها السليب وتحقيق نهضتها بالإسلام ... فهو ليس اهتمام " الأكاديمية الحرفية " وإنما هو اهتمام العضو الذي يمتلك بالفكر أعلي مستويات الحساسية بسائر أعضاء الجسد. .. جسد الطلائع التي تقف على أرض معسكر البعث الإسلامي الجديد ..

فهذه الحركات الإسلامية المعاصرة بالنسبة لى ليست مجرد مادة للدراسة .. وإنما هي:

  • الأمل الإسلامي المرشح والمؤهل لقيادة النهضة الإسلامية المنشودة لهذه الأمة والتي نأمل أن تحقق لها الاستقلال الحقيقي .. والتقدم الحقيقي .. والقوة العادلة .. لتعود هذه الأمة ثانية إلى صدارة الدنيا وإمام العالم تسهم إسهامها الطبيعي والمتميز في ترشيد مسيرة البشرية جمعاء .
  • وهي المالكة الوحيدة "للشوكة الفكرية " أى للفكر القادر وحده ودون سواه على تحريك جماهير الأمة وحشدها لتنتمي إلي الذات ولتدفع العدوان عن هذه الذات ولتحقيق المشروع الحضاري الذي تتحقق به وتزدهر هذه الذات .. ذات الأمة الإسلامية ...
  • إنها المالكة لهذه الشوكة الفكرية ولوقوفها إجمالا على أرض الهوية الحضارية الإسلامية .. ومن ثم فإنها المالكة لزمام حركة وتحريك الجماهير الإسلامية مادة وأداة التغيير ... وصاحبة المصلحة الأولي في التغيير الإسلامي المنشود .. ولذلك كان وسيظل الانعطاف الجماهيري الكبير وتعاطفها المتنامي نحو هذه الحركات ..
  • وهذه الحركات الإسلامية هي الناهضة بالفريضة الإسلامية الكفائية والمحققة للواجب الشرعي الاجتماعي ... فريضة وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... والتواصي بالحق والتواضي بالصبر على تبعات ومشاق طريق الحق .. أى أنها الطلائع الإسلامية التي تنهض بهذه الفريضة نيابة عن العامة والجمهور مستعينة بهؤلاء العامة وهذا الجمهور .
  • وهذه الحركات الإسلامية هي الوعاء التنظيمي الذي يستوعب الطاقات الإسلامية النشطة والفاعلة فيوظفها في المكان المناسب والنافع منقذا لها من التردي في أوعية تيارات العلمانية والتغرب والاستلاب الحضاري والمروق والإلحاد والانحلال واللامبالاة إنها العاصم لشباب الأمة مادة المستقبل وعدته من التواكلية والانحلال ومن السقوط في المستنقعات التي تمد التنظيمات العلمانية بالمدد الجديد والدم الجديد ..
  • إنها نحن ... ونحن منها .. وبها .. ومعها ... تقف معا وجميعا في ذات الساحة وبذات المعسكر . ونجاهد متكاتفين من ذات الخندق .. حتى وإن اختلفنا وخالفنا بعض فصائل هذه الحركات الإسلامية المعاصرة في بعض من الرؤي وعدد من السبل والبدائل والتصورات ..

هذا عن علاقة كاتب هذه الصفحات بالحركات الإسلامية والمعاصرة وعن مكانه منها ومكانتها لديه .ولذلك ... فإن النقد الذي تجتهد هذه الصفحات لتلمس بعضا من جوانبه هو جزء من أداء كاتب هذه الصفحات لفريضة النصح والتناصح الإسلامية .. تلك الفريضة الكفائية الواجب الشرعي الاجتماعي الذي افترضه الله علينا تجاه هذه الحركات... وهي تتعين على أهل الاختصاص وإمكانات استهدافا لتقويم المسيرة وترشيد المسعي ضمانا لبلوغ الأهداف ...

فـ " الدين النصيحة ولله ولرسوله ولأمة المسلمين وعامتهم " رواه البخاري ومسلم .. وهذه الحركات الإسلامية المعاصرة هي في موقع " الإمامة " السياسية والاجتماعية والفكرية شعبيا وجماهيريا بالنسبة لأمة الإسلام وعامة المسلمين .

ولأن هذا هو حال كاتب هذه الانتقادات لبعض من فصائل الحركات الإسلامية المعاصرة كان معيار هذا النقد الذي يحتكم إلى مقاييسه وضوابطه هو معيار المنهج الإسلامي وخصيصة النظرة الإسلامية: الوسطية الإسلامية الجامعة التي هي : عدل بين ظلمين وحق بين باطلين واعتدال بين طرفين وتوازن وموازنة ينفيان الخلل والاختلال؛

ويضمنان النظرة الشاملة التي تبرأ من انحياز وتطرف وانغلاق النظرة الوحيدة الجانب التي تري في الظاهرة إلا أحد قطبيها والتي تعجز عن الجمع والتأليف بين عناصر الحق ومكوناته دونما ميل أو هي أو انحراف ..

وصدق الله العظيم إذ يقول: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة : 143 وصدق رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم إذ يقول: "الوسط العدل جعلناكم أمة وسطا " رواه الإمام أحمد .

فمواطن " الخلل " التي تتلمسها وتنتقدها هذه السطور هي المواطن التي غابت فيها عن الحركات الإسلامية المعاصرة موازين الوسطية الإسلامية الجامعة سواء أكان ذلك في " الفكر " أو " الممارسة " لدي هذه الحركات

أما مواطن "الخلل" هيه فإننا نتخير منها نماذج هي على سبيل المثال:

الخلل في فهم " التعددية .. وفي الإيمان بجدواها " إن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة .. ولا نبالغ إذا قلنا أكثريتها .. إنما تقف من مبدأ " التعددية " سواء في الرؤي الفكرية أو في الأوعية التنظيمية والتنظيمات الحركية وموقف الرفض العدائي أو الريبة الشديدة أو الشك في شرعيتها أو في ضرورتها وجدواها .

وهذا الرفض لهذه " التعددية " ليس نابعا من مجرد الرغبة في الانفراد بالفعل وبالقرار وبالجماهير في الساحة الإسلامية وهي رغبة مفهومة ومقبولة وإنما هو رفض نابع من خلل جعل هذه الحركات لا تميز بين الأصول والمبادئ والقواعد الإسلامية التي لا يجوز فيها الاختلاف؛

والتي هي لخطرها وكليتها وثباتها الضامنة لوحدة الأمة في العقيدة والشريعة والروح الحضارية ... الخلل في التمييز بين هذه الأصول الجامعة وبين الفروع والجزئيات والسبل والوسائل المتعلقة بالمتغيرات والمتغيرات الدنيوية على وجه الخصوص

وهي التي لا تضر فيها تعددية الرؤي والمناهج وتعددية الدعوات والتنظيمات .. بل ربما تكون هذه التعددية في هذا النطاق مصدرا للثراء الفكري ودافعا على تحريك العقل نحو الاجتهاد والإبداع ومنبها على الأخطاء والانحرافات ومرايا يري فيها الجميع العيوب والأمراض فيسرعون إلى علاجها والخلاص من مضاعفاتها ..

لقد سن لنا تاريخ الفكر الإسلامي منذ عصر الصدر الأول سنة حسنة أهتدي فيها بمنهج الإسلامية الجامعة وذلك عندما علمنا أنه لا اجتهاد في الأصول في الأصول والمبادئ والقواعد التي بني عليها الإسلام اللهم إلا الاجتهاد في الفهم والتعقيد وإلحاق الفروع بالأصول ...

فهذه هي مساحة وإطار وحدة الأمة التي يمتنع فيها الاختلاف ومن ثم فتمنع التعددية ... أما في الفروع التي تقام أبنيتها على هذه القواعد فهنا يصح بل ويجب الاجتهاد ... فإن هذه السنة الإسلامية هي بعينها الإعلان الإسلامي عن شرعية ومشروعية التعددية الإسلامية في هذه المساحات من الفكر وتطبيقاته وفي الأدوات اللازمة لذلك ومنها التنظيمات .

تلك هي سنة الإسلام التي شرعت وقننت لمبدأ التعددية في الفكر الإسلامي وفي الممارسات الإسلامية منذ صدر الإسلام والتي بناء عليها وتطبيقا لمنهجها كانت تيارات الاجتهادات الإسلامي مصدرا لثراء الفكر الإسلامي على عهد الازدهار الحضاري الذي سبق عصر التراجع والجمود ..

وغيبة هذه السنة الإسلامية الحسنة والمتميزة عن وعي أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة هي في تقديري المصدر الأول في هذا " الخلل " إلى جعلها ويجعلها تتخذ من التعددية ذلك الموقف المتراوح ما بين التحريم والعداء والرفض والارتياب والنفور !

وإذا كانت الرؤية الصحيحة والواعية نسبيا لهذه القضية قد عصمت بعضا من الحركات الإسلامية المعاصرة من هذا العداء للتعددية كما هو الحال في السودان وتونس مثلا فإن الإخوان المسلمين بمصر تجربة في " التعايش " مع " الجمعية الشرعية "؛

وهي إن لم تنبع من الإيمان بالتعددية على النحو الذي نتحدث عنه إلا أنها تستحق الدراسة كنموذج لأفق يري اتساع العمل الإسلامي لتعددية في الحركات التي تركز كل منها على ميدان لا يكون موطن التركيز لدي الأخرى ...

إنها نماذج إيجابية لكنها تظل جزئية كما تظل الاستثناء الذي يؤكد سيادة قاعدة " الخلل " الذي أصاب ويصيب موقف الحركات الإسلامية المعاصرة في هذا المقام .. مقام " التعددية " في الرؤى وفي التنظيم .. وحظه من " الإسلامية " ومن " الضرورة " في واقع العصر الذي نعيش فيه ..

الخلل في علاقة الذات بالآخر "

لو أن "الواقع في ديار الإسلام قد ظل إسلاميا خالصا" يسود فيه منهج النبوة على النحو الذي حدث في الصدر الأول للإسلام لما دعت الدواعي إلى قيام "الحركات الإسلامية " لكن هذا التمني هو مما تأباه سنن الله في تطور المجتمعات كل المجتمعات .

وفي حال " الواقع " الإسلامي . فالفتوحات الجديدة قد ادخلت إلى الأمة والدولة والفكر " آخر " شاب نقاء المنبع الإسلامي بشوائب منها ما كان نافعا ومنها ما كان ضارا فأصاب التصورات الإسلامية والواقع الإسلامي بتشوهات أو غبش تفاوتت إثاره في الخطر والتأثير ..

ولقد تزامل مع هذا الوافد الذي أتت به الفتوحات ومواريث أمم البلاد المفتوحة ثمرات القرون التي تتوالي والتي تأتي في صورة بدع ومستحدثات تطرأ على العقائد والشرائع إن بالزيادة أو الانتقاص أو التحريف والتشويه ..

فلما جاء الحين الذي تراكمت فيه هذه الآثار وغيرها فدخلت بعصر الإزدهار للحضارة الإسلامية منعطف التراجع والجمود والفقر في الإبداع تصادف إن كانت السيادة على " الدولة " في ذلك المنعطف للعسكر الترك المماليك فساء في حضارتنا لعدة قرون ما تواجهه الحركات الإسلامية الحديثة والمعاصرة من تحدي :" التخلف الموروث "

ثم حدث أن عاجلت الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة بواكير يقظة الاجتهاد الإسلامي التي نهضت لتخليص الأزمة من هذا " التخلف الموروث " .. عاجلت الغزوة الاستعمارية بواكير يقظة الاجتهاد الإسلامي فأجهضتها ثم أضافت إلى شوائب التخلف الموروث " شوائب " التغريب " التي رعتها سلطات الاحتلال ومؤسساته الفكرية والتعليمية والإعلامية ..

فأضيف إلى تحدي " التخلف الموروث " تحدي " الاستلاب الحضاري " الذي يمسخ وينسخ ويشوه الهوية الإسلامية لفكر الأمة ولواقعها .. فكانت " البلوي " التي استنفرت حدتها عندما أوشكت على العموم ضمير الأمة وعقلها ووجدانها فردت عليها ذلك الرد الإيجابي الذي تمثل في الحركات الإسلامية التي عرفتها ديار الإسلام منذ جمال الدين الأفغاني و(العروة الوثقي) وحتى الحركات التي نعنيها بالحديث في هذه الصفحات .

إذن .. فالحركات الإسلامية المعاصرة لا تنفرد وحدها بالعيش والحركة في واقع ديار الإسلام .. وإنما معها " آخر " يزاحمها في الفكر والواقع الذي تعيش فيه .. وهنا نلمح خللا في علاقة هذه الحركات الإسلامية بهذا " الآخر "

وعلى سبيل المثال ... فإن هيمنة النموذج الحضاري الغربي على مؤسسات الفكر والتعليم والإعلام في بلاد الإسلام قد صنع من أبناء هذه الأمة تيارا متغربا يتبني مذاهب الغرب الوضعية ويدعو إلى علمانيتها ... وهذا الآخر العلماني " ليس كل من فيه " عميلا " يسعي إلى إلحاق ديار الإسلام بالمركز الغربي ويعادي نهضة الأمة وقوتها واستقلالها ...

فإلي جانب قلة من " العملاء " ... وإلى جانب قلة من " العلمانيين الثوريين " الذين تطمح علمانيتهم إلى نقض الدين والتدين وليس فقط إلى فصل الدين عن الدولة والخلاف مع هؤلاء هو خلاف في " الأصول " وليس خلافا في " الفروع " إلى جانب هذه القلة من " العملاء " ومن الزنادقة وأعداء الدين والتدين هناك في صفوف " الآخر العلماني " كثرة سلكت سبيل التغرب والعلمانية لأسباب كثيرة منها طبيعة النشأة والتكوين الفكري ..

ومنها رجحان كفة " الخيار الغربي " عندما قارنوه بصورة " الخيار الإسلامي " على النحو الذي كان سائدا في عصر التراجع والجمود ولقد حسبوه هو الإسلام وظنوا أنه " الخيار الإسلامي " الوحيد .. ومنها ذلك " الاجتهاد الخاطئ " الذي اعتقد أصحابه أن استعارة " النموذج الغربي " هو السلاح لمواجهة الغرب ولاستخلاص الوطن والأمة من استعماره

وهذا القطاع من العلمانيين المسلمين هو الذي نقول إن علاقة الحركات الإسلامية المعاصرة به يسودها " خلل" كبير وأكيد ... إن الأغلبية الساحقة من الحركات الإسلامية قد أسقطت هذا القطاع من العلمانيين من حساب " الإمكانيات " التي عليها أن تتعامل معها وأن تجتذبها إلى صفوفها.. أو على الأقل الانتقال بهم من صفوف " الأعداء " إلى صفوف " الأصدقاء– المتفهمين " أو " المحايدين " !...

لقد وقفت أغلب الحركات الإسلامية من هؤلاء العلمانيين القابضين على أغلب وسائل التأثير والتوجيه في الواقع الإسلامي موقف الجهل بدوافعهم إلى العلمانية والتجاهل للإضافات الهامة التي يمكن أن يضيفوها إلى المشروع الإسلامي أن هم فهموا حقيقته ... فكان الانصراف عن الجهد المطلوب لاكتشاف نقاط الاتفاق . وتنميتها محاصرة وتقليصا لنقاط الخلاف مع هذا " الآخر العلماني " .

كذلك يسود هذا " الخلل " في علاقة الذات الفكرية " لدي الحركات الإسلامية . بـ " الذات الفكرية " للآخرين .. فعلاقة الاغلبية الساحقة من الحركات الإسلامية بنظريات الآخرين ومناهجهم في البحث والتفكير يسودها خلل الجهل أو التجاهل أو هما معا !..

الأمر الذي يقف بهذه الحركات عند إطار وحدود " النقيض " و" رد الفعل " للحركات العلمانية ونظرياتها ومناهجها على نحو يتسم بالعموم والإطلاق ... تجهل ما يعلمون وتعلم ما يجهلون الأمر الذي يكرس ويؤيد هذا الانقسام الذي فرض على عقل الأمة وطاقاتها والذي يجعل بأسها شديدا بين أبنائها وكما يهدد طاقاتها بالتبدد عندما يقف الفريقان عند وضع " شد الحبل " هذا دون غالب أو مغلوب ؟!

والأمر الذي لا شك فيه هو وجوب خروج الحركات الإسلامية من " رد الفعل " للحركات العلمانية إلى وضع " البديل " الذي لا يقنع بالجهل والتجاهل لما لدي " الآخر " وإنما يسعي جاهدا لامتلاك " الوعي " بما لدي الآخر

سواء منه ما يدخل في إطار " النافع " الذي يستلهم " أو " الضار" الذي يعين الإدراك له على فعالية التحصن من الوقوع في حبائله وعلى جدوي النقد له ولننقذ من آثاره الآخرين !.

كذلك تشهد علاقة الحركات الإسلامية بـ " الآخر " الخارج عن عضوية تنظيماتها خللا متفاوت الدرجات لدي هذه الحركات ... فمنها المغالي الذي يري في جماعته كل جماعة المسلمين !... ومنها المعتدل الذي يري جماعته جماعة من المسلمين لكنه ينظر بالتجاهل أو الإهمال إلى كل من خارج دائرة " التنظيم "؟

الخلل في العلاقة بين "المحلية" وبين "العالمية" الإسلامية :

إن الكثير من "تصورات الفكر" لدي الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة قد خلصت بين وحدة الإسلام الدين كوضع إلهي في العقيدة والشريعة لم ولن يعرف التعددية في الأصول والقواعد والمبادئ والأركان

خلطت بين هذا الإسلام الواحد وبين " تصورات الفكر الإسلامي " التي من الممكن بل ومن الواجب الطبيعي أن تعدد المكونات والمنطلقات التي تسهم مع الإسلام الواحد في صياغتها وتحديد معالمها ..

فإلى جانب وحدة الإسلام التي تثمر وحدة الفكر الإسلامي في العقيدة وفي الشريعة ... هناك الفكر الإسلامي " الذي يدخل " الواقع الإسلامي عاملا من عوامل إفرازه وتحديد معالمه وهو الفكر الذي تتميز تصوراته بتميز الواقع في ديار الإسلام عبر الزمان والمكان .

لكن الخلل الذي أصاب ويصيب تصورات كثير من الحركات الإسلامية للعلاقة بين هذين المستويين من مستويات النسق الفكري الإسلامي قد جعلت وتجعل الكثير من هذه الحركات في " الفكر " تنحو نحو " تجريد نظري " يتصور تبعا لوحدة دين الإسلام عالم الإسلام وواقع دياره نسقا واحدا منسقا لا يعرف الفوارق في مستويات التطور ولا اختلاف في الأعراف والعادات والمذاهب والتصورات ..

أما في " الممارسة والتطبيق " فإن هذه الحركات تستغرق إلى حد الغرق في " المحلية " التي تجعلها منكفئة على واقعها المحلي دون سواء حتى لتقف بأغلب اهتماماتها عند خصوصيات الإقليم الضيق الذي تعيش فيه إلى عالمنا المتشابك صورة " القبائل " التي لا ترى أبعد من عالم مضارب الخيام التي تعيش فيها ؟!..

وإذا كانت الحركات الإسلامية وهي كذلك " طلائع أمة " وليست " طلائع طبقة " وإذا كانت هذه الأمة تعيش في وطن يمتد من " غانة " إلى " فرغانة " مشتملا على تمايزات في الواقع والمواريث ومستويات التطور والمصالح والاهتمامات والطموحات والمشكلات والأعراف والعادات وطرائق العيش وأسبابه بل والمناخات ... إلخ ... الخ فمن الطبيعي أن تكون هناك أهمية لعلاقة تبرأ من الخلل وتقيم بين ما هو "واحد " وما هو " متعدد " في النسق الفكري للإسلام والمسلمين ...

وبذلك تتزامل "المحلية و" العالمية الملية الإسلامية " دونما خلل أو إهمال لأي منهما لحساب الآخر أو على حسابه كما هو حادث الآن عند الكثير من هذه الحركات ..الخلل في علاقة "التاريخ بـ" العصر "... وفي علاقة " الأموات بـ " الأحياء "... وفي علاقة " الموروث " بـ " الإبداع "

كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة تسيطر على نظرتها إلى التطور التاريخي فكرة "التراجع التاريخي" ونظرة التدني والهبوط لخط بيان التطور والتقدم عبر هذا التاريخ .

وبعض الباحثين يقف في تعليل هذه النظرة الخاطئة إلى خط سير التقدم عبر التاريخ لدي هذه الحركات عند التفسير الذي تقدمه هذه الحركات للحديث النبوي الشريف الذي قال فيه الرسول صلي الله عليه وسلم:"خير أمتى القرن (أى الجيل) الذي أنا فيه " رواه مسلم وأبو داود والإمام أحمد .

ورغم صدق هذا التعليل إلا أن هذا السبب ليس الوحيد في تكوين نظرة هذه الحركات التي تؤمن بتراجع التقدم والخيرية عبر التاريخ وبمرور قرونه فمع خطأ هذه الحركات في تفسير معني هذا الحديث الشريف تقف وتتزامل أسباب أخرى منها المقارنة التي تجريها هذه الحركات بين حال الأمة وبين حالها في عصر صدر الإسلام وهي مقارنة توهم بصدق هذه النظرة التي تؤمن بتراجع الخيرية والتقدم بمرور الزمن وتقادم التاريخ ..

وفي اعتقادي أن مراجعة هذه النظرة لكشف الأخطاء القائمة في أسبابها ومنطلقاتها هو الكفيل بتصحيح الخلل السائد في فكر الكثير من الحركات الإسلامية التي تعيش في الماضي دون الحاضر أو أكثر منه ...

والتي تستفتي " الأموات " في كل شئون الأحياء مهملة التمييز في القضايا الفكرية بين "الثوابت " وبين المتغيرات والتي تقدس " الموروث " على النحو الذي يقلل إلى حد الازدراء من شأن " الإبداع " بل والذي يخلط بين " البدعة في الدين " وبين الإبداع في الحضارة " فيرفضهما معا ! إن هذه المراجعة ضرورية لتصحيح هذا الخلل الملحوظ والسائد لدي قطاعات كبيرة في كثير من هذه الحركات .

فبالنسبة لتدني المستوي الحضاري للأمة الإسلامية اليوم عن نظيره في عصر ازدهارها الحضاري وهو أمر غير منكور فإنه تدني قد نبع وارتبط بتخلف شروط النهضة والازدهار الحضاري أى أنه عارض يزول بزوال أسباب التخلف وليس " قدرا تاريخيا" ولا " حتمية " من حتميات توالي القرون "

أما عن الحديث النبوي الذي يقطع بأن خير أجيال الأمة هو جيل الرسول عليه الصلاة والسلام ... فهذه الحقيقة التي تحدث عنها هذا الحديث , تحتاج إلى عرض وإلى تفسير قد يقضيان بنا إلى فهم آخر غير الذي فهمته منه هذه الحركات المؤمنة بتراجع الخيرية والتقدم بمرور التاريخ ..

وفي اعتقادي أن هذا الحديث النبوي يستأثر بالخيرية " المطلقة " لجيل الرسول عليه الصلاة والسلام ... وإنما هو يتحدث عن خيرية " التأسيس لقواعد النموذج الإسلامي "... وهي خيرية للثوابت والقواعد لا تنفي خيرية الفروع والأبنية التي يقيمها الخلف على هذه القواعد والأسس مع بقاء خيرية الأسس متميزة باعتبارها هي التي تمنح الفروع والأبنية التي يقيمها الخلف على هذه القواعد والأسس مع بقاء خيرية الأسس متميزة باعتبارها هي التي تمنح الفروع والمستجدات الروح والصبغة التي ميزت الأسس فكأنما خيرية الجديد وهي غير منفية مستمدة من خيرية الأساس !.

ويشهد لهذا التفسير الذي تقدمه لهذا الحديث النبوي ما نراه من شهادات أخري تزكية وتدعمه عندما تقول إن النظرة "التقدمية " لخط سير التقدم عبر التاريخ وليست النظرة " النزاجعية" هي المعبرة عن حقيقة موقف الإسلام في هذا المقام .

فنظرة الإسلام إلى خط سير التطور الإنساني منذ آدم إلى محمد وعبر رسالات الرسل ونبوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تؤكد النظرة المتقدمة والمتصاعدة لخط سير الخيرية والتقدم عبر التاريخ ... فالإنسانية قد بلغت برسالة محمد صلي الله عليه وسلم سن الرشد بعد أن كانت خرافا ضالة في فترات سبقت ذلك التاريخ ..

وموقف الإسلام المتميز من أدلة " العقل " و" الكون " شاهد على هذا الارتقاء الإنساني بمرور التاريخ .. بل إن ختم الرسالات السماوية برسالة المصطفي صلي الله عليه وسلم والاعتماد في التجديد الديني وتطوير القانون الإسلامي على الاجتهاد الإنساني هو أصدق الأدلة على أن هذه النظرة هي النظرة الإسلامية الحقة في هذا الموضوع .

ثم ... إن الأبنية الحضارية التي تزهو به أمة الإسلام وإن قامت على الأسس التي شهدها عصر البعثة إلا أنها قد جاء تالية لجيل الرسول عليه الصلاة والسلام ... فعلوم الدين والدنيا التي مثلت جماع إبداع الإنسان المسلم متأثرا بالوحي ومسترشدا بمنهج النبوة قد تبلورت جميعها بعد عصر صدر الإسلام

وكذلك الحال مع الفتوحات الإسلامية التي نهض بها المسلمون .. ومع تحقيق وتجسيد عالمية الإسلام ودعوته بنشر الإسلام في مشارف الأرض ومغاربها كل ذلك خير وخيرية ارتباطا بتقدم وبتوالي قرون التاريخ ..

وأيضا ... أليس رسول الله صلي الله عليه وسلم هو القائل أيضا في معرض الحديث عن تلقي فكرة النبو : " رب مبلغ أوعي من سامع "؟ رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والترمذي والدارمي والإمام أحمد وهو حديث لا يحصر الخيرية في الصحابة والشهود ..

وأخيرا ... فمن الحركات الإسلامية ينكر أن حال الصحوة الإسلامية اليوم خير منه في عقد الخمسينيات من هذا القرن العشرين ؟.. وأن وضعها منذ ثلاثنيات هذا القرن هو خير منه يوم عموم بلوى الاحتواء الاستعماري وسيادة العلمانية والتغريب حتى لدي الأحزاب التي تقدمت لمقاومة الاستعمار في الحقبة التي شهدت زوال رمز الخلافة سنة 1924م ؟

إذن .. فالخيرية التي تحدث عنها الحديث النبوي هي خيرية الجيل المؤسس .. خيرية القواعد والأسس والسوابق الدستورية وفضلها لا ينكر حتى على الجديد الذي يرفعه الحلف فوق ما صنع الجيل المؤسس من قواعد وأركان..

كما أن خيرية الجديد بل وتعاظمها لا تناقض بينها وبين خيرية الأساس والمؤسسين ... وإلا فمن الذي ينكر علو مقام الخير فيما أنجز عمر بن عبد العزيز من العدل الاجتماعي وهو قد أنجزه بعد أن ساد الظلم والجور وعمت الأثرة علو مقام الخير في هذا الإنجاز على نظيره في عهد الراشد الثاني العادل عمر بن الخطاب والذي كان عدله استمرار لعدل النبي والصديق وفي مناخ مواتي يعين عليه الصحابة الأبرار ؟.

إن التعارض غير قائم ... وكل خير يقدر بقدره بصرف النظر عن الظرف التاريخي الذي أنجز فيه .. ومن ثم فإن جهدا فكريا يجب أن يبذل من قبل الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة لتصحيح هذا الخلل السائد وهو الخلل الذي جعلها ويجعلها تعيش في " الماضي " مديرة ظهرها في أحيان كثيرة " للعصر " وتحكم " الأموات " في " الأحياء " وتميل بالكفة لحساب " الموروث " على حساب " الإبداع "!

الخلل في علاقة " الحركة بالفكر "

الحركات الإسلامية المعاصرة هي في جملتها إنما تمثل فصائل الصورة المعاصرة لحركة وتيار ودعوة الأحياء واليقظة والتجديد التي عرفها الشرق الإسلامي منذ دعوة الإمام محمد عبد الوهاب (1115 – 1206هـ 1703 – 1792م) والتي خطت خطوات نوعية في (الوعي والتأثير والعموم والعقلانية) منذ تيار الجامعة الإسلامية الذي قاده الرائد جمال الدين الأفغاني (1254 -1314هـ 1838 -1987 م)...

ولذلك فلقد تراوحت وتفاوتت مواقف هذه الحركات من الفكر (المجدد) و" العقلانية – المجتهدة " فمال بعضها إلى نصوصية الوهابية وزادت لدي بعضها جرعة العقلانية على نحو مما كان عليه الأمر في تيار جمال الدين .. ولقد لعبت البيئة حضرا أو بادية والموروث المذهبي طبيعة التحديات بعملها في تحديد موقع الحركة من " النصوصية " ومن " العقلانية " إلى حد كبير.

لكننا نلحظ – ضمن مظاهر " الخلل " الذي تعاني منه أغلب هذه الحركات المعاصرة – تزايد جمود النصوصيين وتدني جرعة العقلانية لدي العقلانيين وخاصة في العقود الأخيرة من هذا القرن العشرين ... وفي اعتقادي أن عوامل عديدة تقف أمام ميل ظاهر " الفكر – العقلاني " إلى الذبول في هذه الحركات بوجه عام ..

فالعقلانية قد تألفت في حركة الإحياء الإسلام يوم أن كانت حركة " صفوة .. ونخبة " على عهد جمال الدين الأفغاني ... فلما استدعت ضرورات مواجهة التغريب والعلمانية والاستلاب الحضاري استنفار الجماهير والعامة لتنخرط في موكب الداعين إلى شمول الإسلام للدولة والواقع وسائر مناحي الحياة ؛

وذلك منذ مرحلة الشيخ حسن البنا (1324 – 1368هـ -1949) وجماعة الإخوان المسلمين هبطت هذه العقلانية في هذه الحركة للتناسب مع مستوى العامة والجماهير .. كذلك كان في اشتداد خطر التغريب والاستلاب الحضاري؛

وفي تبني الأحزاب القومية للنموذج الحضاري الغربي تعاظما للخطر على الهوية الإسلامية استدعي من هذه الحركات الإسلامية أن تقدم سبل وسائل الجمع والتأليف على أسباب الجدل والافتراق فكان " الحلول الوسط " و" الصياغات الفضفاضة " التي يتجنب أصحابها عادة التفكير العقلاني الذي يثير بجرأته الكثير من المشكلات !

كما كان لتزايد التفسخ الاجتماعي والأخلاقي والتشوه المعرفي والتي حدثت بفعل هيمنة النموذج الغربي على قطاعات واسعة من مصادر ومراكز التوجيه الفكري والثقافي والتعليمي والإعلامي ... كان لتزايد هذا التفسخ دور " الفعل " الذي جعل بعض هذه الحركات الإسلامية تنفر من كل ما له شبه أو صلة بالحضارة الغربية والتي تعلي من مقام العقل إلى حد المغالاة فلم تميز هذه الحركات بين " العقلانية الإسلامية " التي وعت " النقل" بـ " العقل " كما حكمت " العقل " بـ " النقل " في المواطن والعوالم التي لا تستقل بإدراكها العقول ...

لم تميز بين هذه " العقلانية الإسلامية " وبين عقلانية الغرب المتحررة من ضوابط " النقل " الديني منذ جاهليتها اليونانية وتى نهضتها الأوروبية في العصر الحديث ... فكان أن نفرت إلى حد كبير من العقل والعقلانية بإطلاق وتعميم !.

ولقد انعكس هذا الموقف من العقل والعقلانية والذي تراوح بين الإهمال أو النفور أو العداء أو التحجيم انعكس في صور كثيرة يهمنا أن نشير هنا إلى انعكاسها في صورة تقلص مساحة " الفكر " إذا ما قيس بـ " الحركة " والنشاط العملي ..

وصغر حجم الجهد المبذول في " الاجتهاد والتجديد " إذا مقيس بحجم الجهد المبذول في " الواعظ" ذات الأساليب الشعرية والخطابية وتواري مؤسسات الفكر وأعلامه من كثير من هذه الحركات لحساب " الدعاة " والحركتين " ...

بل وضيق الكثير من الأوعية التنظيمية للكثير من هذه الحركات بجرأة الفكر وريادات المفكرين المجددين حتى لقد رأينا في العقود الأخير أن كوكبة من المفكرية المجددين المجتهدين لم يستطيعوا أن تثبت أقدامهم في هذا الميدان فيثبتوا وجودهم فيه إلا بعد أن تخلصوا من " قيود " رقابة الأوعية التنظيمية لهذه الحركات ؟!.

ولقد زاد من وضوح هذا الخلل وضاعف من تأثيراته عجز الكثير من هذه الحركات حتى الآن عن إقامة العلائق والخيوط التي تصنع وتقنن للتمايز بين " مؤسسات الفكر وأعلامه " وبين " تنظيمات الحركة وجهودها " على النحو الذي يتيح لأهل " الفكر " المناخ المهئ لجرأة التجديد والإبداع كما يتيح لأهل " الحركة " إمكانات الاستفادة الكاملة من ثمرات هذا التجديد والإبداع .

نعم .. لقد وازنت بعض الحركات الإسلامية بين " الحركة " وبين " الفكر " فبرثت من هذا الخلل .. لكني أخشي أن يكون سبب نجاحها هذا هو تصادف أن زمام قيادتها قد كان بيد مفكر مبدع ومجدد أكثر من أن يكون السبب هو الاهتداء إلى القواعد المنظمة للعلاقة الصحية بين " الحركة وأهلها وبين " الفكر " وصناعة !.. لذلك أراه خللا قائما يستدعي بذل الجهد لعلاجه , ولاقتلاع الآثار القاتلة التي يفرخها بقاؤه في هذه الحركات .

الخلل في علاقة "التربية الروحية" "بالتربية السياسية "لأغلب" كوادر هذه الحركات

إما بدعوى تأجيل ذلك لحين الحاجة إليه يوم أن تكون الدولة والسلطة قاب قوسين أو أدني من قبضة هذه الحركات وإما بسبب فقر هذه الحركات في الفكر وقلة بضاعتها من صناعته وصناعة ..

وإما لانغلاق هذه الحركات عن الفكر السياسي ونظرياته وخبراته لدي العلمانية والعلمانيين وهو مزدهر وغني في هذا الميدان ... وإما لهذه الأسباب مجتمعة مع غيرها مما قد يكون أقل أهمية منها ..

لكن ثمرة هذا الخلل في علاقة " التربية الروحية " بـ " التربية السياسية " قد ظهرت للعيان فقعدت بكثير من " كوادر " هذه الحركات عن بلوغ مؤهلات وإمكانات البراعة في السياسة وميادينها .

وإذا كان طراز " الساسة " و" السياسة " المجردين من قيم الدين وضوابطه الأخلافية هو مما لا يرضاه الإسلام ولا يصح أن يوجد في الحركات الإسلامية ... فإن صورة التدين الذي يفقد صاحبه الكياسة والمهارة والحذق والدهاء هي الصورة غربية عن التدين المطلوب لكوادر الحركات الإسلامية ...

فالتدين الذي لا تصاحبه تربية سياسة وحذق لنظرياتها ومعرفة بتياراتها ودروبها وفنونها قد يثمر غفلة إن ناسبت بعض طيبي القلب فإنها لا تناسب الذين يتحملون مسئوليات مصائر الأمم في هذه الميادين ..

وقديما حبذت كل تيارات الفكر السنية إمامة وخلافة المفضول دينيا إذا كان أفضل في حذق شئون الدنيا وأبرع في الإمكانات التي تعينه على أداء رسالة الخلافة والإمامة وأقدر على مواجهة ما يفرضه عصره على أمته من تحديات ... إن رهبان الليل , في الحركات الإسلامية لابد وأن يكونوا بحق فرسان النهار وأن يكونوا الساسة المهرة أيضا !.

وإذا كان طراز السياسة الميكيافيلية كما عرفته وارتضته الحضارة الغربية طراز أن السياسة هي فن الممكن في الواقع بصرف النظر عن الصلاح الديني والأخلاقيات الدينية إذا كان هذا الطراز مرفوضا إسلاميا ..

فإن تعريف الإمام ابن قيم الجوزية (691 -751 هـ 1350 م) للسياسة الإسلامية باعتبارها:

" الأعمال التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد "... هو تعريف يتطلب في الساسة أن يجمعوا إلى فقه الواقع والدرية على فنون القيادة والخبرة بالتعامل مع التطورات والفرقاء الآخرين أن يجمعوا إلى ذلك بالتربية الروحية أخلاقيات الإسلام .

والذين يدرسون حركة الإحياء الإسلامي كما تمثلت في مدرسة " الجامعة الإسلامية " وجمعية " العروة الوثقي" يرون كيف تخلق أعلامها بخلق الإسلام حتى لقد استعانوا بلون من أساليب الصوفية وقدر من مجاهداتهم في تهذيب النفوس ..

والذي يتأملون الفكر السياسي في مقالات جريدة " العروة الوثقي " التي عبرت عن فكر هذا التيار يرون ذلك المستوى الراقي والعميق والحصيف في فهم السياسة والدراسة بمساكلها ومنعرجاتها ودروبها محلية كانت تلك السياسة أم دولية في تلك الحقبة التي تعقدت فيها شئون تلك السياسة بتزايد مطامع المد الاستعماري الغربي وتعدد أطرافه وتنامي التناقضات والمصادمات والمؤامرات بين هذه الأطراف .

إنه نموذج يستحق الدراسة من الحركات الإسلامية المعاصرة لتري وتحدد السبل الكافلة لصناعة رجل السياسة المسلم ذلك الذي لا يكون التدين لديه مساو أو مفضيا لطيبة الغفلة ... ولا تكون السياسة لديه ميكيافيلية مجردة من أخلاقيات الإسلام ... وحتى نتجاوز ذلك الانقسام البائس والشاذ الذي أشار إليه أبو العلاء المعرى عندما

قال :

الناس صنفان: ذو عقل بلا دين وآخر : دين لا عقل له؟!

الخلل في علاقة "الطاعة " بـ" الحرية "

إن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة قد بالغت في ترويض أعضائها على طاعة القيادات أكثر مما دربتهم على محاسبة ونقد وتقويم هذه القيادات ...وليس يكفي أن يقال إنها طاعة في غير معصية ذلك أن الخلل في علاقة " الطاعة " بـ " الحرية " على النحو الذي لا ينمي في الأعضاء ملكات النقد والفحص وشجاعة الاعتراض عند توفر دواعيه إن هذا النمط في تربية أعضاء هذه الحركات هو بالقطع معصية من معاصي التربية في هذه الحركات لأنها تثمر ؛

ولقد أثمرت وحدانية الرأي رأي المرشد والأمير والإمام بل وأثمرت العديد من ألوان التفكك والقصور والتشرذم التي أصابت العديد من هذه الحركات عندما غاب المرشد فغاب عنها الرشد لافتقارها إلى قيادات مدرية وحكيمة وحصيفة في صفوفها التي تقف وراء المرشد والأمير والإمام الصفوف الثانية والمتوسطة والقاعدية ...

إن هذا الخلل الذي أصاب ويصيب الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة هو آفة شرقية قديمة جعلت العامة تعلق كل الآمال وتضع كل الأحمال على عاتق " القطب " و" الوتد " الذي يصبح هو المفكر الأوحد والزعيم الملهم والقائد الوحيد ... وليس غير تراث الإسلام في الشوري وتراث المدرسة النبوية في تربية الرجال وصناعة القادة منبعا إسلاميا تستلهمه الحركات الإسلامية لعلاج هذا الخلل وللبرأ من هذا المرض الفتاك .

لقد كان المعصوم صلوات الله وسلامه عليه أكثر الناس مشاورة لأصحابه .. وأول الناس التزاما بالشوري.. بل إنه هو القائل لأبي بكر وعمر :" لو اجتمعتما في في مشور ما خالفتكما "! رواه الإمام أحمد ... وهو الذي سن لأمته الشوري في كل شئون الدولة وولايتها

الذي سن لأمته سنة الشوري في كل شئون الدولة وولايتها حتى إن كانت قيادتها بيد المعصوم وذلك عندما قال : " لو كنت مؤمرا أحدا دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد .." (عبد الله بن مسعود) رواه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد .

إن تراث الإسلام وتراث مدرسة النبوة في صناعة الرجال وتدريب القادة معين لا ينضب وهو الكافل بمعالجة هذا الخلل القاتل والمتفشي في الحركات الإسلامية المعاصرة.

أما أن تظل هذه الحركات تروض أعضاءها على " الطاعة " دون " الحرية " بدعوى أن بيعة هؤلاء الأعضاء للمرشد والأمير والإمام إنما تقتضي ذلك انطلاقا من حديث الرسول صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه :" من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصي أميري فقد عصاني " رواه مسلم أو من حديثه الذي يقول فيه : " من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فماته فميتته جاهلية " رواه مسلم .

أما أن تظل هذه الحركات تقتل في أعضائها ملكات الحرية والنقد والإبداع والقيادة استنادا إلى مثل هذه الأحاديث فإنه هو الآخر لو من الخلل في تنزيل النصوص في غير منازلها .. فالاستبدال بمثل هذه الأحاديث على طاعة أمراء الحركات الإسلامية أو أمراء الدول الإسلامية هو قسر للنصوص على أن تشهد فيما لم تنشأ للشهادة عليه وفيه ..

فأمراء الرسول صلي الله عليه وسلم الذين طلب منهم هذه الطاعة كانوا هم أمراء الجند وقادة الحرب والقتال وغير متصور عندما يحتدم القتال ويحمي وطيسه أن تخضع أوامر أمراء القتال للشورى والأخذ والرد وعد أصوات المطيعين والمعترضين ؟

هؤلاء هم الأمراء الذين ألحت الأحاديث على طاعتهم حتى وإن رأينا منهم كجنود ما نكره .. وتلك هي مواطن هذه الطاعة التي وجبت لهؤلاء الأمراء أما أمراء قادة الدول والتنظيمات فإن سنة الإسلام وسنة نبيه في الشوري وتربية القيادات هي المنبع والأسوى لمن شاء الورود والاقتداء !.

إن هذا الخلل الذي يغلب " الطاعة " على " الحرية " قد غدا في الحركات الإسلامية المعاصرة و السبل إلى فقرها الشديد في القيادات المشاركة لأمرائها ومرشديها والمؤهلة لملء الفراغ الناشئ عن غيبة هؤلاء الأمراء والمرشدين كما غدا السبيل الذي يدفع رافضيه والمتمردين عليه إلى الانشقاق على هذه الحركات ... الأمر الذي أشاع ظاهرة الانقسام والتشرذم في كثير من هذه الحركات .

تلك بعض من أهم مظاهر " الخلل " في الحركات الإسلامية المعاصرة أشرت إلى معالمها ونبهت على آثارها وفاء كما أسلفت لفريضة النصح والتناصح التي فرضها الله سبحانه وتعالي على المؤمنين فريضة (كفائية – اجتماعية) تبلغ في الأهمية والتأكيد المستوى الذي يعلو على فروض العين " العين – الفردية"..

ذلك أن تخلف " فرض العين " إنما يقع إثمه على ذات الفرددون سواء أما تخلف " الفرض – الكفائي – الاجتماعي " فإن إثمه واقع على الأمة جمعاء .. وهذه الفروض الكفائية إنما تتعين على أهل الاختصاص حتى تؤدي وتؤتي ما لها من ثمرات .

فإذا أسهمت هذه الصفحات في الوفاء بشئ من ذلك ,وإذا أسهمت في ترشيد مستقبل الحركات الإسلامية المعاصرة ورفعت من كفاءة أدائها , كان ذلك فضلا نحمد الله علي التوفيق فيه ...

لقد علمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ولما كان خلاص هذه الأمة من التحديدات التي تمسك بخناقها تخلفا موروثا كانت هذه التحديات أو استلابا حضاريا وافدا إن خلاصها ونهضتها معلقة آماله على رشاد الحركات الإسلامية المعاصرة وذلك حتى لا تصاب فصائلها بإحباط جديد

كما حدث لسابقين سبقوهم على ذات الطريق ..من هذا المنطلق .. ولهذه الغاية .. وبهذه الروح كانت الإشارات التي قدمتها إلى هذه المظاهر لمواطن الخلل في عدد من هذه الحركات الإسلامية المعاصرة والله أسأل أني نفع بهذا النصح ... إنه سميع مجيب

مشكلة المدلولات والقيادات

د. محمود أبو السعود

انضم لجماعة الإخوان المسلمين عام 1932 وزامله في ذلك السادة أحمد السكري وعبد الرحمن البنا شقيق مؤسسة الجماعة حسن البنا وكان أبو السعود أحد رؤساء " الجوالة الرابعة " وهي مجموعة من الجوالة الشباب

ولقد دعا البنا رحمه الله شخصيا محمود أبو السعود للانضمام للإخوان وكان البنا على صلة بوالد الأخير الشيخ محمد أبو السعود كما هو مذكور في مذكرات البنا " الدعوة والداعية " وقد آلت الجوالة الرابعة إلى الجماعة

وأصبحت فيما بعد جوالة الإخوان المسلمين منذ كان مكتب الإرشاد ومنذ أن كانت الهيئة التأسيسية ود. محمود أبو السعود عضوا بها كان البنا رحمه الله يستشير أبو السعود ويكلفه بالكثير من المهام كان في الجوالة والكتائب وفي تحرير المجلة والصحيفة

وكان سفيره في بعض الاتصالات السياسية وكان أجرأ الإخوان عليه ومن أطوعهم إلى أمره وبعد أن استشهد حسن البنا أرسل أبو السعود كتابا يبايع فيه حسن الهضيبي رحمه الله إذ كان الأول في باكستان يعمل مستشارا لبنك الدولة وللحكومة الباكستانية الناشئة لقد خص الهضيبي أبو السعود برعايته الدائمة واستشاره في جل أمره .

مدلول الحركة

يجد المتمعن في القانون الوجودي للحركة أية حركة لأي شئ – أنه لابد لها من واقع أو محرك .ولابد لكل حركة من سمت أو اتجاه ولا مناص من وجود مقاومة لهذه الحركة متى ابتدأت وبالتالي فإن سرعة حركة أية كتلة تتوقف على حجم هذه الكتلة وعلى مقدار القوة الدافعة لها وعلى مدي المقاومة التي تلاقيها .

يسري هذا القانون الوجودي على الحركات الحسية والحركات المعنوية بوجه عام وإن كان هناك بعض الاختلاف فلكل حركة إسلامية دافع أو حافز تنعدم الحركة بدونه ولابد لها من اتجاه بأخذ سمته من زاوية الدفاع له متأثرا بما يتعرض له من تيارات تغير من اتجاهه وما أن تبدأ الحركة حتى تتولد المقاومة من البيئة المحيطة بها وتتوقف سرعة تلك الحركة على قوتها الدافعة وقدراتها الذاتية وعلى المقاومة التي تتعرض لها .

ولئن خضعت الحركات الحسية خضوعا دقيقا لحساب العقل البشري بحيث يستطيع حساب كل عامل من العوامل المؤثرة في أية كتلة متحركة إلا أن هذا العقل ليعجز عن إدراك مصير الحركات المعنوية إدراكا قطعيا وذلك راجع بطبيعة الحال إلى أن الجمادات تخضع إلى قوانين تأتيه دون وعي منها ولا إرادة كما يتحكم الإنسان في العوامل المؤثرة في حركتها ويدخل على قانونها ما يشاء من المتغيرات التي تعتريها .

أما الإنسان فهو صاحب وعي وإرادة تصور عقلي وهذه الخصوصيات تمكنه من إيجاد البدائل في السلوك والتصرف ولذلك كان من المستحيل على الإنسان أن يتنبأ بما سيحدث منه أو يحدث له إذ غداته دع عنك ما قد يحدث لغيره من الأحزاب أو الجماعات في مساراتها أو تحركاتها .

من أجل ذلك كانت " النظرة المستقبلية " لأية حركة في مجتمع إنساني معين لا تغدو أن تكون ضربا من الحدس وكل ما يمكن أن يقال في هذا المجال هو بأول استقراء الأحداث والنظر في التاريخ بغية العثور على سبب يقاس عليه ومعرفة الاتجاه العام لحركة هذا المجتمع مع أخذ ما فيه من عناصر للمقاومة بعين الاعتبار , وتحليل الحركة إلى عناصرها الأولية لمحاولة التكهن مما سيكون عليه الاتجاه العام للحركة وما قد تنتهي إليه.

الحركات الإسلامية

المقصود بالحركة الإسلامية عموما وفي أى قطر كان هو أنها تجمع أفراد مسلمين في هيئة لها نظام خاص بها يؤمنون في أعماق قلوبهم بالإسلام وشعائره ونظمه وقوانينه ويعملون في حدود فهمهم وطاقاتهم على تطبيق تعاليم الإسلام في حياتهم اليومية

وبعبارة أخرى الحركة الإسلامية هي مسيرة لجماعة من المسلمين مثلهم الأعلي شرعة الإسلام وهو القوة الدافعة للحركة أو الحافز لها وسمتهم الغاية من هذا المثل :وهي تحقيق أكبر نمط من الأمن الروحي والمادي للبشر يستمدون نظمتهم الحياتية من مثلهم الأعلي أو شرعتهم ويحققون هذه النظم عن طريق " هياكل " ينشؤونها حسب حاجاتهم وتطوراتهم البيئية .

ولئن خال للباحث أنه ما دامت شرعة الإسلام هي ما نزل به القرآن الكريم وما أوحي إلى محمد عليه السلام من سنة فلا مجال لاختلاف تصور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على مدلول الشرعة ومضمون المثل الإسلامي الأعلي

على أن الواقع غير ذلك إذ يختلف الناس في العصر الحاضر كما اختلفوا في القدم على معاني القرآن الكريم ومدلولات الأحاديث الصحيحة اختلافا كبيرا بعضه نتيجة جهل فهو إلى الانحراف أقرب وبعضه نتيجة صعوبة تفسير الكتاب المعجز

وبعضه نتيجة الخلط بين ما هو مستديم بحكم طبيعته ومتجدد بحكم وصفه وهذا الاختلاف أمر طبيعي في البشر نظرا لتفاوت فهمهم واستعداداتهم الفطرية من أجل هذا نجد الحركات الإسلامية المعاصرة تضم أعدادا كبيرة من الجمعيات والفرق الدينية المختلفة في غاياتها ووسائلها

ويمكن إجمالها فيما يلي :

(أ) الجماعات الروحية

وهي التي اقتصر فهمها ونشاطها على الناحية الروحية في الإنسان فهي توليها كل همها مهملة أمور الدنيا وما فيها من قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية بل إن من بين هذه الفئة من يري الخير في البعد عن السياسة والحكم والحكام؛
ولا يكاد يخطر باله ما يتطلبه الإسلام من ضرورة إقامة حكم عادل ومن توفير وتأمين كرامة الإنسان ومن وجوب توفير ضرورات الحياة (أو ما يسمي فقها الحاجات الأصلية) لكل فرد . وهؤلاء هم الفرق الصوفية ومن إليهم.

والحق أن نسبة هذه الجماعات إلى " التصوف " الصحيح نسبة فيها افتئات على حقيقة التصوف في المفهوم الإسلامي إذ ما من مسلم حق إلا وفيه نزعة صوفية وإن أفرغ كل همه في الأعمال الدنيوية التي هي مطية الوصول إلى نعيم الدار الآخرة .

المتصوف الحق في دين الإسلام إنسان يتقي الله في كل قول وعمل إنسان جاد غير عاطل ولا يتواكل وليس بجاهل يكسب قوته بجده وكده ويستزيد من نعمة الله وزينته ويتصدق بما يفيض عن حاجته لأنه يؤمن أن المال مال الله وليس ماله وليس الزاهد من زهد فيما ليس لديه ولكن الزاهد هو من زهد فيما امتلك من نعم الله .

إن الفرق الصوفية في عالم اليوم على أحسن الفرو تتميز بأمرين الأول هو اهتمامها بعظمة النفس عن التطلع إلى متاع الدنيا و ترويضها على الزهادة فيها وذلك عن طريق التلقين والاستكثار من العبادة تحبيبا للنفس للآخرة ثم رياضة النفس على الإعراض عن الحلال والحرام مما يعتبر من زينة الدنيا سواء أكان ترفا أو " كماليا " أم لم يكن .

والمميز الثاني أن القوم ينأون بأنفسهم عن مجتمعاتهم لا يكادون يدرسون مشاكل الناس التي تشغل حياتهم اليومية إذ هم في تصورهم مأمورون بالاشتغال بالعبادة فإن أحسنوا أداها كفاهم الله تعالي مسئولية القيام على شئون الدنيا إذ الله قادر على كل شئ مدبر لكل حدث مهيمن على كل كائن مخلوق .

فهم لا يأخذون بالأسباب ناسين أن قوانين الله الوجودية مطردة في أن شئون الحياة لا تتغير تلقائيا بل لابد من حدث يحدثه الناس إذ أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم بل إنهم في حلقات ذكرهم لا يتذاكرون هذه القوانين ولا يجهدون أنفسهم في تعلمها وإخواننا هؤلاء ينظرون إلى الحياة الدنيا بمنظار متشائم قاتم ؛

فإن البلاء قد عمّ وساد الفساد في البر والبحر ولا يكادون يرون خيرا إلا ما لابسهم من عمل يقرونه أو يفعلونه لذلك غلب عليهم الفرار من هدف الحياة ومتطلباتها ومجتمعاتها وكأنهم لم يدركوا أن أهم ما يتميز به الإسلام هو أنه جعل " الحكم " واجبا لحراسة الدين وأنه إذا أهملت السياسة ووسدت الإمارة إلى غير أهلها فلن تتمكن

(ب) طائفة الشعائر

من الجماعات الإسلامية من يولي المظاهر العبادية غاية عنايته فتتركز جهودهم في حث الأفراد على مظاهر العبادة الشعرية من إسباغ وضوء إلى استعمال السواك إلى إرخاء اللحي وإسبال الثياب وتقصيرها... إلى غير ذلك من القضايا الجانبية وصغائر الأمور ومظاهر الشعائر .

وإنك لتسمع جدالهم المستعر حول ضرورة اعتبار صوت المرأة عورة أو ضرورة تناول الطعام بأصابع اليد اليمني أو عدم السماح للمرأة أن تقرأ القرآن وهي حائض أو غير ذلك من الأمور التي يجب ألا تكون محل جدل إذ الغالب فيها أنها علاقة بين الفرد وخالقه؛

وإنها جميعا أمور شكلية لا تنقص من إيمان المرء وحسن إسلامه وإنها كلها قضايا خلافية لا تستحق أن تكون موضوع جدل دع عنك أن تكون " برنامج جماعة " إسلامية تريد أن تنهض بالإسلام من كبوته في القرن العشرين هذه الفئة بكل أسف منتشرة بين جماهير المسلمين في بقاع الأرض كلها ؛

وقد تفشت فيها خرافات كثيرة موروثة من عهود التأخر في التاريخ الإسلامي ويسيطر عليها رجال " دين " أبعد ما يكونون عن العلم الصحيح الذي هو " معرفة الحق بدليله " على حد تعبير الإمام أبي حامد الغزالي وإنما ساعد على انتشارها وجود أعداد كبيرة من المسلمين غير المتعلمين ؛

ومن المؤلم حقا أن غالبية مسلمي الأرض في الوقت الحاضر من أجهل الشعوب وأفقرها ويلمس الإنسان حقيقة هذه الطائفة حين يزور عشرات الملايين من سكان شبه القارة الهندية ابتداء من باكستان إلى بنجلادش وسكان جنوب شرقي آسيا بما في ذلك بلاد الملايو وأندونيسيا وسكان الصين من أقصاها إلى أقصاها ؛

بل إن الدارس للجماعات الإسلامية في العالم العربي ومن أفريقيا ليجد نفس الجهل والفقر والعملية بين غالبية المسلمين ووجه الخطورة من هذه الجماعات التي يستغلها " العلماء " أسوأ استغلال أنها تضلل عقول الناس فلا يعلمون من حقيقة أمر دينهم إلا التافه والقليل

يحسبونه جماع هذا الدين ومنتهي غايته وأخطر من هذا أن يغيب عن أذهانهم أن الإسلام لا يقبل لمعتنقيه الذل والاستهانة ولا الظلم والضيم ولا الجهل والفقر وإذ غابت هذه المعاني الأساسية التي هي لب الدين عز على المصلحين أن يستثيروا في نفوس هؤلاء العامة حمية الانتفاض لتحقيق شرعة الله وإتباع منهاجه في الحياة وأن يجدوا منهم إستجابة لما يدعون إليه من العودة إلى دين الله .

(ج) الانهزاميون

ليس من النادر أن نجد في كثير من بلاد المسلمين بعض المثقفين وقد انتموا إلى هذه الفئة يجدون فيها ملتمسا للخروج من نطاق الحياة الصاخبة وما يقضيه الإسلام من جهاد وما يفرضه على معتنقيه من ضرورة محاربة الظلم في كل صورة؛

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنهم من يري أن حال مسلمي القرن العشرين مطابق لحال مسلمي مكة قبل الهجرة فيجنحون إلى ضرورة الاقتصار على دعوة الناس إلى التوحيد وعندهم أن كل جهد يبذل في سبيل تطوير النظام الإسلامي السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي بحيث يتلاءم مع مقتضيات العصر ويجيب على أسئلته الكثيرة المعقدة عندهم أن كل جهد يبذل في هذا السبيل جهد ضائع؛

إذ لا سبيل إلى إعادة دولة الإسلام في نظرهم في الوقت الحاضر إلى بعد أن يفهم الناس خاصتهم وعامتهم مضامين كلمة التوحيد وحينئذ يمكن التغلب على " جاهلية القرن العشرين " وحينئذ يثور الناس على النظم الغربية المادية ويقيمون دولة الإسلام الجديدة التي تبدأ في وضع القواعد الدستورية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية لهذه الدولة الواحدة .

واضح أن هذا منطق معكوس فإن قبلناه على علاته فكأنما قبلنا أن نقيم دولة غير إسلامية القصد منها أن تتحول فيما بعد إلى دولة إسلامية وأوضح من هذا وأمعن في الضعف هو أن أصحاب هذه المدرسة يتغافلون عن الواقع العملي إذ كيف ندعو الناس إلى الدولة الإسلامية دون أن نبين لهم ما هو دستورها وما قوانينها ونظمها الجمالية والسياسية والاجتماعية!!

إن هذه الفئة الانهزامية في تفكيرها فهي لا تريد أن تتصدي لمشكلات العصر بل هي أعجز عن أن تتصور نظاما إسلاميا مستورثا يقبل التعديل والتطور حسبما تقتضيه ظروف الحياة وما يستجد فيها من قضايا وهكذا تختفي تحت ستار جاهلية القرن العشرين تتبرأ من أخطاء الحضارات العربية المعاصرة

وتنعي على كل من أخذ بحظ من هذه الحضارة بل هي تقف موقف الناقد لكل من حاول الاستفادة من الأفكار والعلوم الغربية وكل من أراد أن يدعو إلى دولة إسلامية يحدد سماتها ومعالمها السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية إنهم ينقدون غيرهم أبدا وما أسهل النقد وما أشق البناء !!

ولكن ألا يكفيهم أنهم أشد الناس استمساك " بالتوحيد " وألا يكفي أنهم محافظون على شعائر الدين , وأنهم يكفّرون من لم يأخذ برأيهم ؟؟..

(د) الثائرون

والمقصود بهم أولئك الذين اتخذوا شعارا لهم قول رسول الله " من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فلغيره بلسانه فمن لم يستطع فلغيره بقلبه وذلك أضعف الإيمان" ولا أوسطه بل أعزّه وأشده وما في هذه الحياة التي نعيشها اليوم قد غلب عليه المنكر فوجب تغييره بالقوة .

وغالبية المنتمين إلى هذه الفئة من الذين يطلق عليهم جماعة " الجهاد " أو جماعة " التكفير " وهم عادة من المخلصين المتشددين قلما يتعمقون في فهم مقصود الدين لذلك فهم من أشد المحافظين على تأدية الشعائر

ولكنهم يمتازون باعتقادهم الجازم الجارف بأن أحكام المعاملات ونظام الحكم وسند القوانين يجب أن تستمد كلها من الشريعة السمحاء وأن أى تقصير في هذا هو خروج على الدين يوجب على صاحبه الكفر والعياذ بالله وهذا الكفر عندهم يبيح قتل النفس ويعتبر هذا جهادا في سبيل الله .

وبالرغم أن أكثرية المنتمين إلى هذه الفئة من المثقفين ثقافة طيبة إذا قورنوا بمن أسلفنا عن الفئات إلا أنهم أيضا عاجزون عن إخراج تصور حضاري إسلامي جديد يحدد للناس المعالم السياسية للدولة الإسلامية المنشودة ويرسم لهم الخطوط الرئيسية لنظامهم الاقتصادي الأمثل ويصف لهم قواعد الحياة الاجتماعية كما يتطلبها الإسلام ويرتضيها قانونه.

من أجل هذا نجد جماعات " الثائرين " يشتركون مع غيرهم من الجماعات في أنهم يؤمنون إيمانا عميقا غيبيا بالإسلام وتعاليمه ويجأرون بأنه لا إصلاح لحال المسلمين إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية.

كما يشتركون مع غيرهم في العجز عن تصور أركان وأوصاف هذه النظم الإسلامية التي ينشدونها وأقصي ما يذهبون إليه من قول وتصور الحق أن الله قال " ولكم في رسول الله أسوة حسنة " وأن علينا أن نقتفي أثر السنة و أن نقيم دولتنا على نمط الدولة الإسلامية في عهود الخلافة الراشدة .

(هـ) الواعون

وهناك الحركات الإسلامية التي وعت أن الإسلام حي وهو دين حياة وأن كل حيّ متطور نام وأن الجمود معناه انتقال الكائن الحي إلى اللحوق بغير الأحياء والمقرر في علم الحياة أن الحركة ليست دليل الحياة وإنما دليلها التكاثر والنماء والتطور .

وتشترك هذه الحركات الإسلامية الحية مع غيرها في إيمانها الخالص بضرورة إقامة المجتمع المسلم الكامل بجوانبه الجمالية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا يطغي منها جانب على آخر ولكنها تؤمن بأنه لا (معدي) عن اجتهاد جديد يخرج للناس أنما جديدة تتفق مع مقتضيات العصر الذي نعيش فيه .

تنشأ هذه الحركات الواعية عادة في محيط فئة من المثقفين ويستجيب لها الواعون من المسلمين وما أن تتفتح أكمام الحركة حتى " توصم " بالاشتغال بالسياسة وتتهم بأنها هيئات إما رجعية أو تخريبية تريد الفوضي أو قلب نظام الحكم أو محاربة العقائد الأخرى إلى غير ذلك من المزاعم الباطلة والتهم المزيفة .

والحق أن هذا النوع من الحركات بدأ ينتشر في غالبية بلاد المسلمين في أرجاء العالم كلها وإن لم يكن حتى الآن أكبر الهيئات والحركات والكثرة الغالبة فيه من الشباب المثقف وسنوقف معظم هذه الدراسة على دراسة هذه الفئة الواعية دراسة تستهدف استكمال ما بها من نقص وتقوية ما بها من ضعف إذ هي الفئة الوحيدة التي يرجي على يديها الخير للإسلام والمسلمين .

وواضح أنه بمقدار ما تنشط الحركات الواعية الحية بمقدار ما تختص الحركات الدارسة (أى التي عفي عليها الزمن) التي رضيت لنفسها الجمود والعيش في القبور وقنعت بالمظهر دون الجوهر وبعدت عن الاستزادة من العلم النافع

وإنه لما يبعث على الأمل أن نري هذه الحركات الحية قد قويت شوكتها وسبقت غيرها في بعض البلاد الإسلامية كالسودان وتونس فأثبتت أهليتها للنجاح وأصبحت أملا للمسلمين في بلادها ومثلا يحتذي في غير تلك البلاد .

لمحة تاريخية

أتي محمد صلي الله عليه وسلم بدين حضاري و فأسس دولة المدينة التي ما لبثت أن قويت شوكتها باعتناقها مبادئ الإسلام الحضارية فانتشرت في قرن من الزمان حتى عمت العالم المتمدن آنذاك وبالرغم من أن المسلمين قد تخلوا عن النظام الشوري السياسي بعد الخلافة الراشدة إلا أن تمسكهم بالإسلام في الجوانب الحياتية الأخرى مكنهم من إرساء دعائم حضارة إسلامية باسقة امتدت على الزمن حقبة لم تنعم بطولها وعمقها وفيئها حضارة أخرى ؛

إذ سادت الحضارة الإسلامية منذ القرن السابع الميلادي حتى القرن الرابع عشر حين بدأت مظاهر التحلل تفشو في المجتمعات وحين غلبت الموالي والأعاجم على السلطة مهملة أحكام الإسلام وقواعده الأساسية منصرفة عما يتطلبه النمو الحضاري من الاستزادة من العلم والمعرفة إلى الفتح والغلب للاستزادة من السلطة المادية والرفاهية الحسية ولذائذ الدنيا وشهواتها .

ثم مرت على المسلمين فترة طويلة منذ القرن الخامس عشر حتى أوائل القرن العشرين كانت لهم " خلافة " وشوكة عسكرية إلا أن هذه القوة " العثمانية " أو التركية أهملت أيضا الجانب الحضاري في الإسلام ومع أنها عزت نصف القارة الأوروبية واحتلتها ودانت لها البلاد العربية في الشرق الأوسط وفي الشمال الأفريقي وانتمت إليها القبائل والشعوب المسلمة في آسيا إلا أنها لم تخلف للإنسانية ما تضيف به إلى الرصيد الحضاري البشري ؛

فكان هذا النقص في الإمبراطورية العثمانية السبب المباشر في تخلف المسلمين في بقاع الأرض في كل مجالات الحياة وفي وقوعهم فريسة سهلة للاستعمار الغربي سواء أكان هذا الاستعمار عسكريا أم ثقافيا أم فكريا.

كان من أثر التدهور الحضاري للمسلمين طوال القرون الخمسة الأخيرة انتشار الجهل في الأمة الإسلامية جمعاء إذ لا نكاد نجد من المسلمين في تلك الفترة من نبه ذكره لاختراع أو كشف علمي ذي بال أو لفلسفة مستحدثة أو حتى لتفوق أدبي أو أثر فني تثري به الحضارة الإنسانية

وما زال هذا الجهل يخيّم على عامة المسلمين حتى وقتنا الراهن أما الأفراد القلائل الذين يمكنهم العيش في بلاد مسلمة إذ لا يجدون فيها من يقدرهم قدرهم إن سلموا من اضطهاد الحكام وظلمهم فتراهم ينزحون إلى الغرب حيث يحتل العلم والعلماء مكانة سامية .

هذا الجهل المورون هو الآفة الكبرى التي تعوق التطور السليم في العالم الإسلامي وقد أدي إلى نتائج سيئة بالغة الأثر:

أدي إلى هذا الجمود الفكري الذي يشل حركة الحياة والذي يقيد الفكر الجديد ويحصره ومن مظاهر هذا الجمود المميت تمسك " العلماء " الدينيين بالقديم وعدم اعترافهم بأى فكر مستحدث ومن المضحك المبكي أنك إذا سألتهم عن حكمة الشرع في معاملة مستقرة في المجتمعات الحديثة حاولوا صبها في قالب معاملة عفي عليها الزمن وانقضت لأكثر من ألف عام وذلك حتى يفتوك بالإباحة أو بالتحريم
فتمويل التجارة يجب أن يتم في صورة " المرابحة " والإبداعات المصرفية يجب أن تصوّر في شكل " الأمانة " أو " الوديعة " حسبما تصورها الأئمة الأربعة بل إن الشركات المعروفة في عرفهم يجب أن تكيف بناء على ما كانت عليه الشركات القديمة كشركة الوجوه وشرة الأعيان والمقايضة وما إلى ذلك .

لقد أصبح علو شأن " العالم " الديني مرهونا بجودة ذاكرته التي تحفظ ما كتبه الأئمة والفقهاء السابقون فهذا الأمر حرام أو مكروه أو مباح أو مندوب إليه أو حلال لأن فقيها من السابقين قال بذلك فإن كان الأمر مما لم يعرفه السابقون رضي الله عنهم فالسائل والمسئول في حيرة لا يخرج منها .

والمسئول من مشايخنا يعتذرون بأنهم لم يدرسوا الشئون الجارية لم يدرسوا معني السلطان أو التمثيل النسبي ولم يقرءوا عن مبدأ فصل السلطات في الجانب السياسي وهم لم يتعلموا في الجانب الاقتصادي ولا علم لهم بمشاكل التجمع الصناعي وما يقتضيه خروج المرأة للكسب من قضايا تتعلق بالحياة الزوجية وتربية الأطفال ونظم الأسرة في الجانب الاجتماعي؛

بل هم لم يسمعوا بما خلفته فلسفة دي كارت وكانت وهيوم وسائر بناة المدرسة الحرة التي انبنت عليها الفلسفة الحرة (الليبرالية) والتي تعيش الغالبية العظمي من الدول الإسلامية بمقتضادها فكيف بالله لمثل هذا " العالم " أن يفتي في أمور الناس المعاشية !!..

لم يعد لدينا ذلك العالم الذي يدرس خواص المادة أو علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) أو منابع الطاقة تكوين الكهارب والذرات أو مسار الأفلاك أو الرياضيات الطبيعية إلى غير ذلك من العلوم التي لا غني للناس عنها في الصر الذي نعيش فيه

والتي تفسر الظواهر الكونية موحية بفلسفة التوحيد وعز لدينا من يعدل بن سينا وابن رشد ونيوتن وسبنسر وهكسلي وألكسيس كارل وإيريك فروم وكافكا .. وغيرهم من الذين أدت بهم دراساتهم العميقة لقوانين الطبيعة إلى الخروج على الناس بفلسفات تسمو الإنسان إلى ما فوق المادة وتحمله إلى أبعاد علوية تقربه من الله زلفي ..

ومن مظاهر هذا الجهل وآثاره المدمرة انحصار الإسلام في نطاق الشعائر والطقوس وغياب معانيه الإنسانية والحضارية التي هي جوهرة فأصبحت الوسائل وهي الشعائر العبادية غايات في ذاتها حتى لم يعد يشغل بال المسلم ما تقتضيه عقيدته من عدالة في الحكم وشورى في الرأي وحرية في التعبير والعمل والحركة والتصرف في الأموال ومساواة أمام القانون وحقوق للأفراد قبل المجتمع وغير ذلك مما قرره الإسلام لمعتنقيه

بل إن غالبية المسلمين يجهل هذه المبادئ الإسلامية جهلا أدي إلى الإرتضاء بنقيضها من استبداد وظلم وهوان وإلى تقبل المذاهب المادية الغربية التي تنادي بالعلمانية والرأسمالية والاشتراكية والفاشية والديكتاتورية الحزبية والعسكرية وما إلى ذلك من مثاليات ومذاهب فلسفية متشعبة تتعارض مع شرعة الله ومنهاجه في الحياة فهي تدور حول اعتبار " الفرد " محو الكون واعتبار منفعته المادية غايته القصوى الموصلة إلى سعادته فلا محل " الله " باعتباره مالك كل شئ والحاكم في كل أمر والعالم بكل موجود وكل طبيعة وكل قانون .

أدي هذا الجهل إلى تحلل المجتمعات المسلمة وإذا بنا نري الأمة الإسلامية مفرقة واهنة إذ هي بين وصفين :

(أ‌) شق يعلن رسميا أن الإسلام دين ودولة
(ب‌) وشق علماني لا تقر فيه الدولة بدين .
(ت‌) جماعات من الأقليات تعيش في دول غالبية سكانها من غير المسلمين ولئن كان لكل قسم من هذه الأقسام ظروفه الخاصة التي تحدد طبيعة التحرك الإسلامي في موطنه وبالتالي تبين ما قد يؤول إليه الحال في مستقبله إلا أن بينها جميعا سمات مشتركة أهمها تلك الرغبة الصادقة المنبعثة عن إيمان عميق بوجوب العيش بمقتضي أحكام الإسلام وغموض أعين العقول في تبين هذه الأحكام وكيفية تطبيقها على واقع الحال وفي ظل النظم الحضارية المعاصرة .
(ث‌) من أجل ذلك تجد أنه بالرغم من أن دين الدولة الرسمي المعلن في دستورها هو الإسلام إلا أن حقيقة الأمر هي أن هذه الدول لا تأخذ بالإسلام إلا في أضيق الحدود كالأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية والأعياد الرسمية والشعائر والطقوس الدينية وتبقي فلسفتها العامة ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجمالية قائمة على نمط النظم الغربية سواء أكانت شرقية أم غربية .

أما الدول التي أعلقت علمانيتها كتركيا وأندونيسيا فهي لا تقيم للعقيدة الإسلامية وزنا دع عنك الأحكام المنبثقة من تلك العقيدة وهي لا تكاد تبقي على الشعائر الإسلامية إلا اضطرار ومراعاة لمشاعر الأغلبية الساحقة من رعاياها الذين يغلب عليه الجهل بحقيقة دينهم ولا يكادون يطالبون بحقوقهم التي فرضها الإسلام لهم وفي الحالتين : في الدول التي تقرر في دستورها أن الإسلام دين الدولة الرسمي ؛

وفي الدول التي تغفل الإسلام والديانات من دساتيرها نجد صراعا بين الحركات الإسلامية " الحية " الواعية وبين السلطات الحكومية من ناحية الواعية وبين السلطات الحكومية من ناحية ثم بين هذه الحركات وما عداها من تجمعات " إسلامية " قاصرة في إدراكها لحقيقة دينها .

بقيت التجمعات الإسلامية في البلاد غير المسلمة وهي تختلف اختلافا كبيرا من بلد لآخر حسب الظروف السياسية والاقتصادية السائدة في تلك البلاد ولكنها عموما تعاني ما تعانيه البلاد المسلمة من اختلاف في الحركات الإسلامية ففيها المتصوفة وطلاب الشعائر والانهزاميون والثائرون والواعون وهم باختلافهم وتفرقهم وجهلهم بدينهم من أضعف الأقليات في بلاد الغربة ومن أهونهم شأن بصرف النظر عن نسبة عددهم إلى عدد غيرهم من الأقليات .

إن مشكلتهم لا تختلف كثيرا من حيث الموضوع عن مشاكل الحركات الإسلامية في البلاد المسلمة .فلديهم إحساس قوى بضرورة التمسك بأحكام الإسلام وشعائره وهم في خوف دائم من أن يجرفهم تيار العقائد التي تعتنقها الأغلبية من السكان الذين يعيشون بينهم .

ثم إن لديهم شعورا بالاستعلاء على من عداهم من معتنقي الأديان والمذاهب الأخرى حتى إنهم ليربأون بأنفسهم عن الاختلاط بغيرهم ويرفضون مناظرتهم وليمتنعون عن التعاون معهم حتى على فعل الخير .

كذلك انعدمت لديهم القيادة الرشيدة القادرة على تقديم الحلول الإسلامية لمشكلات الحياة التي يعيشونها فهم دائموا النقد للمجتمعات غير المسلمة التي يعيشون ظهرانيها كثيروا الحديث عن نقائصها؛

ولكنهم لا يستطيعون تقديم بديل لها وهكذا يهربون من الواقع العملي ويقعون في تناقض يقض ضمائرهم: إنهم يذكرون دائما ماضيهم القديم وعزهم الغابر ويحسبون أن ذلك يرفع من شأنهم فيتمسكون بما يمكن أن يتمسكوا به من هذا القديم؛

وهذا لا يتعدي الشعائر والطقوس ثم هم مجبورون على أن يعيشوا عيشة غير المسلمين أصحاب البلاد التي هاجروا إليها ولا يكادون مكابرة أن يعترفوا بضعفهم وانهزامهم أمام الأفكار الغربية التي استطاعت أن تؤسس هذه الحضارة المادية القوية الشامخة .

وأخيرا يسود المسلمين إحساس بالضياع يرفضه العقل الواعي والظاهر لتنافيه مع مقتضي الإيمان بالدين كأحسن هدي يقضي إلى أحسن الحلول لمشاكل البشر جميعا وهذا التعارض بين الوعيين الباطن والظاهر من أهم أسباب الاضطراب في حياة المسلمين جميعا .

مشكلة القيادات

كلمة أخيرة عن الحركات الإسلامية الواعية: ذلك أن هذه الحركات سرعان ما تنجح حين يقيض الله لها قيادة حكيمة متفهمة لمتطلبات العصر مؤمنة بأن الدين الإسلامي لا يضيق بغيره من الأولين انه حي تمتد الحياة به إلا بالنماء والتطور المتسامي .

أما حين يرزأ الناس بقادة يتصورون الحركة الإسلامية حشد لقوي الشباب وتطويعا لعقولهم لتخضع لفكرهم المحدود القاصر وحين نفسر " البيعة " للقائد على أنها "سمع وطاعة " بإطلاق وحين يسود شعور تقديس الزعماء أحياء وأمواتا وحين تقف القيادة من أهل الفكر المتحرر موقف العداء والاستنكار حينئذ لن يكتب لهذه الحركة نجاح بل هي تحفر قبرها بيدها إذ يكون ضررها أكبر من نفعها ويعظهم مصاب الناس فيها.

والمشاهد في الحركات الإسلامية أن نجاحها يتوقف إلى حد بعيد على شخصية قادتها وهذا أمر معروف لمن له إلمام بعلم الاجتماع مبادئه المتعلقة بالشعوب التي يغلب على أفرادها الجهل وليس المقصود بالجهل هنا مجرد عدم القراءة والكتابة ولكن المقصود به هو الجهل بمضامين الحركة التي تتصدي لها القيادة؛

فإذا لم يكن للأفراد من الثقافة ما يمكنهم من فهم أغراض الحركة ووسائلها فإنهم يتبعون القيادة حسبما سارت وأينما توجها وسرعان ما يختلط " موضوع " الدعوة بشخصية القائد وسرعان ما يفتتن القائد بما يفيض عليه من الولاء الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى حد القداسة

وسرعان ما ينصرف عن تعليم الأتباع ما يجب أن يعرفوه من شئون الحركة ومناهجها ووسائلها وحينئذ تتخذ الحركة صورة من صور " العقيدة" التي تستكن في العقل الباطن " تتحرك " بدافع من الشعور يجاوز الفكر المنطقي؛

ويغفل عن الأسباب والعواقب وحين تصل الحركة إلى هذا الطور تكون قد وصلت إلى أخطر مرحة في حياتها العامة هي مرحلة المغامرة أو المقامر فإما تقوم بعمل يرفعها درجات أو ينزل بها إلى سفلي الدرجات ومهما كان الأمر فلن يمكن أن تحقق مثل هذه الدعوة نجاحا ذا بال أو أن تعمر طويلا إذا افتقدت قائدها أو تخلي عنها من يقوم عليها .

إن أهم ضمان للحركات الإصلاحية أن تقوم علي مبدأ معنوى يرتضيه الناس كمثل أعلي يستقر في أعماق قلوبهم استقرار العقيدة وفي حالتنا هذه يكون هذا المبدأ هو الإسلام ولن يكفي هذا الشعور الكامن في إنجاح الحركة الإسلامية؛

بل لابد من ترجمة مبادئ الدعوة إلى حقائق مادية تعالج شئون الناس اليومية وتحل مشاكلهم ترجمة منطقية يقبلها العقل عن طريق الاستقراء والاستنباط: استقراء واقع الحال المطرد واستنباط النتائج المترتبة عليه.

إن المسلم المؤمن في الحركة الواعية يعتقد أن حياته موقوفة على تحقيق إسلامه ودليل إيمانه استعداده الكامل بتضحية أغلي وأعز ما يملك من نفس ومال للوصول إلى غايته ثم هو في نفس الوقت من الوعي بحيث يكمل إيمانه بعضده ويسنده بتصور عملي واقعي لما يريد أن يحققه .

كلما ازداد إيمان الفرد كلما أصبحت العقيدة التي يؤمن بها هي الغاية التي يحيا الفرد من أجلها وهي التي تحفزه إلى كل عمل وقول وجهد وجهاد فليس الإيمان وحده سوى الشعور الباطني المستقر في ضمير الإنسان

فإن لم يترجم إلى عمل من خلال العقل الذي يدير العمل وينظمه فإن الإيمان يبقي مجرد شعور مبهم يكاد يستحيل التعبير عنه ويظل حبيسا في حنايا الصدر لا متنفس له عاجزا لا قدرة له على النماء والبقاء ومن هنا قيل " الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل "

نظرة مستقبلية

ليس للباحث المنصف إلا أن يتفاءل خيرا بالنسبة للحركات الإسلامية في مستقبلها أما الشواهد على هذا فهو ما يلي :

(1) تتجه الشعوب الإسلامية في أقطار الأرض جميعا نحو الإسلام مؤمنة بأن فيه صلاحها ونجاتها مما ترزح تحته من جهل وفقر ومرض وفوضي في المجتمع وظلم في الحكم .
الإسلام هنا قوة " محركة" ولكن اتجاه الحركة لم يتضح بعد إلا في أحوال قليل جدا ثم إن كل الحركات الإسلامية تجد " مقاومة" تتفاوت في شدتها من المحتمل إلى الاضطهاد المستعر المدمر يقاومها غير المسلمين من النصارى واليهود والهندوكيين البوذيين والصائبين والملحدين ... إلخ.
ويقاومها مسلمون يخافون حكم الإسلام ويؤثرون الدنيا على الآخرة ويضحكون بكل القيم المعنوية في سبيل استمتاعهم بالسلطان والمال والجاه والعريض ولذائذ الشهوات الحسية .
على أنه بالرغم من هذه المقاومات فإن الحركات الإسلامية في ازدياد وتكاثر وقد آمنت أن المثل العليا الغربية وما يستمد منها من نظم حياتية سياسية واجتماعية واقتصادية لن تصل بها إلى ما تنشده من أمن ورخاء إذ قد جربت الشعوب مختلف نظم الحكم من ديمقراطية إلى الاشتراكية إلى ديكتاتورية فما أفاءت عليها إلا الشقاء .
(2) لا شبهة في أن بعض الحركات الإسلامية الواعية قد انتكست في السنين القليلة الماضية نتيجة الظروف السياسية القاسية التي تضطهدها وتحاربها ونتيجة عدم استطاعتها اختيار قادة صالحين لها ثم لعجزها عن إيجاد الحلول لمشاكل شعوبها ولكنه من الحق أيضا أن حركات أخرى واعية استطاعت أن تثبت وجودها وتشق طريقها وأن تثبت للناس سلامة فكرتها .
وعندنا أنه ما إن تتحسن الظروف السياسية في بعض البلاد الإسلامية الكبيرة كمصر وسورية والملايو وأندونيسيا حتى تنبع الحركات الإسلامية فيها وتؤتي ثمارها ولا شك في أن تجارب الحركة الإسلامية السودانية وما تمر فيه من أحداث وما تحققه من تطوير سيكون ذا فائدة محققة للحركات الإسلامية الأخرى في مستقبل جهادها؛
كما أن ما تمر به الحركة الإسلامية في تونس وما توصلت إليه من رؤي واضحة لما يمكن أن تكون عليه الدولة الإسلامية في العصر الحاضر وما يقتضيه الأمر من تطور حكيم هذه التجارب السودانية والأفكار التونسية ستكون ذخرا للحركات الإسلامية في البلاد الأخرى وقدوة يقتدي بها .
(3) لا معدي من عدول الحركات الإسلامية خصوصا الواعية منها والثائرة من أن تعيد النظر في وسائلها التي تستخدمها حاليا للوصول إلى أهدافها ولابد لها أن تصطدم بفكر الشباب المثقفين والناضجين من المسلمين المخلصين فتقف لتتدبر مليا ما رسمته من مسيرة لحركاتها؛
لابد لها أن تحدد الأهداف القريبة وتعرف الأهم لتقدمه على المهم ولابد لها من تفصيل المجمل وتوضيح الغامض فليس من المعقول أو المقبول أن يظل القوم ينادون بوجوب إيجاد الدولة الإسلامية ثم لا يعلنون على الملأ القواعد الأساسية لهذه النظم وكيف ستكون هياكلها ووسائل تطبيقها و كيف أنها تفضل الوضع الحاضر وكيف ستحقق للناس ما يرتجون من أكبر قسط من الحرية والكرامة والأمان والرفاهية .
إن الحركات الإسلامية ستظل قائمة ما جاش الإسلام في قلوب الناس وقد تتغير أسماءها ويتجدد رجالها ولكنها ستظل موجودة أبدا وستدب فيها الحياة بالسرعة والقوة التي يمكن لها أن تتطور لتبني عن علم ولتعمل عن فهم؛
ولا أحسب ما ينزل بهذه الحركات من نوائب وفتن إلا مثبتا للعاملين المؤمنين (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظي ) صدق الله العظيم .

حول نظرية التغيير

  • انخرط في العمل السياسي منذ أوائل الخسمينات وقد بدأ نشاطه على أرض التغريب الماركسي وانتقل بعد ذلك في صفوف حركة فتح .
  • نشر منذ 1970 أكثر من ثمانية عشر كتابا وعشرات المقالات والدراسات بعضها ركز على القضية الفلسطينية والصراعات التي عرفتها تجربة الثورة الفلسطينية وركز بعضها على الشئون الماركسية من الناحية النظرية وأخرى على الشئون العربية .
  • "وردود على أطروحات علمانية" " وقضايا التنمية والصراع الحضاري " " الفكر الإسلامي المعاصر "

حول نظرية التغيير

ثمة عدد من الإشكاليات أو المسائل يطرحها الواقع الراهن على الحركة الإسلامية وهي بحاجة إلى جهد العلماء والمفكرين والقادة الإسلاميين في البحث عن أجوبة أو حلول لها؛

ولا شك في أن هناك من قطع شوطا بعيدا في هذا المجال ولكن لم يزل في عالم السر أو العمل المحدود في منطقة محددة أى لم يخرج إلى العلن خروجا بينا ولم ينتشر في أصقاع واسعة بعد .

إشكال نظرية التغيير

لعل أولي الإشكاليات والمسائل تتمثل في مشكلة نظرية التغيير المناسبة في بلد محدود وفي ظرف معين ويمكن أن تطرح هذه المسألة على الصورة التالية تقوم جماعة على أساس الإسلام ومن أجل تحقيق أهداف الإسلام

أو قل تتبني هدف جعل كلمة الله هي العليا في حياة الأمة بل على مستوى العالم ثم تجد نفسها في مواجهة ظروف محددة لها علاقة بالمكان والزمان قد أحاطت بها أى تجد نفسها في بلد محدد من بلاد المسلمين أصبح بسبب التجزئة الاستعمارية ؛

دولة قائمة بذاتها ذات حدود عالية الأسوار بينها وبين جيرانها من الدول الإسلامية ومن ثم تجد نفسها أمام إشكالية المواجهة مع تلك الدول ما دامت تتبني نظاما لا يقوم على الإسلام ولا يحمل أهداف الإسلام بل ما دامت في الأغلب رازحة تحت عبودية متعددة الألوان للأجانب ؛

وربما غارقة في توجهات تغريبية علمانية تحارب الإسلام مباشرة أوب صورة غير مباشرة إن هذه الإشكالية ستحتم على تلك الجماعة أن تفكر بتغيير هذا الوضع بالذات لأنه الوضع الذي يواجهها مباشرة ويمثل أمامها من كل جانب وهو المكان الذي يمكنها أن تعمل فيه بدرجة عالية من الفعالية .

ولا يغير في هذه النتيجة لو أن تلك الجماعة حاولت أن تطرح نفسها على مستوى الأمة ونجحت في تكوين فروع لها أو جماعات موازية في بلدان إسلامية أخرى أو أنها نظمت باعتبارها فرعا لجماعة تطرح نفسها على مستوى الأمة؛

لأن النتيجة ستظل إياها تقريبا فكل جماعة ستواجه الإشكالية نفسها في بلدها ومن ثم سيغرق الجميع في هموم العمل الداخلي ولكن إذا افترض أن تكون تلك الجماعة طرحت نظرية على مستوى الأمة تعتبر أن التغيير يجب أن يبدأ في بلد محدد قبل البلدان الأخرى ؛

ثم افترض من البلدان الأخرى أن تخضع عملها من أجل خدمة ذلك الهدف أولا فإن هذه النظرية ستظل في مواجهة الإشكالية الأولي بالنسبة إلى البلد الذي اختير ليكون موضع التركيز كما ستظل قائمة بالنسبة إلى البلدان التي أجلت الإجابة فيها بسبب ذلك التركيز لأنها ستعود ملحة بعد النجاح في تحقيق الهدف في ذلك البلد أو ستعود ملحة إذا غابت احتمالات النجاح أو تمادي الفشل في ذلك البلد .

المهم أن الإشكالية التي تفرض نفسها دائمة هي مسألة الإجابة عن السؤال كيف نحقق الهدف في البلد المعني أى كيف يمكن أن يغير الوضع فيه باتجاه إسلامي حقيقي .

في الواقع لا تستطيع أية جماعة أن تتجاهل الإجابة عن هذا السؤال بل لابد لها من أن تجيب عنه مع أولي خطواتها لأنها ما إن تشرح سوء الأوضاع وضرورة الحل الإسلامي ستعطي إجابات عن كيفية العمل للتغيير

ولهذا تري البعض يبدأ بالقول أن المجتمع لا يصلح إلا إذا صلح الفرد فإذا بنينا الفرد المسلم سيقع التغيير لا محالة لأن أية عملية حسابية بسيطة توصل إلى الموضوعية القائلة أن اقتناع أفراد المجتمع أو أغلبيتهم بالخط الذي تطرحه الجماعة سوف يحدد التغيير لا محالة ؛

وأن هذه من النظريات الشائعة في الفكر التغييري عموما وإن اختلفت مدرسة عن أخرى أو جماعة عن أخري بنوع البناء الإسلامي الذي سيبني عليه الفرد المسلم المنشود فكان هناك من طالب بالتربية الشاملة أى تربيته من كل النواحي الأساسية وتعزيزه بالإيمان والعبادات والقربات وبناء الجسد صحيحا قويا؛

بناء العقل السليم وتسليحه بالوعي في الفقه والسياسة والفكر وهناك من ركز على موضوع الثقافية من حيث تصحيح المفاهيم والأفكار المتعلقة بفهم الإسلام ولا سيما العقيدة ؛

والبعض ركز على الثقافة من حيث ضرورة الانفتاح على العصر والعقل الحضاري الثقافي وهناك من ركز على الفكر لا سيما الفكر المنطقي والسياسي وهناك من ركز على البدء بفهم سليم للعقيدة وإعادة بناءها في المسلم على أساس ذلك البعض اعتمد على تزويده بتفسير صحيح للقرآن واقتداء حازم بالسنة ؛

ولكن مجموع هذه التوجهات تغطي جوانب نقص لا بد من تغطيتها ولكنها لا تجيب بحد ذاتها عن السؤال كيف يتم التغيير بالنسبة إلى نظام بعينه ؟ أى هل سيظل العمل ينتشر وينتشر حتى يحاصر النظام أو يجوفه فيسقط كورقة الخريف أو بهزة واحدة أو يأتي مسلما عاجزا عن المقاومة أن إشكالية هذه النظرية تنشأ من كونها تتعامل مع المجتمع كميا باعتباره مجموعة أفراد ؛

ولا تتعامل معه باعتباره مؤسسات وكيانات ذات حركة تختلف أو تتمايز عن حركة الأفراد فهي لا تري إشكالية الدولة الحديثة والوضع العالمي المتمثل بوجود مراكز إمبرالية مسيطرة عالميا .

لعل تجارب السبعين عاما الماضية في الأقل لم تقدم مثلا واقعيا يثبت صحة هذا التصور . فما من نظام سقط كورقة الخريف أو بهزة واحدة أو سلم عاجزا مستكينا بل أثبتت التجربة أن تلك النظرية يمكن أن تعمل بعض الوقت عملا منتظما وتحقق تقدما عند جزء من أفراد المجتمع , ولكن سرعان ما يتحرك النظام ليوقف ذلك ويوجه له الضربات ؛

وقد تكون تلك الضربات على شكل هجوم قمعي لتمزيق ما بني تحت أعذار مختلفة تماما أو قد يكون ثمة أساس ما لتلك الأعذار مثل اكتشاف خلايا عسكرية وتنظيم سري مسلح وقد تكون على شكل ضربات مع عمليات إغراء وترويض وتشتيت وتمزيق للصفوف

أو قد تكون على شكل الحملات الإعلامية المظالمة وإشاعة الأفكار الفاسدة بين الشباب وغير ذلك ثم قد تأتي نتيجة تطورات هامة في الوضع تشد إليها انتباه الجماهير فتوجه خلال هذا الشكل أو ذاك سلسلة من الضربات كما حدث في مصر في المنتصف الثاني من الخمسينات المهم أن المسار الذي خطط له لابد من أن ينقطع ويعود السؤال كيف يغير الوضع ما دام لا يتركك تقضمه فردا فردا أو موقعا موقعا ؟.

فأعداء التغيير أصبحوا أكثر دراية وأشد حذرا ولم يعودوا يواجهون منفردين في بلدهم وإنما أصبحوا جزءا من المواجهة العالمية أى أنهم يواجهون التغيير ضمن دعم خارجي واسع وهو دعم على مستوى إقليمي وعلى مستوي دولي وهذا ما يجعل القدرة على التغيير ضمن نظرية الفضم فردا فردا أو موقعا موقعا تحتاج إلى وقفة

وتأمل وربما إلى إعادة حسابات ولكنها تظل نظرية صحيحة للعمل في حالة غياب نظرية عمل أخرى تثبت على أرض الواقع أنها جديرة بإحداث التغيير أى إذا كان تقدير الموقف يقول أن الظروف غير مواتية لإحداث التغيير ولمدي غير منظور ومن ثم لم تتوفر رؤية تستطيع اشتقاق طريق آخر للتغيير في مستقبل قريب .

فعندئذ تصبح نظرية العمل على مستوي الفرد تربية أو توعية أو تثقيفا مع تجنب أسباب الصدام مع النظام هي نظرية الممكن والمتاح من العمل ولكن دون أوهام بأنها ستؤدي إلى التغيير؛

وبهذا تكون حدودها مرسومة ضمن حدود الوعي أى تحدد وظيفتها بأن تبقي الراية الإسلامية مرفوعة ولو في حدود معينة وتنثر بذورا تحت سطح الأرض عساها تقف على سوقها مستقبلا حين تجد نظرية العمل التي تناسب الظروف من أجل جعل التغير الجذري مشروعا على أجندة العمل ومن ثم تكون تلك حدودها ويصبح من الضروري عدم معا ملتها باعتبارها نظرية التغيير .

الخلاف حول نظرية التغيير

يشكل الاجتهاد حول نظرية التغيير أى الكيفية التي يمكن أن ينتصر فها الإسلام على أعدائه المسيطرين في هذا البلد أو ذاك أو على نطاق إسلامي عام وعالمي مصدرا أساسيا من مصادر الخلافية بين الحركات الساعية إلى التغيير فنظرية التغيير تحدد أسلوب الجهاد والكفاح أو على حد التعبير الحديث تحدد " الاستراتيجية والتكتيك "

ويتضمن هذا تحديد الأولويات في الأهداف التي يراد تحقيقها ثم الكيفية التي تحقق بها الأهداف أى الاستراتيجية للوصول إلى تحقيق الهدف المحدد ذي الأولوية ولكن هذه أى الإستراتيجية تمر بدورها عبر التكتيك أى عبر عشرات المعارك الجزئية والشعارات اليومية والإنجازات الصغيرة .

فعلي سبيل المثال أن المشترك بين نظريات العمل التغييري هو تشكيل نواة أولي تحركها القيادة على ضوء نظرية عمل محددة ولهذا فهذه النقطة لا تحتمل خلافية من حيث الشكل على الأقل أو من حيث المبدأ أى مبدأ تكوين نواة عاملة (البعض يسميها طليعة)

ولكن ثمة سمات كثيرة تختلف في بناء هذه النواة عن تلك لأن السمات هنا تتبع نظرية العمل وأسلوبه أو الاستراتيجية والتكتيك فالنواة التي تبني على أساس نظرية خوض الجهاد في سبيل الله على شكل كفاح مسلح تختلف عن النواة التي تبني على أساس نظرية خوض الجهاد في سبيل الله على شكل عمل سياسي لا عنفي أو عمل يقتصر على التبليغ والدعوة مع تجنب مصادمة السلطة القائمة

وهذا الاختلال لا ينشأ من خلافية حول العقيدة أو أركان الإسلام وتعاليمه الأساسية وإنما ينشأ من نقاط التركيب على هذه الجوانب دون تلك في بناء النواة فهنا على سبيل المثال تركيز على قيم الشجاعة والصبر في القتال والتضحية والمال والأهل والمصالح الخاصة وهناك تركيز على حسن الجدال وقوة الخطابة والدماثة وبناء العلاقات مع الأفراد والجماعات من أجل جذبها للدعوة .

ولهذا إن الاختلاف في نظرية العمل من أجل إحداث التغيير يولد اختلافا في بناء النواة كما يولد اختلافا في أسلوب عملها وتوجهها وإن كان البناء في كل الحالات يظل ضمن ما يحتمله الإسلام من إشكال البناء لأن الاختلاف يقع في مستوى التركيز (أو التشدد والترخيص) بالنسبة إلى هذا الجانب أو ذاك بما يخدم أغراض العمل في سبيل الله .

ولعل من الضروري ضرب بعض الأمثلة على المقصود بعبارة " نظرية العمل " وعبارتي " الاستراتيجية والتكتيك " فنظرية العمل عند المجاهدين الذين لجأوا إلى الجبال أو المناطق المحررة

كما حدث مع عبد القادر الجزائري وعمر وعبد الكريم الخطابي اعتمدت نظرية الجهاد في سبيل الله عن طريق الكفاح المسلح ونجم عن ذلك إستراتيجية " حرب الشعب " وتكتيكها ضد قوات أجنبية غازية وهذه الحرب أخذت شكل حرب عصابات تنقل إلى تحرير مناطق واسعة

ثم جيشت الجيوش لخوض معارك حاسمة ضد الغزو الأجنبي هذا نمط من نظرية العمل نشأ عنه طراز من الاستراتيجية وتكتيك محددين (طبعا ثمة تمايزات بين كل حالة من هذه الحالات وفقا لظرف الزمان والمكان والعدو) وهذا ما يمكن أن ينطبق على نظرية العمل في أفغانستان حيث يتخذ شكل تحرير المناطق النائية من مراكز قوة العدو ثم السيطرة عليها والانطلاق منها لتوسيع رقعتها حتى السيطرة على طرق رئيسية واحتلال بعض المدن .

أما نظرية العمل التي اتبعها السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في مرحلة العروة الو ثقي فقد أخذت شكل التوعية السياسية والتنبيه إلى مخاطر غزو بلاد المسلمين من قبل الاستعمار وشدت على التخلص من النواقص الداخلية التي تشكل ثغرات ينفذ منها ذلك الغزو ؛

ولهذا كانت هذه النظرية تعتمد إستراتيجية الجامعة الإسلامية بزعامة دولة الخلافة العثمانية وقد ربطت الصراع المحلي ضد الأجنبي بالوحدة السياسية العامة وركزت تركيزا خاصا على هذه الوحدة . أى نحن أمام نظرية عمل هنا تعتمد على حث الحكام على الاتحاد والتنبه إلى الأعداء وتحريض الشعوب على النهضة والمقاومة حيثما احتل العدو أرضا للمسلمين .

أما نظرية العمل التي اتبعت بعد زوال دولة الخلافة العثمانية وبعد أن تمكنت جيوش الاستعمار الصليبية من احتلال بلاد المسلمين ومزقتها إلى دويلات وفق مخطط "سايكس – بيكو" ؛

وقد تشكلت بعد الحرب العالمية الأولي ونتيجة لها معادلة دولية بين الدول الكبرى كرستها سلسلة مؤتمرات دولية لتثبيت تجزئة سان ريمو ومؤتمر باريس على سبيل المثال ففي هذه الظروف كانت نظرية العمل الأساسية هي التي أرسي قواعدها الإمام الشهيد حسن البنا رحمه اله تعالي ورضي عنه حيث كان لابد من العمل في ظل الهزيمة ؛

بل في ظل قوات الاحتلال والنظام العميل وقد اعتمدت النظرية التربوية التي كانت تحضيرا لمرحلة أخرى ينتقل فيها العمل إلى الجهاد وأصابت هذه النظرية نجاحا كبيرا في مرحلتها الأولي وكادت تجوف السلطة من الداخل وانتقلت إلى مستوى العمل الجماهيري العام ثم الجهاد على أرض فلسطين 1948م ولكن السلطات العميلة وبدعم مباشر وتخطيط مباشر من السفارات الاستعمارية عاجلتها بالضربة ؛

وقطعت عليها وتيرة ذلك التقدم المتواصل والمتصاعد ولم تكن الحركة قد وضعت في حسابها أن تصادم السلطة في ذلك الحي ولم تحدد كيفية إدارة ذلك الصدام وربما لم تكن الشروط للصدام متوفرة وبهذا حدثت نكسة مؤقتة فكان لابد من الانتقال إلى مرحلة أخري تتطلب نظرية عمل مناسبة في ظروفها ؛

ولكنها عادت إلى المد من جديد مع فتح النيران على قوات الاحتلال الانكليزي في القناة وجاء انقلاب 23 يوليو ليغير ظروف مصر تغييرا نوعيا مما أصبح يتطلب نظرية عمل مناسبة أى أصبح من الضروري أن تحدد كيفية التعامل مع سلطة 23 يوليو وقد اختير أسلوب التعاون والدعم على أمل أن تكون للقيادة الجديدة أو بعضها توجهات إسلامية في الأقل هذا إن لم تلتزم بخط الإخوان أصلا ولكنها قطعت الطريق مع حادث المنشية 1954.

ودخلت في حرب قاسية ضد الإخوان وراحت توجه إليهم الضربات وهكذا تؤكد هذه الأحداث الموضوعية التي تتعلق بضرورة تحديد نظرية العمل في بلد محدد وظرف محدد .

إن هذه الأمثلة لتعطي صورة على المقصود بعبارة " نظرية العمل " وما نشأ عنها من أساليب كفاح وشعارات ومنطلقات ومعارك وصراعات أو من " استراتيجية وتكتيك " فإذا ما روعيت الثوابت الإسلامية الأساسية المتعلقة بالعقيدة وأركان الإسلام وتعاليمه في العبادات والأخلاق والمعاملات والحلال والحرام ؛

فإن نظرية العمل التي تحدد أسلوب التغيير تشكل متغيرا لا ثابتا ومن ثم لابد من أن تشكل خلافية في الاجتهاد بين العاملين الإسلاميين لأن من غير الممكن ألا تقع خلافية في تقدير الموقف في زمان ومكان محددين تحكمهما ظروف وموازين قوى ومعطيات معينة إن نظرية العمل هذه وما تقترحه من أساليب في الكفاح والشعارات والعمل بين الناس وطرق الصدام قابلة للاهتزاز وإعادة النظر في حالة تغير الظروف ؛

أو في حالة عدم تحقيقها للأهداف بعد حين من الدهر أو في كلا الأمرين ويؤدي هذا الاهتزاز إلى دعوة لإعادة النظر مما يقود بدوره أحيانا إلى الانشقاقات أو الانسحابات أو إلى ولادة حركات جديدة وهكذا ؛

أى يعتبر هذا الموضوع مصدرا أساسيا لما يحدث من خلافيات في داخل الحركة الإسلامية أو فيما بينها وبين التيارات والقوى المختلفة وهو أمر طبيعي ومن غير الممكن تجنبه إلا بثبات صحة نظرية عمل محدد والتأكد عمليا من صحة إستراتيجيتها وتكتيكها وذلك بتحقيقها للنصر .

يلاحظ من تجربة حركة الإخوان المسلمين في مصر أن تبني نظرية التربية الشاملة للفرد كانت ثابتا في كل مراحل الظروف ولكن يلاحظ أن الحركة كانت تواجه باستمرار أسئلة تتعلق بالموقف من السلطة والحكم ؟

أو موقفا من قضايا إسلامية قد يؤدي الجواب عنها إلى صدام مع موقف السلطة (على سبيل المثال الجهاد في فلسطين) وإن لحركة الإخوان تجربة واقعية في هذا الأمر ولا أدري إن كان هنالك تقويم للكيفية التي أدير فيها هذا الصراع في كل مرحلة ومدي صوابية وما هي الدروس المستقاة من تلك التجربة الغنية جدا ؛

ولكن الشئ الذي يمكن استنتاجه هنا هو أن السلطة في كل العهود ما كانت لتترك الحركة تنمو إلى نهاية الشوط وإنما كان لابد من أن يصل ذلك النمو حدا يدفع السلطة إلى التحرك لعرقلته هنا أو ضربة هناك بما كان يطرح السؤال حول ما هي " نظرية العمل " والحالة هذه هل يستبعد الصدام؟ وكيف وتحت أى تصور ؟

أو هل يعتبر الصدام محتوما؟ ثم هل هو مقبول؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن النجاح في الصدام دون تعبئة مسبقة باتجاهه على مستوى الناس؟ وهل يمكن أن ينجح دون امتلاك نظرية عمل خاصة به تبقي زمام المبادرة بيد الحركة والجماهير لا بيد النظام ؟

أما إذا كان الصدام مستبعدا أو مرفوضا وغير مقبول وكان الوصول إلى السلطة مسقطا من كل حساب فعندئذ تحتاج الحركة إلى نظرية عمل مناسبة لهذا التوجه أى يصار إلى التعبئة العمة للحركة وللناس وضد الصدام وتسحب كل فتايل التفجير ؛

ولا يترك بين يدي الخصم أية أعذار لتوجيه الضربات تحت حجة الأعداد للصدام من قبل الحركة ومن ثم يبقي البناء الداخلي ببناء لينا مرنا إلى حد لا تقطعه السكين ولا يكبسه المكبس وتجرى تعبئة جماهيرية واسعة على أساسه ويمكن أن تذكر في هذا المجال نظرية العمل التي تتبناها حركة التبليغ والدعوة .

في الواقع لا يراد في هذه المقالة الانحياز إلى نظرية عمل محددة وتحبيذها لأن مثل هذا الانحياز يجب أن يقوم على دراسة دقيقة لواقع عياني في بلد معين أى دراسة ظروف الوضع الإسلامي فيه والوضع الشعبي ووضع السلطة ووضعه الإقليمي والدولي ثم يصار إلى اختيار نظرية عمل مناسبة ؛

ولكن ما يراد التركيز عليه هنا فيتمثل بضرورة الحسم في اختيار نظرية عمل مناسبة أما محاولة إمساك العصا من نصفها فيما بين الخيارات المتضاربة فمخاطرها كثيرة وقد تأخذ حالات إمساك العصا من النصف أشكالا كثيرة منها على سبيل المثال .

  1. أن تعلن أنك حركة دعوة أو إصلاح أو تربية أو حركة ثقافية وتتبني خط اللا عنف أو الطريق "الديمقراطي" ولا تسعي إلى انقلاب أو ثورة أو تغير للسلطة ولكنك في الوقت نفسه تبني تنظيما مسلحا أو تقوم بتدريبات تنظيمك على السلاح أو تختزن السلاح أو تغلغل بالقوات المسلحة .
  2. أن تعلن أنك حركة دعوة وإصلاح وتربية أو حركة ثقافية ولا تسعي إلى السلطة ولكن تبدأ بالتحالف مع هذا المركز أو ذاك من مراكز القوى المتصارعة في قمة السلطة أو تبدأ سياسات معينة مما سيضعك في مواقع الصدام مباشرة .

إن المشكل هنا: يتمثل بوقوع تناقض بين ما تعلنه وما تمارسه لأن هذا التناقض سينقلب عليك في حالة الصدام لأن الازدواجية لا تخدع العدو وإنما سيختار منها جانب الصدام والحجة لضربك ولكنها ستؤثر في تعبئة الجماهير التي تأخذ منك ما تعلنه لا ما تخفيه ولهذا حين يأتي الصدام لا تكون مستعدا له فتتركك تلقي مصيرك وهي في مقاعد المتفرجين .

يجب أن يؤخذ في الاعتبار بهذه المناسبة قاعدة ذهبية تميز عصرنا الراهن وهي استحالة انتصار حركة سياسية منظمة على السلطة الرسمية من خلال منازلة السلطة بعضلاتها فعضلات الدولة أقوى من عضلات أى حزب سياسي أو حرة سياسية مهما بلغ عدد الأعضاء؛

ومهما امتلكوا من إمكانيات مادية إن الحالات الوحيدة التي جاءت بنتائج مختلفة هي تلك التي اعتمدت على انقلاب عسكري من داخل السلطة ولكن التجربة العامة أن أثبتت أن الانقلاب العسكري ينهي السلطة السابقة كما ينهي الحركة التي أطلقته وأنتمي إليها لأن صانعي الانقلاب سيكونون السلطة القادمة والله أعلم ما يحدثون ؟

ولكن حتى هذا الاستثناء أصبح مع الأيام أقل فأقل إمكانا ولا سيما في البلدان التي أصبح جيشها كبيرا جدا لأن الانقلابات الثورية تنجح في الجيوش الصغيرة أو المتوسطة وهي نادرا ما تنجح حين يكون الجيوش المحلي عدة فيالق وجيوش .

ما سمي بالقاعدة الذهبية هنا حمل هذه التسمية انطلاقا من اعتبارين يتسم بهما عصرنا:

  1. الاعتبار الأول أن الدولة الحديثة أصبحت قوة مركزية منظمة وذات قوات مسلحة قائمة على أعلي درجات الطاعة والتدرب والنظام والتسلح مما يجعلها تتفوق في الصدام على أية مجموعة مدنية مقابلة فإذا تحركت هذه القوة ضد هذه الحركة أو تلك تصبح مسألة إثخانها بالجراح أو تمزيقها أو ضربها أو تشتيتها مسألة وقت ؛ وإن كل مقاومة بالسلاح إما ستنتهي إلى فشل ويجب أن يلاحظ هنا أيضا أن الدولة الحديثة مدعومة من النظام الدولي في مواجهة التغيير الإسلامي ومن ثم سوف تلقي الدعم الإعلامي والمعنوي والمادي والعسكري منه .
  2. لم يعد المجتمع في أغلب بلاد المسلمين قبائل ومدنا ومناطق ريفية تتمتع باستقلال ذاتي عمليا وتمتلك أسلحتها إنما أصبح دور المدن الكبرى متعاظما جدا من حيث ثقله السكاني وأهميته الاقتصادية والسياسية مما يجعل نتائج كل صدام مع السلطة ترتبط بموقف الجماهير ؛ فإذا تحركت ملايين الجماهير ضد السلطة وعلى مدى عدة أسابيع وأشهر وفشلت عمليات التقتيل والقمع والردع وقوانين الطوارئ في إخماد الحركة الاحتجاجية الجماهيرية فهذه هي الحالة التي يمكن أن تفكك فيها السلطة المركزية وتشل فاعلية جيشها وتبدأ تتهاوي وتصبح عاجزة عن العمل أما إذا الجماهير لم تتحرك فالسلطة هي التي ستتغلب في الصدام .

من هنا تقول هذه القاعدة الأساسية أن أية خطة صدام مع السلطة يجب أن تتجه إلى الجماهير فإذا كانت توجهاتها مناسبة ولقيت آذانا صاغية سارت الخطة على طريق سليم مهما اعترضها فيه من نكسات وضربات جزئية لأن المشكلة هنا ليست الحركة والحفاظ عليها ؛

وإنما المشكلة هي الحركة الجماهيرية واستجاباتها والحفاظ على سلامة توجهاتها بل تصبح الضربات الجزئية وحتى الكبيرة التي تتعرض لها النواة طريقا إلى إنضاج الحركة الجماهيرية وتقريبا ليوم الصدام الكبير ولا سيما إذا ما وقعت تلك الضربات بسبب ما ترفعه النواة من شعارات تهم الجماهير لا فرضيا وإنما عمليا أى تشغل بال الجماهير في الراهن أو في الأقل تمثل شغلا شاغلا بالنسبة إليها يمكن توقعه وقابلا للخروج من الأعماق إلى السطح .

إذا كان ما تقدم صحيحا أو إذا كان من غير الممكن مواجهة السلطة بالقوى الذاتية وحدها وإنما لابد من الاشتراك الجماهيري الواسع فهذا يجعل المعضلة المركزية في كل عمل دعوى هو كيفية دخول المواجهة بالجماهير وهذا غير ممكن أن يتم بصورة صناعية وإنما يجب أن تكون له جذور واقعية لا دخل للنواة بها أى لابد من أن تكون جذور الصدام ضاربة في أعماق الوضع بين الجماهير والسلطة وذلك قبل تشكل النواة وستبقي في حالة عدم وجودها ؛

وبهذا لا تكون النواة صاحبة القضية وتدعو الجماهير لتبنيها وإنما تكون الجماهير صاحبة القضية أصلا وتتقدم النواة للعب دور فاعل من خلالها إلى جانب الجماهير فإذا كانت الجماهير لا ترغب في الصدام إلا جزئيا وكانت ترغب في استخدام أساليب معينة (سلمية أو غير سلمية) فعلي النواة (الطليعة) أن تحترم هذه الرغبة أو تلك ؛

فلا تركب رأسها في أية حالة من الحالتين فتقرر ما لا يتناسب وتلك الرغبة المحددة مما يتطلب من ثم أن يكون هنالك حرص على عدم تقدم فعلها على الواقع الجماهيري أو تأخيره عنه فالفعل الخاص بالنواة فيما يتعلق بما يجب أن يعمل؛

وكيف يعمل قد يقوم على تقدير خاطئ سواء أكان من حيث الاستعجال بالصدام في غير أوانه أم في إضاعة فرصته حين يكون قد نضج تحت شعارات التحضير والإعداد والتروي ؟؟

إن ما تقدم لا يتعارض وضرورة أن تقوم النواة بأفعال مبكرة بالاعتماد على قواها الذاتية تهدف إلى تنبيه الحركة الجماهيرية وتشجيعها وربما كانت تلك الأفعال ذات طابع عنيف ولكن ذلك لا يأتي أكله ولا يكون مناسبا إلا إذا جاء في إطار استعداد جماهيري إلى التقاطه أما إذا أثبتت الوقائع أنك تضرب بحديد بارد أو إنك تسير في معاكسه التيار الجماهيري ولا أمل في أن يغير التيار اتجاهه فعندئذ ستجد النواة نفسها تحارب بعضلاتها حربا ميئوسا منها .

ثمة نظرات احتقارية إلى الجماهير تسود عددا من العاملين في الساحة السياسية والفكرية وتستند تلك النظرات إلى وصف الجماهير بالجهل أو التخلف أو السعي للحصول على لقمة الخبز بأى سبيل وثمة نظرات تستند إلى ما يظهر على الجماهير من حالة ركود ولا مبالاة أحيانا؛

وربما لمدة طويلة وبعضها يحمل ذكري أليمة حين تعرض المؤمنون المجاهدون للعسف والقهر ولاقوا ألوان العذاب على يد الطاغية ولم تحرك الجماهير ساكنا وربما صفقت لبعض إنجازات ذلك الطاغية ؛

ولكن قبل مناقشة هذه النظرات يجب أن يقر سلفا بما هو آت: إن كان وضع الجماهير كما تقول تلك النظرات فهذا يعني أن لا فائدة من الصدام ضد النظام المعني أو الاحتلال لأن خروج الجماهير من المعركة يحكم على نتيجتها لا محال كما سبق

وأشير إليه من على حين نبه إلى عدم إمكان أية نواة مجاهدة أن تنازل بعضلاتها الذاتية جيشا مركزيا منظما ومدربا ومسلحا أفضل تسليح وذا طاعة لقيادته ومدعوما من الخارج ولهذا لا مفر عندئذ من حمل نظرية عمل تسقط من حسابها كل صدام بل كل مشروع لإحداث تغيير ملموس فتقتصر على بناء بعض الأفراد والأسر إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .

على أن تلك النظرات إلى الجماهير لا تأخذ بعين الاعتبار ما هو أبعد من السطح وما يظهر على السطح من مواقف الجماهير ومسالكها أى لابد من أن يذهب النظر إلى أعماق تلك الجماهير حيث من السهولة بمكان أن يري الإنسان مخزونا إسلاميا تشكل تاريخيا على مدى أربعة عشر قرنا ؛

فالجماهير تختزن تاريخ الأمة وتختزن أجمل ما عرفه التاريخ من صور العدل الإسلامي والمجد الإسلامي فضمير جماهير الأمة ضمير إسلامي وهو مشدود لله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم ويحمل حنينا وتطلعا إلى عدل الخلفاء الراشدين وإلى سيف خالد بن الوليد وصلاح الدين والظاهر بيبرس ؛

وهو يستمع إلى القرآن فيملأ عليه مشاعره وعقله ولكن ذلك كله ترسب في القاع وقد تراكمت عليه عصور من الطغيان والتمزق والضلال والانحطاط وعلت فوقه طبقات من تجارب مريرة في العصر الحديث تمثلت بفشل ثورات إسلامية كثيرة وهزائم للأمة كبيرة وتراكم فوق ذلك المخزون الإسلامي تمزيق للأمة إلى دويلات تحكم فيها الأجانب والتغريب والشرك ؛

وزرع في جنبها سرطان خطير مدجج بالسلاح والقنابل النووية اسمه دولة " إسرائيل " فرزحت الجماهير تحت الإفساد والسياط والرصاص ولهذا لا يتوقعن أحد من كان أن يطلق الصرخة فإذا بالجماهير تهب هبة رجل واحد لتصبح طوع بنانه فالمسألة أشد تعقيدا وتحتاج إلى صبر وأناة وطول نفس هذا إذا توفرت نظرية العمل المناسبة وما ينجم عنها من أساليب جهاد وكفاح وشعارات (إستراتيجية وتكتيك) سديدة .

ومن هنا كان نقطة الانطلاق في طريق التغيير تقضي بتعديل النظرة إلى الجماهير المسلمة وإدراك إيجابياتها وما هو مخزون في ضميرها إلى جانب الإحاطة بسلبياتها وما تراكم من تلك السلبيات عبر العصور؛

ولا سيما في العصر الراهن ولعل الأهم من ذلك هو الاستنتاج أن إرادة الله تعالي ومشيئته حين سترضيان عن الأمة ستحدثان التغيير من خلال الجماهير وتحركها وهذه الجماهير تدعو الله في أعماقها أن يغير حالها وينقذها؛

والله تعالي مستجيب الدعوات أى لا ينبغي أن يتوهمن أحد من رواد العمل الإسلامي أن الدعاء لله لا يصعد إلا منه فينسي تضرعات الملايين ورجائها ومن ثم يجب أن ترفض النظرة الاحتقارية إلى الجماهير باعتبارها نظرة سطحية لا تري ما وراء الظاهرة والسطح ؛

ولا تدرك كوامن القوة المختزنة في الأعماق فما دام الإسلام وتاريخه هما ذلك المخزون فهذا يعني قوى لا محدودة حين تنفض ما علا فوقها من ركام فتتحرك بالملايين فتسد بها الطرقات والساحات ؛

مما يجعلها تتحكم عمليا بكل شرايين الحياة في المجتمع وبهذا تصبح القضية هي كيفية الوصول إلى تلك الأعماق وكيفية رفع ذلك الركام وهنا تدخل في نطاق من البحث يعتبر من أصعب ما يواجه العمل التغييري من معضلات لأنه يعني الوصول إلى نظرية العمل المناسبة .... إلى " الاستراتيجية والتكتيك " المناسبين ولعل من الضروري هنا إبداء ملحوظات إضافية حول وضعية الجماهير.

وإذا كان الإسلام يتعرض للإساءة والهجران وإذا كانت الأمة تئن من ظلم وطغيان وفساد أو من احتلال ومهانة وذل وإذا كانت البلاد تتعرض للأخطار الداهمة أو كانت حقوقها مهدورة ومصالحها مغبونة وثرواتها منهوبة وأراضيها مستباحة فالجماهير هي محط كل ذلك وجعا وألما وضررا ودفع ثمن ومن ثم هي الأولي بتحريك الإسلام فيها وباستشعار مصائب البلاد وكوارثها ؛

وهي الأولي بالبحث عن التغيير والخلاص ولكن ذلك يعبر عن نفسه في الغالب بأشكال معقدة وأحيانا غير واضحة وأحيانا كثيرة غير مباشرة وقد تختار الجماهير السكوت والركود والخضوع حين تري عدوها قويا متماسكا بطاشا فلا تعمل على مصادمته ولعل في ذلك حكمة التجربة التاريخية حيث تعلمت الجماهير ألا تدخل في المعارك الخاسرة لأنها تعني أنهارا من الدماء بلا فائدة

ولهذا تري بحنكتها وبصيرتها أن تنحني أمام العاصفة مؤقتا كما تفعل أشجار الغابة حين يكون في انحنائها تجنبا للاقتلاع والتحطم والتكسر ولكن ذلك لن يطول حتى لو بدا بسبب حياتنا القصية طويلا وطويلا جدا لأن ما أن يبدأ العدو بالتآكل وتبدأ قدرته بالتضاؤل؛

ثم ما أن تبدأ الجماهير تستشعر مكامن قوتها ولا سيما إذا قدر الله تعالي لها قيادة تثق الجماهير بإيمانها وصدقها وحكمتها أعماق الجماهير ويبدأ بالصعود إلى السطح فيبدأ الماء الراكد بالتحرك ولعل الجماهير المسلمة قد تعلمت بعفوبة شغيفة ؛

ومن تاريخ طويل إن كل صراع ناجح ضد العدو يحتاج بعد الاعتماد على الله والاتكال عليه أن يكون حالة العدو قد بدأت بالتزعزع والانحدار والتضغضغ والانهيار بينهما تكون حالة القوة الناهضة والجماهير عموما قد بدأت بالتيقظ والتماسك والصعود ولعل العين المؤمنة البصيرة ستري علائم لذلك من خلال أحداث وظواهر كثيرة فتأتي بمثابة وسائل توحي بضعف العدو وتزعزعه وفي المقابل توحي بسير النواة المجاهدة والجماهير المسلمة على طريق التوفيق والقوة .

ومن هنا تقضي نظرية التغيير أية نظرية من نظريات التغيير (سوى تلك التي تعتمد الانقلاب العسكري) أن تقدم خطابا متماسكا للأمة لا يحمل في طياته أوراقا مغطاة تناقض ما يعلن ولا يحمل ازدواجا مربكا فالتماسك هنا ضروري في هذه الحالات؛

بل في مختلف الحالات غالبا أى لابد من نظرية عمل واضحة صحيحة ومعلنة ويجري العمل الدؤوب والمتواصل وفقا لها دون رضوخ لابتزاز السلطة أو ابتزازات القوى المنافسة لأن عدم ترك نظرية العمل غامضة ومسطحة يعطي الفرصة الكافية لإثبات صوابيتها أو عدم صوابيتها كما إن العمل الدؤوب والمتواصل والحازم وفقا لها يشكل شروطا للنجاح ؛

إن كانت النظرية صائبة بمعني مناسبة لواقع الحال المحدد ويأتي بالدليل على ضرورة إعادة النظر فيها لأن الإمعان في العمل وفق نظرية خاطئة يعني الإمعان في الفشل أما التصحيح من أجل الشروع بالبحث عن نظرية أخري أكثر مناسبة؛

ومن ثم طرحها لتعامل بدورها بوضوح وعلنية وبعمل دؤوب ومتواصل وفقا لها فمن شأنه أن يفتح آفاق للنجاح في حالة عدم تبني نظرية عمل خاطئة أخرى وبالمناسبة يجب أن يلاحظ أن الحديث عن العلنية والوضوح هنا ينطلق من القاعدة التي تعتبر الجماهير بعد الإمساك بالإسلام مفتاح الحل ومن ثم فالخطاب يتوجه إليها ...

ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن : أين موقع المكر والخداع هنا؟ وكيف يمكن أن نتعامل مع الأعداء بأوراق مكشوفة؟ وهو سؤال له وجاهته من زوايا عدة ولا سيما من ناحية توقي الضربات قبل الأوان أو من ناحية عدم السماح للعدو بكشف الموقع والأفراد وغير ذلك حين تكون نظرية العمل ذات طبيعة عنيفة تتجه نحو الصدام؛

أو تقول بالصدام العنيف عندما أرسل رسول الله صلي الله عليه وسلم برسائله إلى كسري وقيصر وغيرهما من الملوك كانت الرسائل لا تحمل لبسا وكانت تتسم بالوضوح التام وعندما تحركت جيوش المسلمين لمواجهة جيوش الروم والفرس كان الهدف واضحا تمام الوضوح للجيش المسلم وللعدو .

ولكن كيف تحركت الجيوش وأى طرق سلكت وكيف أديرت المعركة وكيف كان الكر والفر وتوقيت الهجوم والحشد والمفاجأة فهذه جميعا تدخل في نطاق السرية والمكر والخداع في الحرب أى أن الهدف يجب أن يكون صحيحا واضحا ونظرية الوصول إليه صحيحة واضحة أما السرية والمكر والخداع هنا ففي حركة الجيوش وإدارة الاشتباك في المعارك العسكرية وقد عبر البعض في العصر الحديث عن هذا المفهوم بقاعدة : " علنية الأهداف والفكر والسياسة وسرية العمل "

لقد اتسمت دعوة الأنبياء ولا سيما دعوة رسول الله صلي الله عليه وسلم بوضوح الهدف منذ اليوم الأول وخوطب العدو رقم 6 وبالاسم منذ اليوم الأول , ووجه الخطاب الواضح للناس منذ اليوم الأول كذلك وكذلك كانت نظرية العمل؛

ففي المرحلة المكية وضحت الأهداف الأساسية كلها وأعلنت للعدو وللناس على حد سواء كما كانت نظرية العمل تعتمد نشر الدعوة في السر وفي العلن دون اللجوء إلى العنف أو ممارسته ولهذا كان تحمل القمع والصبر على الأذى من شروط نشر الدعوة والسير على طريق تمكينها .

وكانت الهجرة إحدى وسائل حماية المسلمين من التصفية الشاملة أما السرية فكانت في الاجتماعات الخاصة وأحيانا في الصلاة وفي تحديد موعد الهجرة واتجاهها أما عندما انتقل رسول الله صلي الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم إلى المدينة وقامت دولة المدينة شرع بتبني نظرية عمل جديدة هي نظرية بناء الدولة والقاعدة " الشعبية المسلحة "

والتوسع بعقد التحالفات والاستعداد لحسم الصراع بالقتال وكانت النظرية هنا واضحة تمام الوضوح للعدو وللناس أجمعين أما السرية فكانت فيما يؤخذ من إجراءات فيما يتعلق بالاشتباك المسلح (تنطبق عليه قوانين الحرب وما تقتضيه من حركة سرية ومفاجأة وخداع وغير ذلك)

والاتصالات بالقوى المحايدة أو بقوى مسلمة خلف جبهة العدو وغير ذلك . يلاحظ أن لكل " نظرية عمل " نطاق من السرية لا يتعارض وإياها فالسرية في المرحلة المكية لم تكن أ أعمالا مسلحة أو تحضيرا لها وإنما كانت اجتماعات واتصالات ضمن نظرية العمل نفسها كما أن السرية في تحريك الجيوش ضد جيوش كسري وقيصر كانت ضمن نظرية عمل معلنة وصريحة في حينه وكذلك كان الأمر في المرحلة المدنية وفي أية حالة أخري .

الذين لعبوا اللعبة المزدوجة في التاريخ الإسلامي بتقديم خطابين متناقضين في الأهداف ونظرية العمل فكانوا أصحاب الحركات السرية التي خرجت على الإسلام كالقرامطة وحركة الحشاشين وغيرهم وقد نبعت نظريتهم في العمل وطراز ازدواجيتهم من طبيعة أهدافهم.

ذات الطبيعة المتأخرة أصلا بينما كان الأئمة الذين واجهوا الطغيان أو عدوا خارجيا ودعوا لتغيير وإصلاح يحملون لغة خطاب واحدة لغة واضحة للناس وللمعنيين جميعا كما كانت أساليب التغيير (نظرية العمل التغييري) واضحة بغض النظر عن مدي صحتها بمعني مناسبتها لتحقيق هدف التغيير فبعضها نجح وبعضها أخفق.

بكلمات أخرى إن كنت تريد أن تواجه عدوا بالسلاح وتريد من الناس أن يحملوا أو يتفهموا موقفك ويتعاطفوا وإياه فعليك أن تجهر بهدفك وتسوغه وعليك أن تجهر بنظرية العمل التي تري أن من غير الممكن النجاح إلا من خلالها

وبهذا يمكنك أن تدير الصراع إدارة ناجحة أما إذا كنت تري أن المواجهة بالسلاح تحتاج إلى مرحلة سابقة من دعوة وتنظيم وتحريض فعليك أن تقدم في تلك المرحلة نظرية عمل متماسكة واضحة أيضا فلا تتحدث فيها عن السلاح ولا تقترب منه طوال ما تقتضيه من زمن ؛

وإنما تحصرها بالدعوة والتحريض والتنظيم تحت نظرية من العمل محددة مناسبة أما الانتقال إلى السلاح أو الإعداد له بعد تلك المرحلة فيجب ألا يكون مطلقا إلا بعد أن يقرر الدخول في المرحلة الثانية وإعلان نظرية العمل الثانية وهذا يتطلب التحرك بسرعة..

أما خلط المرحلة الثانية في المرحلة الأولي تحت دعوى التحضير والإعداد فسوف يعرض في الغالب مجموع العمل إلى ضربة إجهاضية من قبل العدو فتواجه بمعركة مع العدو بمستوى السلاح وتحدي السلاح وأنت غير مهيأ لها بعد؛

كما أن الناس لم يهيأوا لها بعد فتقع في ورطة لا تحسد عليها فآيات الأمر بالقتال لم تنزل إلا في حينها لم يكن هنالك في ذلك الزمن ضرورة للحصول على السلاح وتجميعه لأنه كانت منتشرا بين الناس جميعا بينما الحصول عليه في هذا الزمن يتطلب أن يعامل البحث عنه وتخزينه في مستوى معاملة الأمر بالقتال نفسه فالعدو سيعتبر جمعه للسلاح بمستوى استخدامه وإعلان الحرب ؛

ومن ثم سيبدأ معركة في ذلك المستوى بمجرد عثوره عليه وإن الأمر كذلك بالنسبة إلى التدريب ولهذا يجب الإبصار إلى اقتناء السلاح أو التدريب إلا عيشة الانتقال إلى المرحلة الثانية ففي تلك اللحظات حين تدق ساعة العمل ينجز ما لم يكن من الممكن إنجازه بسنوات ولهذا لا ضرورة لتحضير قبل الأوان ولا يتوهم أحد أن من الممكن أن يخزن السلاح وتقوم التدريبات وإلا يكون ذلك معرضا للكشف فقد دلت التجربة أن احتمال انكشاف ذلك قوي جدا جدا .

لا شك في أن ثمة حاجة لبناء ذاتي سوى من حيث إخفاء أسماء عدد من الأشخاص ولا سيما مع بداية العمل ولكن هذه المرحلة في حقيقتها هي مرحلة التفاهم لبدء عمل ما ضمن توجه لعمل محدد ولكن ما أن يبدأ هذا البناء بالتوسع حتى يصبح بحاجة إلى الإعلان عن أهدافه وعنب بعض رموزه فلا قيمة له إن لم يخرج إلى النور ويخاطب الناس علنا ؛

أما إذا بقي في نطاق الدوائر السرية فسوف يظل محدود ا وبلا فاعلية وقد تمر به السنوات وهو تحت هذه العقلية عقلية التحوط والسرية والبناء السري والإعداد ولكنه في أحسن حالاته سينتهي بطائفة صغيرها لها طقوسها الخاصة التي نمارسها في الغرف المغلقة بينما كان مراده أن يغير الأمة ويحدث نهضة كبري .

وهذا لا يكون إلا من خلال مخاطبة الأمة والتعامل وإياها ومن خلال المشاركة بتحركات كبري يكون من شأنها المساهمة في تحريك كوامن النهضة وإحداث تغيير في الواقع وبالمناسبة إن وضع أهداف سرية ليقوم عليها تنظيم ما يتطلب نظرية عمل محددة في العمل السري في الغرف المغلقة وخارجها؛

ولا شك في أن هذه النظرية تفترض تقيدا صارما بشروطها وقوانينها وأصول تعاطيها كما تتطلب أية نظرية عمل أخرى تقيدا صارما بشروطها وقوانينها وأصول تعاطيها ولكن مثل هذه النظرية لا تصلح إلا في مرحلة تحضيرية لعمل على أساس نظرية أخري

وهي غير مأمونة في أغلب الأحوال إلا حين تطبق في مناطق بعيدة عن مناطق عملها الأساسي أى بعيدة عن مناطق سيطرة عدوها وإلا ستكون دائما معرضة للانكشاف وتلقي الضربة قبل الأوان .

إنه لمن المهم هنا ملاحظة أن القوى الحاكمة وكان هذا شأنها وديدنها في كل زمان ومكان ذات عيون مبثوثة في كل خلايا المجتمع ومفتوحة على كل حركة تعمل في الخفاء . وفي العلن ضدها ولكن مستوى اليقظة لدي تلك القوى في ظل الدولة الحديثة وفي ظل التعاون الإقليمي والدولي بين أجهزة المخابرات تزيد من مخاطر الازدواجية على أية حرة سياسية كما تقصر عمر المرحة التي يمكن العمل بها سريا دون أن يشعر أحد .

ولهذا كان من الضرورى عدم الركون كثيرا إلى " الشطارة الفنية في العمل " أى إلى " الشطارة " في التنظيم السري أو التمويه وإنما يجب أن يكون الركون كل الركون إلى صوابية الهدف وأساسا صوابية تحديد العدو رقم 6 وصوابية نظرية العمل لأن تحقيق هذين الشرطين وإذا شئت الثلاثة (الهدف ينقسم إلى جانبين جانب هدمي أى تحديد العدو الذي يجب تسليط الناس عليه وجانب بنائي وهو الهدف البديل فهما هدف واحد أو هدفان)

فإذا كان الهدف صحيحا بشقيه وكانت نظرية العمل صحيحة فعندئذ تصبح المهارات الغنية ذات قيمة ولكن ليست حاسمة أى لا يكون هنالك ركون إليها بل تصبح إدارة الصراع إدارة صحيحة بمتناول اليد نسبيا وتصبح كل خطوة يقوم بها العدو ضد تلك الحركة وبالا عليه وخيرا لها لأنها تكون من جانبها قد حددت أصول اللعبة بينها وبينه ويجب ألا تسمح له عندئذ باستدراجها إلى لعبة أخرى يحددها هو

فإذا إرادتها عملية صراع في المجال الثقافي أو التربوي فيجب أن تتقيد بذلك تقيدا حازما وتأخذ بنظريته وما تقتضيه من شعارات وخطوات أخذا صارما فلا تحيد عن نهجها أمام تحديات السلطة أو استفزاز حركات أخرى منافسة؛

وإذا أرادتها عملية صراع على المستوى السياسي اللاعنفي الذي يعتمد بعد اعتماده على الله تعالي على الشعب فيجب أن تحدد نظرية العمل بدقة ويصار إلى جعل كل الخطوات والإجراءات العلنية والسرية متناسبة وإياها ووفقا لها؛

وهذا أيضا له خيارات عدة من نظريات العمل وتختلف الخيارات عن بعضها البعض حتى جوهريا بالرغم مما بينها من مشترك في منطلقها الإسلامي وفي مجال الاعتماد على الناس وعدم اللجوء إلى العنف فهنالك النظرية التي تقوم على العمل السياسي الصدامي بالسلطة بلا عنف ؛

أى تصادم السلطة برفع الصوت عاليا ضدها أو ضد رمزها ويحرض عليه علنا ولا يقبل المساومة حتى لو كان الرفض يعني السحق والتعذيب والتشويه لأن الهدف هو الوصول إلى الانتفاضة الشعبية العامة التي تصل إلى حد يصبح من غير الممكن قهرها بالرصاص فيضطر ذلك العدو إلى التراجع ويبدأ التغيير المنشود .

ولا سيما إذا تمكنت تلك الحركة أن تكون على رأس الانتفاضة الشعبية وهناك نظرية العمل السياسي التي تعتمد على الإفادة من كل ما يتيحه النظام من وسائل المعارضة والمشاركة بما في ذلك العمل ضمن النقابات والصحافة والبرلمان وغير ذلك ؛

فنظرية العمل هنا تريد من الحركة السياسية أن تكون عنصرا ضاغطا للإصلاح ويكون لديها الاستعداد للمساومة والاتفاق على أهداف جزئية فهي لا تهدف إلى تغيير جذري في النظام أو تسلم السلطة منه

وقد تصل هذه النظرية إلى مستوى الطموح إلى الوصل إلى السلطة في حالة توفر تقاليد " ديمقراطية " تسمح بانتخابات حرة وبترشيح حر وباستعداد الحاكم للتخلي عن السلطة احتراما لخيار الانتخابات ويكون الجيش مستعدا لاحترام ذلك الخيار كذلك

إن المهم هنا أن على كل نظرية عمل تحمل هدفا محددا أن تقدم خطابا متماسكا ونهجا عمليا متماسكا وأساليب ممارسة مناسبة بعيدا عن الازدواجية والخلط والتمييع .

وتنطبق هذه القاعدة حين تقوم نظرية العمل على استخدام الجهاد المسلح كذلك لأن من الضروري أن تنسجم مختلف الشعارات والمنطلقات والخطوات بما في ذلك التنظيم انسجاما حازما مع هذه النظرية ويجب أن يكون هذا الأمر واضحا للعاملين وللناس كما للعدو؛

فعلي سبيل المثال لا يجوز لمجاهد يخبئ سلاحا وينتمي إلى خلية مسلحة عاملة في الأرض المحتلة أن يشترك بتظاهرة أو يحرض على إضراب ثم يجد نفسه بسبب ذلك في الاعتقال معرضا للتفتيش الدقيق والتحقيق الشديد مما قد يعرض سلاحه وخليته إلى خطر الانكشاف .

هذا مثال بسيط على ما يقصد حين يقال بضرورة التقيد بنظرية العمل وعدم خلطها بنظرية عمل أخرى أو حين يقال بضرورة جعل كل الخطوات العملية والشعارات والإجراءات والتنظيم في حالة توافق فيما بينها بل في خدمة نظرية العمل المحددة .