الإخوان المسلمين وتهمة مقتل أحمد ماهر باشا
بين الحين والآخر تثار التهم حول جماعة الإخوان سواء ارتكبها الإخوان أو لم يرتكبوها فقد أصبح التيار صاحب الصوت العالي سواء في القنوات الحكومية الرسمية أو الفضائيات يزايد على ذلك محاولا إلصاق التهم بها، ومن هذه التهم تهمة مقتل أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء السعدي والذي اغتيل يوم 24 فبراير 1945م، بالرغم من أن الأستاذ عبدالرحمن الرافعي –المؤرخ المصري الكبير- والأستاذ فتحي رضوان اعترفا أن محمود العيسوي من الحزب الوطني إلا أن البعض يحاول إلصاق التهمة بالإخوان بغير وجه حق.
وفي هذه السطور نتعرف على حقيقة هذه التهمة.
فقد كتب حسين حسنين عضو اتحاد كتاب مصر بحثا جاء فيه:
أحمد محمد ماهر ولد فى حى العباسية بمدينة القاهرة فى 30 مايو عام 1888م. والده محمد ماهر باشا وكيل وزارة الحربية ومحافظ القاهرة ومن أعيان شراكسة مصر. التحق أحمد ماهر بمدرسة الحسينية الابتدائية ، ثم بمدرسة الناصرية وحصل منها على شهادة اتمام الدراسة الابتدائية عام 1902 . وعندما توفى والده فى عام 1903 قام عمه عبد الرحمن فهمي بك بالإشراف على استكمال تعليمه، فحصل على شهادة إتمام دراسته الثانوية بالمدرسة الخديوية عام 1905 . والتحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق الخديوية وحصل منها على إجازة الحقوق عام 1908 . بعد تخرجه انتظم فى عمل المحاماة ، وافتتح له مكتبا للمحاماة بمدينة الفيوم وكان زميله بالمكتب على كمال حبيشه .
لكن أحمد ماهر لم يمكث بالمحاماة سوى فترة التمرين ثم أوفدته وزارة المعارف المصرية عام 1910 إلى فرنسا فى بعثة نظرا لتفوقه فى دراسة الحقوق ، واستمر بفرنسا حتى عام 1913 عندما حصل على درجة الدكتوراه فى الاقتصاد السياسى ، ثم عاد إلى القاهرة وعين مدرسا للاقتصاد بكلية التجارة . يذكر أنه خلال وجوده بفرنسا وطد علاقته بالزعيم سعد زغلول.
فى تلك المرحلة شهدت مصر تحركات واسعة النطاق من قبل الجمعيات الصهيونية التى توالى إنشائها بتصريح من الحكومة الإنجليزية وبدعم وحماية المعتمد البريطانى فى مصر ، وقد بلغ عددها فى أوائل عام 1917 نحو 14 جمعية أغلب أعضائها من اليهود الأشكناز القادمين من أوربا تحت حماية بريطانيا وفرنسا وكانت منتشرة فى مدن مصر(القاهرة، الإسكندرية ، المنصورة، دمياط ، بورسعيد، الشرقية وغيرها) . وفى نفس العام (1917) خرجت أول مسيرة يهودية فى مصر تحت حماية قوات الإحتلال البريطانى وبمساندة المعتمد البريطانى، وقد بلغ تعدادها نحو ثلاثة آلاف يهودى مقيمين فى مصر تحية لوعد بلفور ، وكانت تلك أول مظاهرة غير مصرية تجوب شوارع مصر مما أوجد نوع من القلق والإضطراب داخل الحركات الوطنية المصرية.
وفى عام 1918 قام حاييم وايزمان بزيارة القاهرة على رأس بعثة صهيونية كانت مسافرة إلى فلسطين بدعوة من المعتمد البريطانى فى مصر . كل ذلك دفع الحركات الوطنية إلى سرعة اتخاذ خطوات متسارعة للاستقلال عن بريطانيا والتخلص من الإحتلال البريطاني ، وقد ساهم ذلك التوتر بشكل كبير فى المطالبة بالإستقلال عن إنجلترا.
مع بدايات عام 1918 بدأت مطالب الخمسة (سعد زغلول، عبد العزيز فهمي، علي شعراوى، محمد محمود، أحمد لطفى السيد) بالاستقلال التام لمصر ، وقد ارتكزت مطالبهم على ما أعلنه الرئيس الأمريكى ويلسون فى حق تقرير مصير الشعوب . وفى نوفمبر عام 1918 تم تشكيل الوفد المصرى من أولئك الخمسة وعدد آخر ممن آمنوا بضرورة الاستقلال وتحرير مصر وفرض سيادتها على جميع أراضيها . لكن بعد نفى كل من سعد زغلول ومحمد محمود وإسماعيل صدقي وحمد الباسل إلى مالطة اجتاحت البلاد ثورة عنيفة فى كل أرجائها وذلك فى أوائل عام 1919.
ولما قامت ثورة 1919 ومنع سعد زغلول ورفاقه من السفر الى أوربا للمطالبة بإستقلال مصر، قام عبدالرحمن فهمي الذى تولى سكرتارية الوفد تنظيم العمل الوطنى وتعاون معه أحمد ماهر وعدد من شبان جيله منهم محمود فهمى النقراشي بتشكيل لجان الموظفين وقرروا الإضراب العام . هذا بالاضافة إلى الخطابة فى الأندية ودور العبادة لإذكاء الروح الوطنية لدى العامة خاصة بعد نفى سعد زغلول ورفاقه إلى جزيرة مالطه . لكن العمل الوطنى الذى قام به أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشي جعل سلطات الاحتلال الانجليزي تضع ماهر على قوائم المشتبه فيهم وهو ما حدث بالفعل عام 1922 حين تم القبض على الشاب أحمد ماهر وآخرين فى قضية اغتيال حسن باشا عبد الرازق وإسماعيل زهدي بك ، لكن تم الافراج عن أحمد ماهر لعدم كفاية الأدلة .
عندما أطلق سراح سعد زغلول وعاد إلى مصر ومعه رفاقه قرر سعد باشا ضم أحمد ماهر والنقراشى إلى مجموعته . وحينما بدأت الانتخابات البرلمانية فى عام 1923 انتخب أحمد ماهر عضوا بمجلس النواب عن دائرة الدرب الاحمر ، كما انتخب النقراشى عضوا عن دائرة الجمرك . وفى مجلس النواب اختير أحمد ماهر مقررا للجنة المالية وسكرتيرا برلمانيا ، كما عهد إليه رئيس مجلس النواب أحمد مظلوم باشا بإدارة شئون المجلس الإدارية تقديرا منه لكفايته وشجاعته. وفى عام 1924 استصدر سعد زغلول باشا مرسوما بتنصيب أحمد ماهر وزيرا للمعارف بدلا من محمد سعيد باشا، وكان ماهر فى السادسة والثلاثين ، لكن زملائه ثاروا على تنصيبه وزيرا ، ومع ذلك أصر سعد زغلول على رأيه . كما قام سعد باشا بتنصيب النقراشى وكيلا لوزارة الداخلية.
فى يونيو عام 1925 ألقى القبض على النقراشى وأحمد ماهر بعد مقتل السردار الانجليزى لى ستاك ، واستقال سعد زغلول وقدم الجميع للمحاكمة فى قضية الاغتيالات السياسية وظل أحمد ماهر والنقراشى بالسجن قرابة عام كامل . يذكر أن سعد زغلول باشا كان يراقب المحاكمة وينظم الدفاع عنهما وعن غيرهما حتى قضى ببراءتهما فى 25 مايو عام 1926، واستقبلهما سعد زغلول بحرارة بالغة . فى نفس العام(1926) أعيد انتخاب أحمد ماهر عن دائرة الدرب الاحمر ، وفى ذلك المجلس النيابى ناقش ماهر سلطات الأزهر بمناسبة عرض ميزانية الأزهر ( وكان له موقف حازم مما أثار غضب التيارات الإسلامية عليه، وعرف بعد ذلك بأنه معاد للإصولية.
ومرة ثانية أعيدت الحياة النيانية فى ظل دستور 1923 وأقيمت الانتخابات البرلمانية عام 1936 وإنتخب أحمد ماهر عن دائرته بالتزكية ، ثم انتخب رئيسا لمجلس النواب بالإجماع . فى نفس العام(1936) اختير عضوا فى المفاوضات التى عقدت فى لندن بين مصر وبريطانيا وتم التوصل الى معاهدة شرف الاستقلال ، وقد أعلن ماهر فى مجلس النواب أن ما وصلوا اليه فى لندن هو خطوة فى طريق الاستقلال يجب البناء عليها والالتفاف حولها.
فى عام 1937 سافر إلى مؤتمر مونتريه للبحث فى الامتيازات الأجنبية التى كانت مفروضة على مصر والاتفاق على إلغائها وإلغاء نظام المحاكم المختلطة، وقد تم التوصل إلى إلغاء الامتيازات وتقصير أمد المحاكم المختلطة (التى ألغيت بعد ذلك فى عام 1949). وبعد إلغاء الامتيازات فى عام 1937 أخذ يدعو إلى السياسة القومية وتأليف الجهود بين الجبهات المختلفة ، لكن فى أغسطس عام 1937 حدث خلاف حاد بين النقراشى باشا والنحاس باشا حول أسس الحكم وأصوله، وهنا قرر الوفد برئاسة النحاس فصل النقراشى ، لكن أحمد ماهر وقف بجانب النقراشى وتصدى لقرار النحاس باشا مما أدى بالنهاية إلى فصل أحمد ماهر أيضا. ومع تصاعد الخلافات داخل النظام وقع خلاف قوى بين وزارة النحاس باشا والقصر الملكى فى نفس العام(1937) ، على أثره أقيلت وزارة النحاس. وهكذا اشتد الخلاف بين النحاس باشا من جهة وبين أحمد ماهر والنقراشى من جهة أخرى وانتهى الامر بتكوين حزب جديد برئاسة أحمد ماهر ووكالة النقراشى أطلق عليه اسم (الهيئة السعدية). وفى أوائل أكتوبر سنة 1937 اشتد الخصام بين طلبة جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) على المسائل الحزبية حيث عملت الأحزاب على خلق كوادر لها من طلبة الجامعة مما أضر بالإخاء الجامعى ، وهنا طلب مدير الجامعة أحمد لطفي السيد من وزارة الداخلية تعيين كونستبلات لحفظ النظام ولكن من خارج أسوار الجامعة لأنه لم يسمح للبوليس بدخول الجامعة فى ذلك الوقت حفاظا على استقلاليتها، لكن وزارة الداخلية لم تجب لطلب أحمد لطفي السيد ، فقدم استقالته خاصة بعد اشتداد الخصام بين الطلبة الحزبيين.
وفى عام 1938 أجريت الانتخابات البرلمانية فنزلت الهيئة السعدية الانتخابات واستطاعت أن تفوز بمقاعد كثيرة بقيادة أحمد ماهر والنقراشى ، وعليه تولى أحمد ماهر زعامة المعارضة بمجلس النواب الجديد ، ثم اشتركت الهيئة السعدية فى الحكم وتولى أحمد ماهر وزارة المالية فى حكومة محمد محمود باشا فى يوليو عام 1938 -1939.
فى عام 1940 أعيد انتخاب أحمد ماهر رئيسا لمجلس النواب وظل فى رئاسته حتى فبراير عام 1942 عندما أجبرت سلطات الاحتلال الانجليزى الملك فاروق على تنصيب مصطفي النحاس رئيسا للوزراء بإعتباره زعيما للأغلبية حتى يمكن تهدئة البلاد أثناء خوض الإنجليز المعارك الحربية فى الحرب العالمية الثانية ضد الألمان فى شمال أفريقيا.(يذكر فى هذا الخصوص ان أحمد ماهر قال لـمصطفي النحاس : لقد جئت لرئاسة الوزارة على أسنة الحراب الانجليزية) ، وتلك كانت عبارة شديدة القسوة على الوفديين فى ذلك الوقت.
وعليه اشتدت حملة أحمد ماهر وحزبه على مصطفي النحاس باشا أثناء توليه الحكم وتحديدا فيم يخص التدخل الاجنبى فى نظام الحكم بمصر وعلى حملة الاعتقالات التى قامت بها الحكومة الوفدية خاصة عندما تم اعتقال شقيقه على ماهر باشا وعدد من السياسيين تحت بند تكدير السلم الاهلى ، وهو ما أثير علامات استفهام كثيرة حول حكومة الوفد.
وفى 8 أكتوبر عام 1944 أقيلت وزارة مصطفي النحاس وعهد بالوزارة الى أحمد ماهر الذى ألفها من حزبه وحزب الاحرار الدستوريين وحزب الكتلة الوفدية بزعامة مكرم عبيد باشا الذى انشق عن حزب الوفد وحافظ رمضان باشا عن الحزب الوطني ، وقد أطلق على تلك الوزارة " بالحكومة الائتلافية" ، وكان هدفها خلق جو عام من التسامح والبحث عن المكاسب لمصر من الطرف المنتصر فى الحرب العالمية التى بدت واضحة فى صالح الانجليز . وافتتحت الدورة البرلمانية فى 18 يناير عام 1945 وكان أحمد ماهر رئيسا للحكومة ( يذكر فى هذا الصدد أن أحمد ماهر كان مؤيدا للحلفاء عام 1940 على الرغم من أن بقية الأحزاب الأخرى وعلى رأسها حزب الوفد كانت تؤيد الجانب الألمانى نكاية فى الانجليز ) . بعد انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء جاء وزير خارجية بريطانيا أنطونى إيدن إلى مصر والتقى بأحمد ماهر وعقد مباحثات مطولة معه ، خرج بعدها أحمد ماهر ليعلن رسميا انضمام مصر للحلفاء وإعلان الحرب على دول المحور ("ألمانيا وإيطاليا واليابان) رسميا .
وفى 24 فبراير 1945 عقد البرلمان المصرى جلسته الشهيرة لتقرير إعلان الحرب على المحور والوقوف بجانب الحلفاء وانضمام مصر للأمم المتحدة ، ومع ارتفاع حدة المعارضة بين مؤيد للمحور ومساند للحلفاء اضطر أحمد ماهر إلى عقد جلسة سرية مع مجلس النواب شرح لهم فيها المكاسب التى ستحصل عليها مصر فى حال الإعلان الرسمى للحرب ضد المحور ودعم الحلفاء . وأخيرا اقتنع مجلس النواب بما أوضحه أحمد ماهر لهم من بيانات وحجج وأسانيد ، واستطاع أن يحصل على تأييد شبه جماعى لإعلان الحرب على المحور. وبعد الحصول على الموافقة الرسمية للبرلمان قرر ماهر التوجه مباشرة إلى مجلس الشيوخ لطرح حجته عليهم (يذكر أن المسافة بين البرلمان ومجلس الشيوخ قريبة جدا) ، وبينما هو فى طريقه إلى البهو الفرعونى بمبنى مجلس النواب متجها إلى مجلس الشيوخ فاجأه محام شاب يدعى محمود العيسوي أطلق عليه أربع رصاصات صوبها إلى قلبه وصدره أردت أحمد ماهر قتيلا فى الحال .
يبقى السؤال حتى الآن: من هو القاتل ؟
- تشير بعض التقارير إلى أن القاتل حسب الأوراق الرسمية كان ينتمى إلى الحزب الوطني ، وقبل ذلك إلى حزب مصر الفتاة ، وكان يؤمن بالتحالف مع ألمانيا وإيطاليا واليابان وذلك لمجرد النكاية ببريطانيا وأمريكا.
- ويؤكد هذه المعلومات الأستاذ محسن محمد في كتابه "من قتل حسن البنا" ص78 الذي نقل عن عبد العزيز علي - من قادة النضال السرى الحزب الوطني - إن محمود العيسوى من شباب الحزب الوطني.
- ولقد ظن الجميع في البداية أن محمود العيسوي أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ولذلك تم القبض على الإمام حسن البنا في تلك الحادثة، ثم أفرج عنه بعد اعتراف محمود العيسوي بأنه ارتكب الجريمة منفردًا، وتبين للنيابة أنه من شباب الحزب الوطني، ولقد قام بالدفاع عنه الأستاذ فتحي رضوان –زعيم الحزب الوطني الجديد- والذي اعترف أن محمود العيسوي أحد أعضاء الحزب الوطني وهو محام متدرب في مكتب الأستاذ عبد الرحمن الرافعي، الذي اندفع يلوم الوفديين ويلقي اللوم والمسؤولية عليهم واتهمهم بإثارة النفوس علي أحمد ماهر، إذ أوعزوا للناس أنه يسعي للزج بالبلاد في أتون الحرب وإرسال المصريين للخارج ليحاربوا في ميادين القتال البعيدة.