زينب الكاشف
مقدمة
إن حال أمتنا ودعوتنا يعلمه القاصي والداني؛ فأصحاب الدعوات مطاردون ومعتقلون، وغيرهم من أهل الفسق والمجون في خير بلادنا يرتعون، وعلى مر الزمان والدعاة في محن وابتلاءات، فأعطوا القدوة من أنفسهم، فصبروا وثبتوا ورابطوا، وسلكوا درب الصالحين درب محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم أجمعين.
نلتقي لنقطف زهرة من البستان الذي رواه الشهداء على مر العصور بدمائهم، فانبثقت زهرة من نور تملأ الدنيا بعبيرها، نلتقي مع زوجة مجاهد تكبّد العناء سنين عدداً في صحراء سجن صحراء الواحات فما زاده إلا إيماناً.
نلتقي مع الحاجّة زينب الكاشف زوجة الزجَّال سعد سرور، إنها أصغر معتقلة في سجون عبد الناصر.
البداية
في حي مصر الجديدة الكائن بشرق القاهرة، الحي الهادئ، تقطن هذه السيدة الفاضلة، والتي تجاوزت السبعين ربيعاً تكابد الأمراض، وتغالب الأحزان على فراق رفيقها الوحيد بعد حادث يكاد يكون متعمداً من جهات عليا بسبب نشاطه الدعوي، وقلمه الحر الجريء.
عندما تدخل بيتها تجد فيه السكينة والطمأنينة، تجد نفسك أمام امرأة أعادت للأذهان سيرة الصحابيات في صبرهن وجهادهن وحبهن للعمل لدين الله، وبالرغم من كونها تعيش وحيدة، حيث حرمت من نعمة الأولاد، إلا أنها تعد نفسها أمّاً لكل مسلم يعمل لدين الله.
هي زينب حسين أحمد داود الشهيرة بزينب الكاشف، ولدت في حي محرم بك بمحافظة الإسكندرية، وحرمت من حنان الأب وهي طفلة، فاحتضنتها أمها، حيث كانت الابنة الوحيدة لها، وكان لها ستة إخوة من الرجال، أكبرهم: محمد الأمير حسين، (وكان ينتمي للحزب السعدي)، ثم أحمد الدرديري، والذي التحق بدعوة الإخوان هو وأخوه الأصغر مصطفى، ثم عبدالحميد، وعلي الدين، وكان ضابطاً في سلاح حرس السواحل
عملت أمها على تربيتها تربية إسلامية، وتعليمها كل ما يعينها على حياتها في شؤون دينها ودنياها، التحقت بمراحل التعليم الأولى، ثم التحقت بمعهد الخدمة الاجتماعية، حيث تخرجت فيه، وحصلت على المركز الخامس، لكنها لم تعمل لرفض أخيها الأكبر محمد الأمير ذلك، وكبرت هذه الزهرة وهي تعرف معنى الاعتماد على النفس، فتعلمت فن الحياكة.
ونشأت هذه الزهرة في بيت محافظ على الصلاة، وبه إخوة التحقوا بركب دعوة الإخوان، مما كان له أطيب الأثر في تكوين شخصيتها (1).
على طريق دعوة رب العالمين
نشأت زينب الكاشف محافظة على صلواتها وعباداتها والسمت الإسلامي، فلم تتأثر بما أصاب فتيات المجتمع من هوس الموضة والتحلل والسفور، فعرفت الحجاب مبكراً، وتوجت حياتها بالتحاقها بركب الدعاة ودعوة الإخوان، وفي ذلك تقول:
"تعرفت على دعوة الإخوان من خلال بيتنا، حيث كان لدي أخ "سعديّ" وآخر من الإخوان، وكان ذلك بعد محنة الإخوان الأولى واغتيال الإمام البنا، فكان ينشب بينهما خلاف، وكنت أجلس أسمع لكل منهما، غير أن السعديّ وهو أكبرنا سناً كان يتسلط بالأمر ليمنع أخي من السير في طريق الإخوان، فكنت أقول:
أما يكفي الظلم الواقع على الإخوان من الحكومة السعدية، فيكون الظلم أيضاً عليهم داخل البيت، فمالت نفسي إلى الإخوان وأحببتهم، وسارعت لشعبة الإخوان بعد افتتاحها وعودة الجماعة، حيث كانت مسؤولة قسم الأخوات هي الأخت محاسن عزازي وكانت ناظرة مدرسة عمر بن الخطاب بالإسكندرية، والمشرف عليه هو الأخ سيد عبدالعظيم،
ونشط القسم وكان يعتني بالسيدات والطالبات، كما كان يعتني بتعليمهن الأخلاق الإسلامية الصحيحة، وكان يضم النشاط الثقافي والاجتماعي، وإقامة المعارض التي كانت تعرض الأعمال اليدوية والأطعمة المختلفة التي كانت تقدمها الأخوات، هذا غير ما كنّ يقمن به من التزاور فيما بينهن" (2).
كما أن أخاها أحمد طلب منها الذهاب لدرس الخميس في المسجد، والذي كان يعقد من العصر إلى المغرب، وكانت وقتها لا ترتدي الحجاب إلا وقت الصلاة فقط، فذهبت وأخذت معها طرحة، فكانت ترتديها وقت الصلاة والدرس، وذات مرة دعتها مسؤولة الأخوات الأخت محاسن في منزلها،
وتحدثت معها في الحجاب، فردت عليها بقولها: "أنت لا تجبريني على شيء، فأنا أعمل ما أريده وأقتنع به"، فردت عليها الأخت محاسن بقولها: "نحن لا نجبر أحداً على الحجاب"، لكنها ذهبت للسوق واشترت طرحة كبيرة وارتدتها، وذهبت للأخوات ففرحن بها، وبدأت العمل معهن بكل حماس (3).
ومنذ التحاقها، أخذت على عاتقها تربية النشء ورعاية الأسر، وما إن وقعت حادثة المنشية في 26 أكتوبر 1954م، حتى زج بآلاف الشباب المسلم خلف القضبان بدون ذنب إلا أنهم قالوا:
ربنا الله، وذاقوا من العذاب ألواناً في سجون عبد الناصر وتركوا أسرهم، فوقع العبء على الإخوة والأخوات الموجودين بالخارج في رعاية أسر المعتقلين، فتحركت مع أخواتها يتفقدن الأسر التي غاب عائلها؛ ليواسينها ويقمن بكفالتها، كما حافظن على أعمالهن التربوية والدعوية في الخفاء"وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" (8 البروج)،
وقد كونت الأخوات لجاناً لجمع التبرعات، وإنفاقها على أسر الإخوان المعتقلين، لكنها تعرضت مع أخواتها للاستدعاءات من قبل الأمن والمراقبة، وحاول رجال المباحث أن يستفزوهن ليوجهوا لهن ضربة على غير المتوقع، غير أن الأخوات صبرن واحتسبن الأمر لله، وفوّتن عليهم بحنكتهن فرصة الاعتقال المبكر، ولم يكتفين بعمل ذلك، بل نشطن في إقامة المعارض لخدمة لجنة التمويل التي يقمن عليها.
دروس ومواقف في محنتها
ما كاد الإخوان يخرجون من سجون عبدالناصر ليستنشقوا بعض عبير الحرية على خوف ووجل، وما كاد الأطفال يرتمون في أحضان آبائهم ينهلون من حنانهم الذي افتقدوه طيلة عشر سنوات، ما كاد يحدث ذلك حتى حرمهم عبد الناصر بجرة قلم ليس من حنان الأب فحسب، بل من حنان الأم أيضاً، وكأنه قد أبى إلا أن يشارك الأطفال آباءهم وأمهاتهم محنة السجن،
لقد عزّ عليه أن يجد الأبناء ينعمون بدفء حنان الأب والأم فحرمهم من ذلك، كل ذلك خوفاً على كرسيّه، وإرضاء لأعداء الأمة الذين سلمهم البلاد بعد مهزلة 1967م، وظل الحاكم المطيع لهم حتى مات.
"ليت عام 1965م لم يأت"، أمنية كل إنسان ذاق لهيب السياط، ومُزِّق جسده بأنياب الكلاب، وعاش لوعة الفراق، لقد تمنى كل أخ لو لم تكن ولدته أمه لشدة العذاب والوحشية التي لقيها من وحوش ضارية لم تعرف معنى الإنسانية، بل لم تعرف معنى الرأفة، لقد امتلكت قلوباً أشد من الحجارة، بل هي أشد قسوة منها.
لقد كانت محنة 1965م أشد ضراوة على الإخوان من محنة 1954م؛ حيث اعتقل الشيوخ والشباب والنساء والأطفال، لم يُرحم أحد، وتسابق الجلادون في السجن الحربي من رجال الشرطة العسكرية وفي سجن القلعة من المباحث العامة إلى انتزاع المعلومات من المعتقلين بأية وسيلة، حتى لو قتلوا كل المعتقلين، كل ذلك حتى ينالوا الحظوة عند عبدالناصر وأسيادهم من الشيوعيين الروس.
كانت الحاجّة زينب الكاشف إحدى اللواتي ذقن مرارة سجون عبد الناصر
وعن هذه الفترة تحكي وتقول:
- "البداية أنهم جاءوا واعتقلوا أحد الإخوان يوم زفافه، فسارعت أخته صفية المنياوي وراءه إلى القسم كى تعرف أين يذهبون به، فطلبت مني الأخوات أن أذهب لها؛ لأنها تطيعني، فذهبت وكلمتها، ورآني بعض رجال المباحث،
- وفي اليوم التالي ذهبوا للأخت أنعام شاكر وهي على قيد الحياة الآن في منزلها بعد أن أخذوا زوجها واعتقلوها وكانت حاملاً فأخذت تصرخ: "أين يذهب أولادي"؟ قالوا لها: "اتركيهم في الشارع".
- وكانت تقطن بجوارنا، فبعد أن رأيت المباحث تأخذها سارعت لأهلها لأخبرهم بما حدث، وأخبرت أخاها ليذهب وراءها خوفاً أن يكون من أخذها بعض العصابات، لكنه وجدها هناك في القسم، وأثناء ذهابي رآني أحد رجال المباحث،
- وبعد عودتي لبيتي وجدت المباحث تنتظرني في المنزل، فوجدتهم يعبثون في ممتلكاتي، وأخذوا شنطة يدي وفتشوها، ثم قالوا:
- تعالي معنا، فأخذت أمي تبكي، فقال لها: سنأخذ منها كلمتين ثم نرجعها، ثم سألني عن البنت التي كانت في صحبتي. فقلت له: بنت أختي، فقال لي: ليس لك أخوات.
- فقلت له: هذه أختي في الله، فاغتاظ، وقلت: أأحضر ملابسي؟ فوافق، فأدركت أنه اعتقال، ثم اصطحبني لقسم محرم بك، فوجدت هناك الأخت أم وجدي وكانت سيدة كبيرة، كما وجدت الأخت أنعام، والأخت أسماء خليل زوجة الأخ محمود حمدي نفيس، والذي اعتقل في أحداث قنابل عيد الميلاد عام 1947م
- وانتقلنا من القسم وسط حراسة مشددة إلى محطة قطار الإسكندرية حتى وصلنا محطة مصر بالقاهرة، وكانت تنتظرنا عربات السجن، وكانت مرتفعة، فلم تستطع أم وجدي الصعود، فقال لها الضابط: "تريدين قتل عبدالناصر، ولا تستطيعين صعود العربية.. اصعدي...
- اصعدي"، فعرفنا سبب اعتقالنا، ثم وصلنا لوزارة الداخلية، فتقابلنا مع بعض الإخوة، فذهلوا لاعتقال الأخوات، وظللنا في الشمس في حوش الوزارة فترة طويلة حتى رحلنا إلى سجن القناطر الخيرية، فكان سجناً قذراً، وكنا أول من دخله، فلم نجد به أحداً سوى الأخت آمال العشماوي
- زوجة المستشار منير الدلة ، وكانت أول أخت تصل للسجن، فاستقبلتنا خير استقبال وهونت علينا، وكان وقت المغرب فصليت بهن وتلوت قوله تعالى:
- (إن الذين قالوا ربنا الله ثم ستقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون 30 نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون 31 نزلا من غفور رحيم 32) (فصلت)،
- وفي أحد الأيام سمعنا صوت عربات وجلبة، فقالت لي الأخت آمال: ما هذا؟ فقلت وقد غلب علي الطابع الإسكندراني: يبدو أن الرئيس قادم ليزورنا.
- لكننا وجدنا الحاجة نعيمة خطاب زوجة المستشار الهضيبي وابنتها خالدة الهضيبي والحاجة بهية الهضيبي أخت المستشار الهضيبي.
ومن المواقف التي أتذكرها أنني صنعت سريراً للأخت آمال عشماوي فقالت لي: أمي كانت تقول لي: ربنا يجعل لك في كل خطوة حبيب، وأنتِ حبيبتي هنا يا زينب.
- لقد اعتقلت الحاجة زينب في 6 سبتمبر 1965م، وظلت في المعتقل حتى 6 مارس 1966م، وكانت ترافقها أنعام التى ولدت ابنها أحمد داخل السجن، وكان هذا السجن لا يوجد به راحة ولا دواء، فحدث لها شبه شلل، وبالرغم من كون الحاجة زينب أصغر المعتقلات، إلا أنها كانت أنشطهن، كما كانت المسؤولة عن العنبر.
- وتذكر أنه في أحد الأيام شعرت الحاجة نعيمة بالمرض، فأعطتها زينب بعض العسل، فأعجبت به، وفي كل مرة كانت تقول لها: أعطيني بعض الشربات الذي معك يا زينب.
عظة وعبرة
"وفي إحدى المرات وهن واقفات بين يدي الله يصلين سمعن السجانة تنادي بأعلى صوتها: انتباه، فلم يعبأن بذلك، وظللن يصلين، وجاء المأمور يرعد ويزبد،
فظللن في صلاتهن، وبعد أن انتهين قال لهن: ألم تروا أنني جئت؟! فردت عليه الحاجة نعيمة بقولها: كنا نصلي.
فقال: ما دمت قدمت أوقفن الصلاة؟ فردت عليه بقولها: نحن بين يدي الله، ولا نترك الوقوف بين يدي الله لأجل أحد، فاستشاط غضباً وتوعدهن، فدعون عليه فما كاد يصل مكتبه إلا وقد ابتلاه الله بالشلل.
ومن المواقف أيضاً: أن السجانات كن يغنين طوال الليل أغانٍ هابطة من باب استفزاز المعتقلات، فنادت عليهن زينب وقالت:
لا تغنين حتى نستطيع أن ننام، فقلن: هذه أوامر حتى لا ننام، فقالت لهن: سنقرأ عليكن سورة يس، فلم يستجبن، فدعون عليهن،فأصابهن الله بالنعاس، فجاء المأمور في الصباح فوجد السجانات نائمات، فخصم لكل واحدة منهن خمسة أيام، فقلن لزينب: لا تدعون علينا مرة أخرى؛ فقد خصم لنا المأمور".
حضرت الحاجة زينب شهر رمضان والعيد داخل المعتقل، وكان الإفطار فولاً ممتلئاً بالسوس والدود، وكان الخبز ممزوجاً بالحصى، وقد قضين فترة الستة أشهر في فصل الشتاء؛ حيث البرد القارص، كما كان موقع السجن على النيل، مما زاد من برودة السجن، وقد تعذر الاستحمام، فخرجت وعندها مرض الجرب الجلدي والضغط.
كان الشعور بمعية الله يملأ وجدانهن، ومن فضل الله أن ساق لهن بعض البحارة الذين يقومون بالصيد في النيل، فقذفوا لهن بلحاً وعدساً وأرزاً دون أن يراهم أحد، فكان رزقاً طيباً من الله.
ومن المواقف الطريفة التي حدثت لها: أنها كانت تخاف من الصراصير، فكانت تظل مستيقظة حتى الفجر خوفاً منها، ثم تنام في الصباح، وفي أحد الأيام شكت للحاجة نعيمة أن الفأر يقف وينظر إليها ولا يتحرك، فقالت لها: كيف يغادر والبيت بيته ونحن ضيوف عليه؟!
وصلت بها الشجاعة ذات يوم أنها قتلت عقرباً كانت تقف فوق رأس إحدى الأخوات وهي نائمة، كما قتلت ثعباناً خرج من شق في الحائط.
وفي يوم من أيام السجن كانت الحاجة أم وجدي مريضة جدّاً فجاء الطبيب وأخذ بيده مشرطاً فشرط رجلها وهي لا تتحرك، فقالت له الأخت أسماء خليل: أتقطع فيها وهي مشلولة؟
فعنّفها وقال لها: اخرجي، فدعت عليه أن يشله الله، وفي اليوم الثاني جاءت الطبيبة إيدا وكانت طبيبة السجن وكانت نصرانية وقالت:
لقد نقل الطبيب بالأمس للمستشفى مشلولاً، فكان مسوؤل السجن يقول: "لا تدعون عليّ أنا "عبد المأمور"، أعرف أنكن مظلومات، لكنني لو تهاونت معكن قليلاً سأقلع بزتي تلك، وفي اليوم التالي سأكون في سجن الرجال جنبكن".
وذات يوم دعيت للتحقيق فقال لها المحقق:
- "ألا يعجبكن عبدالناصر.. رضيتم أم أبيتم عبد الناصر موجود. فردت عليه: وربنا موجود أقوى من عبد الناصر".
وتنفس الصباح وعم البشر
لاحت في الأفق بشائر الإفراجات؛ ففي 6 مارس 1966م خرجت زينب الكاشف، وعادت لمديرية أمن الإسكندرية بالطريقة نفسها التي ذهبت بها عن طريق القطار والحراسة المشددة، خرجت وهي أقوى إيماناً، وتمسكاً بكتاب الله.
- أفديك بدمي وما ملكت فِي دنيتي
أنت دليلي ورمز مجدي وعزتي
- وأحفظ عهودك عمري ما أنسى بيعتي
وبعد وصولها لقسم محرم بك قال لها المأمور: لا نريد أن يعرف أحد أنك اعتقلت.
فقالت له: "يعني لما إخوتي يسألونني: كنت فين؟ أقول لهم: كنت أتفسح في مصر.
فصرخ وقال: أنا مش قلت إخوتك، أنا أقول الناس اللي يزوركِ، فردت عليه: الناس كلها عارفة".
ومرت الأيام وانقضت الليالي، ومات عبد الناصر وخرج الإخوان من المعتقلات، وعوّضها الله بالزوج الصالح؛ فقد رزقها الله بالزواج من الأستاذ سعد سرور كامل وهو من مواليد السويس عام 1926م، التحق بدعوة الإخوان، وعمل في شركة بترول السويس، اعتقل عام 1954م، وظل في المعتقل سبعة عشر عاماً،
توفيت زوجته الأولى بعد اعتقاله بثلاث سنوات، وتركت له ابنتين: فاطمة ومنى، ختم حياته بالعمل في مصنع بلاستيك الشريف، توفي عام 1993م إثر حادث سيارة، وشيعته جموع الإخوان، وعلى رأسهم الأستاذ مصطفى مشهور يرحمه الله نائب المرشد العام للإخوان المسلمين وقتها.
وتحكي قصة زواجها فتقول: "كان هناك أخ محام من القاهرة يبحث عن عروس، وقابل الأخ محمود من الإسكندرية، وسأله فأجابه:
عندي عروس، لكنها كانت معتقلة، فرحب الأخ جدّاً، فأرسل له الأخ محمود صورتي، لكن الأخ المحامى حدث له انزلاق غضروفي ورقد في السرير لفترة طويلة، وأثناء مرضه زاره الحاج سعد سرور، وسأله المحامى لماذا لا تتزوج؟ فقال سرور: لم أجد العروس التى تقبل ظروفي، فقال له:
هناك أخت من الإسكندرية وكانت معتقلة، وأعتقد أنها ستوافق على ظروفك، وأعطاه الصورة، وعرف منه أنها كانت له.
فقال له: "وأنت؟ قال له: أنا تعبان وبعدين يا عم "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)"(الحشر)، فأخذ سعد الصورة وذهب إلى الإسكندرية وقابلها وطلبها من أهلها، وفي البداية كانت هناك اعتراضات كبيرة عليه من أهلها، لكنها وافقت وألحّت عليهم إلى أن وافقوا، وانتقلت الحاجة زينب إلى القاهرة للمعيشة مع زوجها.
عاشت مع زوجها، تحمل معه عبء الدعوة، وتقوم بدورها وسط الأخوات بمصر الجديدة دون كلل أو ملل، وبالرغم من تكالب الأمراض عليها، إلا أن دعوتها ظلت شغلها الشاغل وبالرغم من كونها لم تنجب، إلا أنها شعرت أن أبناء الإخوان أبناؤها.
في أحد الأيام كان زفاف أحد الإخوان فحضرت مع زوجها، غير أن الأمن منع حفل الزفاف في المسجد؛ لأن المسجد كان بجواره كنيسة، وكان الأستاذ مصطفى مشهور يرحمه الله حاضراً هذا الحفل فقال للضابط: ممكن نعمل الفرح في الكنيسة، فتراجع الضابط وسمح لهم بعمل الزفاف في المسجد.
كانت نعم الزوجة الصابرة التي تحملت كثيراً؛ ففي عام 1993م كانت على موعد مع حادث حزين وفراق أليم، ألا وهو حادث فراق زوجها الذي حرمت منه في حادث سيارة..
وعن هذا الحادث تحكي وكأنها تبكي دماً بدلاً من الدموع، وتأخذها نوبات القلب بسبب ما تتذكره عن هذا الحادث الأليم فتقول:
- "لقد أخبرها ذات يوم برؤيا رآها قبل استشهاده، وهي أن أباه وأمه وكانا متوفيين يدعوانه إلى الطعام معهما، فقلت له: خيراً إن شاء الله، وكان من عادتنا أن نأتي بمتطلبات الشهر من الطعام مرة واحدة، فكنا على موعد للخروج من أجل ذلك، وكنت وقتها أعد الطعام، فقال لي:
- إذاً أخرج لآتي الجريدة حتى تنهي عملك وكان مراقباً من قبل أمن الدولة وعندما خرج تأخر في العودة فقلقت عليه، وبعد وقت جاء من أخبرني أن سيارة صدمت زوجي ونقل إلى مستشفى هليوبوليس، فسارعت بالاتصال بالحاج محمد عليوة وزوجته وأخبرتهم بما حدث لسعد، فسارعا وجاءا وأخذاني إلى المستشفى، فوجدته ينزف من رأسه، فنقلته إلى مكان آخر لعمل أشعة مقطعية.
- واتصلت بالإخوان، ثم عدت به للمستشفى مرة أخرى حيث وجدت الطبيب عبدالقادر هناك، وبعدها بقليل أخبرني أن سعداً فارق الحياة، لم أحتمل هذه اللحظات التي مرت عليّ كدهر، ومن المسجد تحركت جموع الإخوان في مظاهرة عظيمة لتشييع جثمان الشهيد، ودفن في مدينة نصر بالقاهرة.. وعشت صابرة على فراقه، محتسبة الأمر عند الله على أمل اللقاء معه في جنة الخلد".
- بعد الفراق شعرت بالوحشة والغربة والحنين للزوج الكريم، غير أنها لم تنس دعوتها ولا نصائحها للأخوات، والتي كانت دائماً تؤكد معنى الاستعانة بالله في كل الأحوال، وتوثيق عرى الأخوة، وعدم ترك أسر الإخوان المعتقلين.
- هكذا كانت تربية حسن البنا والغرس الذي غرسه، فآتى ثماراً صالحة، ووروداً يفوح عبيرها، ليملأ الدنيا برائحته الزكية.
وفاتها
رحلت الحاجّة زينب الكاشف زوجة الزجَّال سعد سرور، و أصغر معتقلة في سجون عبد الناصر عام 2012م
الهوامش
- (1) حوار أجراه الأستاذ عبده مصطفى دسوقي مع الحاجة زينب الكاشف.
- (2 ،3) بحث وحوارات قامت بها الأستاذة هويدا خليل منصور مع الحاجة زينب الكاشف.
- (4) زجل للأستاذ سعد سرور: كتاب خواطر مسجون، الجزء الأول، دار الدعوة، الطبعة الثانية.
المصدر : مجلة المجتمع
ألبوم صور
إقرأ أيضا