حتى لا ننسى شهداء ديسمبر 1954م
بقلم:أ. عبد العزيز كحيل
مقدمة
في أيام بائسات كئيبات من أوائل ديسمبر 1954م لقي اللهَ تعالى على حبال المشانق ستةٌ من الإخوان المسلمين ؛ منهم أربعة من قيادات الجماعة بعد محاكمة شكلية هي أقرب إلى المسرحية الهزلية سيئة الإخراج والتمثيل؛ لولا أن ضحاياها من خيرة أبناء مصر.. ذهبوا بقرار سياسي مغلف- كعادة الأنظمة المستبدة الجبانة- بأحكام قضائية هي من النوادر في تاريخ العدالة.
وقد بدأت القضية بحادثة المنشية الشهيرة كذريعةٍ لكسر عظام الجماعة التي التفت حولها الجماهير، ووقفت من خلال مرشدها كالطود الأشمّ في وجه الطاغية المستبدّ الذي بدأت نيته في الحكم الفردي الشمولي تلوح في الأفق ويلمسها الناس في الواقع؛ فأراد المتعطِّش للانفراد بالسلطة أن يبنيَ لنفسه مجدًا على جماجم الدعاة المصلحين، فكانت الاعتقالات بالألوف والتعذيب الذي يشيب لذكره الصغار ثم المحاكمة التي أتمنَّى أن يرجع إلى أرشيفها بعض الطلبة النابهين المنصفين ليعدُّوا حولها رسائل جامعية، فإنهم سيجدون فيها العجب العجاب الذي يستحق التسجيل حتى تكون شاهد إدانة للنظام الديكتاتوري، وحتى لا يقع مثلها في يومٍ من الأيام.
وفي أواخر نوفمبر 1954م أصدرت محكمة الثورة- كما كانت تسمَّى- أحكامًا بالإعدام على عددٍ كبيرٍ من قيادات الجماعة؛ على رأسهم فضيلة المرشد العام حسن الهضيبي، وبدِّل إلى الأشغال الشاقة مدى الحياة "لتقدُّمه في السن"، وفي تلك الأيام الباردة الحزينة من الشهر التالي قِيدَ إلى المشنقة محمود عبد اللطيف المتهم بإطلاق النار في المنشية وهنداوي دوير المتهم بالإيعاز له بذلك، وإضافةً إلى الاثنين نُفِّذ الشنق في أربعة من الوجوه البارزة في مكتب الإرشاد والقيادة والعمل الدعوي؛ هم الشهداء: عبد القادر عودة، محمد فرغلي، يوسف طلعت، إبراهيم الطيب؛ رحمهم الله جميعًا، ومن واجب أبناء الحركة الإسلامية أن يعرفوا شيئًا عن هؤلاء الأبطال المظلومين:
عبد القادر عودة
قاضٍ مُقرَّب من المرشدين الأولين، ومن كبار قادة الجماعة، صاحب شخصية قوية وعلم غزير وأخلاق رفيعة، نُفِّذ فيه الحكم بتهمةٍ لم يُعرَض أمام المحكمة الآثمة نصف دليل عليها، فكان آخر كلامه قبل موته كما نقله بعض الحضور "اللهم إني أموت مظلومًا فاجعل دمي لعنةً على رجال الثورة"، واستجاب الله دعاءه فلم يَنْجُ منهم أحد من العقاب الدنيوي في شكل أمراض مستعصية وموت فظيع في حادث سير تناثرت فيه أشلاؤه وهلك بالسكتة القلبية بعد تجرع غصص هزيمة يونيو 1967 لثلاث سنوات... ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ (إبراهيم: من الآية 42).
اقترن اسم القاضي الشهيد بكتابه الفذ "التشريع الجنائي الإسلامي"، الذي تدرِّسه كليات الحقوق في كبرى الجامعات في العالم، وحين استشهد- رحمه الله- ترك طفلاً صغيرًا شاءت الأقدار أن يُقاد هو الآخر إلى المعتقل بتهمةٍ مفتعلةٍ بعد أن نَيَّف على الستين من عمره وهو من كبار علماء الجيولوجيا في العالم.. إنه خالد عودة الذي اقترف نفس جُرم أبيه: الالتزام بالإسلام وصحبة الإخوان، والاستبداد ملة واحدة.
لقي القاضي الشهيد ربه وله 48 سنة من العمر، وترك ذِكرًا طيبًا باعتباره فقيهًا دستوريًّا وأستاذًا جامعيًّا مرموقًا وداعيةً إلى الله وكاتبًا متميزًا ترك من المؤلفات- بالإضافة إلى التشريع الجنائي:
محمد فرغلي
هو عالم أزهري وخطيب مُفوَّه، ترعرع مع دعوة الإخوان وقاد كتائبهم إلى الجهاد في فلسطين، وكان له في معارك القتال ضد الإنجليز حضور قوي، هدى الله تعالى على يديه خلقًا لا يُحصَون من العُمَّال والفلاحين والطلبة، خاصةً في الإسماعيلية؛
وذلك بفضل إخلاصه ورسوخه في الوعظ، وقد حاول قائد الانقلاب العسكري في 1952 استمالته فأومأ إليه بتوليته مشيخة الأزهر، لكن الشيخ لم يلتفت إلى ذلك وبقي ثابتًا مع قيادة الجماعة لا يتزحزح رغم الإغراء والوعيد، فكان جزاؤه الإعدام على جرمٍ لم يقترفه بل لم يَقُمْ أدنى دليل على تورطه فيه بأي شكل.
سار- رحمه الله- إلى المشنقة مبتسمًا يقول: "إنني لَمستعدٌّ للموت، فمرحبًا بلقاء الله".
مات الرجل العالم الزاهد المجاهد وعمره 47 عامًا.
يوسف طلعت
عاش في كنف الإخوان منذ أن عرف الإمام الشهيد حسن البنا في شبابه الأول ونذر حياته للدعوة الإسلامية، وشارك في الجهاد في فلسطين، وكان مصيره بسبب ذلك أن اعتقل كما حدث لغيره من المجاهدين إثر عودتهم إلى مصر، وتتدرَّج في المسئولية داخل الجماعة وترأَّس النظام الخاص لاشتماله على خصائص القيادة من حنكةٍ وجرأةٍ وهدوءِ أعصابٍ وصبرٍ وطولِ نفسٍ.
وعندما انقلب الحكام العسكريون على الجماعة في 1954م اعتُقل يوسف وعُذِّب عذابًا شديدًا فأصيب بكسور في العمود الفقري والذراع والجمجمة، وأراد رئيس المحكمة الآثمة أن يسخر منه فقال "كيف تكون رئيس جهاز فيه أساتذة جامعة وأنت نجار؟!" فرد عليه في إباء "لقد كان نوح عليه السلام نجارًا وهو نبي" فأفحمه.
تَروي والدته لقاءها الأخير به في السجن فتقول إنه كان فرحًا مسرورًا، وقال لها "يا أمي.. شهادة نلتُها وقد لبثتُ طول عمري أتمناها"، وذكروا أنه قال قبيل شنقه: "اليوم ألقى الله وهو راضٍ عني، اللهم اهْدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون"، ومضى إلى ربه وله من العمر 40 عامًا.
إبراهيم الطيب
كان رجلاً متعلمًا تقيًّا ذكيًّا، تعرَّف على الجماعة وهو شاب ولازمها، وتخرَّج في كلية الحقوق واشتغل محاميًا، ولم يفارق الإمام الشهيد منذ عرفه، بل لازمه ملازمة شديدة؛ لحبِّه له وإعجابه به، ووصل إلى مركز المسئولية في النظام الخاص وترأَّس شعبة القاهرة.
شارك في حرب فلسطين بالتعبئة وجمع السلاح، واعتُقل مع باقي المجاهدين بعد عودتهم.
وكانت فاجعة أكتوبر 1954م فنال نصيبه من التعذيب الشديد في السجن الحربي، وحوكم كغيره وصدر في حقه الإعدام، وقبل التنفيذ دار بينه وبين أهله كلام يدل على إيمانه الراسخ وثقته في الله وذكر ابتلاء الأنبياء ومقتل الحسين رضي الله عنه، وقال: "كانت الشهادة في سبيل الله أسمى أمانينا، وهذه هي قد نلناها، فلا تحزنوا فإننا لمسرورون، ولسوف يُريكم الله آياته"، وكان آخر ما قاله عند المشنقة: "أحكام أصدرها قضاة من مخالفينا، فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.. ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ (الأنبياء: من الآية 47)، وكان آخر ما قالته أمه الثكلى: "إلهي.. عليك بالظالم فاقسمه، وخذه فلا تفلته".مات رحمه الله وهو في الـ32 من عمره.
يحكي روبرت ميتشل صاحب الكتاب الشهير عن الإخوان- وكان بالقاهرة حينذاك- أن دبابات الجيش ومدرعاته طوَّقت المدينة أيام الإعدامات، وساد جوٌّ من الحزن والكآبة، كما قامت مظاهرات مندِّدة في سوريا والأردن وباكستان.
هكذا قتل هؤلاء الأبطال ظلمًا وعدوانًا، لقد كانت إدانتهم سياسيةً لا قضائيةً، وحتى لو افترضنا أن حادث المنشية من تدبير وتنفيذ هنداوي ومحمود، فما ذنب الجماعة ولم يَقُمْ دليلٌ واحدٌ على تورُّط قيادتها فيها؟! لكنه الاستبداد والظلم والطغيان، فرحمهم الله رحمة واسعة وأجزل لهم المثوبة... ﴿قُلْ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (الزمر: 46).
- المصدر:حتى لا ننسى شهداء ديسمبر 1954م ،إخوان أون لاين