عبد الله التل
أ. أشرف عيد
إعداد: ويكيبيديا الإخوان المسلمين
مقدمة
إننا كثيرا ما نجد شخصيات في مناصب أو في مصلحة من المصالح تحجم عن تنفيذ ما تحت أيديهم من أعمال بحجة أنه لا توجد لديه أوامر من رؤسائهم لتنفيذ الأعمال كما هو مشهور باللهجة العامية العراقية (ماكو أوامر) أو باللهجة العامية المصرية (مفيش أوامر) وينتظرالأمر الذي قد يتأخر، أو لا يصدر أصلا؛
ومن ناحية أخرى قد ينفذ سياسة رؤسائه ، وإن كانت خطأ بيّنا ، ويعرف تمام المعرفة أن ما يصنعه خطأ يخالف المصلحة العامة والواجب الذي يقتضيه عمله أو الدين في كثير من الأحيان ،لكنه يفعل ذلك وإن سألته عن الصواب فيما فعل يقر بأنه خطأ ، وعندما تقول له لما فعلت الخطأ ؟
يقول : أنفذ أمر رؤسائي ،أو بالعامية المصرية (أنا عبد المأمور) ،وكأنه بذلك يعفى نفسه من اللوم والمسئولية التي قبل أن يحاسب عليها في الآخرة ،فإنه يحاسب عنها في الدنيا .والأخطر في تطبيق هذا السلوك فيمن يتولون مناصب حساسة تؤثر فيها مثل هذه التصرفات على الدولة ، وقد تمتد إلى الأمة بأسرها ،و تظل عالقة بذاكرة التاريخ لا تمحى.
ولعل بطلنا عبد الله التل قد حطم تلك المقولة ، وتمرد على تلك التصرفات ، وقام بما يمليه عليه واجبه بالرغم من العواصف التي أحاطت به من رؤسائه،ولم ينتظر الأوامر لكي يبدأ العمل ،ولم ينفذ ما يراه خطأ ، بالرغم من أن الأوامر العسكرية واجبة التنفيذ ،لكن ذلك لا يتاح إلا لبطل صنعته الأقدار ليصحح ما اعوج ، وينقذ ما يمكن إنقاذه ، إنه بطل من طراز فريد نشأ وسط العواصف ،حارب على كل الجبهات ، التمس طريق الإنقاذ ، أو بتعبير آخر حاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه عند حدوث الكارثة المدوية .
ولعل من الضروري التعرف على البطل وعصره ونتعرف على جهوده التي بذلها لكي نستطيع أن نقف على إنجازاته ونقدره حق قدره .
أولا : عبد الله التل في سطور
موجز حياته
- ولد في مدينة إربد عام 1918، وأنهى دراسته الثانوية في مدينة السلط ، وحصل على شهادة الاجتياز العالية سنة 1937، عمل ملازماً في الجيش الأردني عام سنة 1942،وعمره أربع وعشرون ، وحصل على دورة أركان الحرب من بريطانيا عام 1946 ، وتولى قيادة الكتيبة السادسة في الجيش الأردني في حرب فلسطين عام 1948م ، والقائد العسكري لجبهة القدس وعمره ثلاثون سنة، وسمي قائد معركة القدس .
- ثم عين حاكماً عسكرياً للقدس (1948-1949) لما بذله من جهود حربية وما حققه من إنجازات ظلت أثرها على القدس حتى اليوم ،
- يقول عبد الله التل : كنت ضابطا من ضباط الفريق جلوب قائد الجيش العربي الأردني ،وأكرمني الله بأن أكون قائدا للكتيبة التي أنقذت مدينة القدس وما فيها من مقدسات إسلامية ومسيحية من دما محقق .وحين انتهت الحرب عينت لوظيفة مدنية ، هي حاكم منطقة القدس ثم متصرفا للمدينة ، فأتيح لي بحكم عملي السابق في الجيش وعملي اللاحق في الحكومة أن أطلع على خفايا السياسة التي سيرت الحرب الفلسطينية .
- حاول تكوين جبهة سرية للتخلص من ملك الأردن في ذلك الوقت الملك عبد الله بن حسين بعد أن اجتمعت لدية الأدلة على خيانته وبيع القضية الفلسطينية ،لكن حركاته أصبحت مرصودة ،فقرر أن يهاجر إلى مصر في أكتوبر 1949 ، وعندما قتل الملك عبد الله على يد شاب فلسطيني سنة 1951 عقب خروجه من المسجد الأقصى حكم الإنجليز علي عبد الله التل بالإعدام؛
- وأثناء إقامته في مصر حصل على درجة الماجستير من جامعة الأزهر سنة 1965 وقد عاد عبد الله التل إلى الأردن بعد أن أصدرا لملك الحسين قانون العفو العام يوم 4 أبريل 1965 ليعيش بين أهله وذويه. وخلال السنوات الثماني الأخيرة من عمره، وهي السنوات التي أمضاها في الأردن، أخذ يعمل بنشاط في مجالات الدعوة الإسلامية، وأصبح عضواً بارزاً في المؤتمر الإسلامي العام.
- وقد أعيد إلى خدمة الدولة محافظاً في وزارة الداخلية في أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1970 وحتى 9 ديسمبر (كانون الأول) 1971 حيث أصدرت الإدارة الملكية بتعيينه عضواً في مجلس الأعيان في 10 ديسمبر (كانون الأول) 1971 حتى 31 مارس ( آذار) 1972 ،
- ثم أعد كتابه (جذور البلاء) للحصول على درجة الدكتوراه سنة 1972، ،
عصره بإيجاز
- عاش التل في وقت عصيب يمر به العالم العربي وخاصة القضية الفلسطينية ،فقبل مولده بعام صدر وعد بلفور بإقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين ،وتوالت المؤامرة الدولية لتنفيذ الوعد بمساعدة بعض الخونة من الحكام العرب في ذلك الوقت .
- فماذا يصنع التل وقد اتفقت شوامخ الجبال على الخيانة وبيع القضية لصالح اليهود وأعوانهم ؟هل يعتزل ويكتفي بالإنكار بالقلب ،وذلك أضعف الإيمان أم يواجه مهما كلفته المواجهة ؟
- إن صلاح الدين الأيوبي وهو يقود حرب تحرير القدس ضد الصليبين كان هو الحاكم وقائد الجيش وصانع القرار ، لكن الأمور مع الصهيونية اختلفت فالملك عبد الله والقائد جلوب الإنجليزي من أعوان الصهيونية ،ولديهم اتفاقيات سرية على تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين؛
- وهما رؤساء التل والمفترض أن ينفذ أوامرهما وقرارات رؤسائه وإن كانت ضد مصلحة الأمة، والتى يمتد أثرها عبر التاريخ والأوزار تتضاعف إلى يوم القيامة ، والخيانة يسجلها التاريخ أبد الدهر ، ترى ماذا تصنع أيها (التل) ، وقد صدرت الأوامر إليك بتنفيذ المخطط السري لبيع فلسطين؟
- هل تنفذ أوامر أولى الأمر وطاعة أولى الأمر واجبة ، والوزر عليهم ،وما أنت إلا عبد المأمور كما يقول المصريون عند تنفيذ ظلم الحكام ؟ أم تعتزل وتُطهّر نفسك من هذا الدنس وللقدس رب يحميها ؟
- كانت أطماع الملك عبد الله ملك شرق الأردن تهدف إلى اتساع مملكته على حساب الدول المجاورة ، فكان يريد أن يضم سوريا ولبنان وفلسطين تحت عرشه باسم سوريا الكبرى .
- بعد أن أصبح حاكما لإمارة شرق الأردن ، وظهر طموح الملك عبد الله بجلاء لتوحيد الأراضي العربية المركزية فى سوريا الكبرى التي تشمل فلسطين و سوريا و لبنان و الأردن بشكل نهائي ، ورغبة منه في عرش دمشق. (1)
- وقد وجدت بريطانيا ضالتها في أطماع الملك عبد الله التوسعية،وتحقيق المشروع الصهيوني في فلسطين ، عن طريق بذر الشقاق بين الدول العربية المعنية بالأمر، وأن تتربص كل منها بالأخرى وتنعدم الثقة فيما بينهم ، وفى هذا انصراف عن القضية الفلسطينية إلى الشأن الداخلي؛
- وإن كان الملك عبد الله لا يستطيع إقامة مشروع سوريا الكبرى فلا غرو أن تمنيه بريطانيا بالجزء العربي من أرض فلسطين يضمه لشرق الأردن ويصبح تحت سلطة التاج الهاشمي في الأردن ، ولن يتم ذلك إلا بقبوله قرار التقسيم ، وبذلك تنتهي القضية الفلسطينية وتصبح فلسطين في طي النسيان كما قامت أمريكا على أنقاض الهنود الحمر .
ويوضح ذلك عبد الله التل بقوله :
- كانت القضية العربية تمر في أخطر فترة انحلال وتفكك مرت به في تاريخها الطويل ، فترة خرج فيها من بين الحكام العرب من يساعد المستعمر على خلق دولة المجرمين في قلب الوطن العربي .فترة تواطأ فيها بعض الحكام العرب مع أقطاب الصهيونية في العالم من أمثال تشرشل واتلي وترومان . (2)
ويلخص التل حياته فى جمل قصيرة منها : يقول عبد التل :
- وكنت منذ ابتداء الحرب متمردا على قائدي جلوب في ظروف قاسية مريرة يعرفها من له علم بأحوال شرق الأردن والجيش العربي فى ذلك الحين .وحين أمسكت بطرف الخيانة ،أخذت أجمع الأدلة وأسجل الجوانب السرية من تاريخ الكارثة .
- وفى تلك الأيام العصيبة التي تكشفت لى فيها الخيانة لم أغدر بالملك ولا بحكومته ،بل كان دأبى إبداء النصح والمعارضة الصريحة الشريفة وتبصير بعواقب السياسة التي كانوا يسيرون عليها.وكان عيبي الأكبر فى نظر الكثيرين أننى لم أبق جنديا ينفذ أمر حكومته ومليكه لأصل إلى ما كانوا يمنوني به من مناصب الوزارة والحكم ، وأنا فى الثلاثين من العمر ،وإنما تأبيت وتمردت على السلطة الحاكمة : الحكومة والإنجليز ثم الملك .
- ولم يكن لي حيلة فى ذلك ، فقد خلقت حرا أبيا لا أحنى الرأس إلا لخالقى ، وأردت لمليكى ووزرائه ألا يحنوا هاماتهم لجلوب لكنهم عصوني وتحالفوا مع جلوب ضدي . وخيل إليهم جميعا فى بادى الأمر أننى خسرت وانهزمت , بيد أن الأيام أثبتت أننى وأنا البعيد عن الأردن الرابح المنتصر . (3)
ثانياً: جهاد عبد الله التل في فلسطين
عبد الله التل ضابطا فى فلسطين قبل الحرب فى 15 /5 /1948
وعندما تم تعيينه في أركان حرب الجيش الأردني أحس قائده الانجليزى جلوب بخطورة ذلك على مستقبله ومستقبل الضباط الإنجليز فى الجيش الأردنى من وجود كفاءات عربية، فالجيش الأردني ليس له إلا الاسم ، فقد كان ضباطه من الإنجليز ويصل عددهم إلى خمسين ضابطا ولا يوجد من الضباط العرب سوى ثلاثة ضباط كان عبد الله التل أحدهم ،ويتم الإنفاق عليه من قبل الإنجليز ،فماذا تنتظر من جيش عربي ضباطه وتموينه إنجليزي؟
لذلك حرص جلوب على إبعاده ، فنقله قائدا لحرس القوافل فى فلسطين ، وقد استثمر عبد الله التل وجوده هناك لتوفير الدعم للمجاهدين العرب والفلسطينيين وتدريبهم لمواجهة الخطر الصهيوني، وتعرف بحكم موقعه على قادة فصائل الجهاد في فلسطين ، وفي مقدمتهم عبد القادر الحسيني.
واستطاع أثناء وجوده أن يهاجم مستعمرة كفار عصيون يوم 7/5 /1948 ،وكادت تسقط ، لولا أن أصدر جاوب الأمر بالانسحاب وعدم مهاجمة المستعمرة إلا إذا هاجمت ، فانسحب ثم دبر لها معركة ثانية.
ولما كان جلوب لا يريد مهاجمة المستعمرة إلا إذا قامت بالاعتداء، فما كان من عبد الله التل إلا أن أعد مع بعض جنوده خطة للاشتباك مع المستعمرة وإرسال إشارة توضح أن المستعمرة اعتدت عليهم وهم مشتبكون معها ويحتاجون إلى المساعدة ،وبالفعل تم له ما أراد ،فإذا جلوب يتصل به و يطلب منه الذهاب إلى المستعمرة؛
ليعاون القوة هناك يوم 13/5 واستطاع أن يعيد تريب الأوضاع وتنظيم الجنود وإحكام الخطة حتى استطاع أن يستولى على المستعمرة ،وما كان من مستعمرات كفار عصيون الأخرى إلا أن استسلمت وتسلم عبد الله التل أسلحتهم وأسر الرجال وعددهم 350 أسيرا ، وتم تسليم الأطفال والنساء إلى الصليب الأحمر ، ولم يسع جلوب إلا أن يهنأهه بالنصر . (4)
بطولة مبكرة فى رحاب القدس
ولم يكد يستريح حتى وصلت الأنباء عن اعتداءات اليهود المتكررة على الأحياء العربية بالقدس القديمة وتهديد الأماكن المقدس والعرب فى المدينة ، وكانوا حوالى 60 ألف عربى فرّ معظمهم من بطش العصابات اليهودية فى القدس الجديدة ، وفقد العرب الأمن فى المدينة ،وهرعت الوفود العربية إلى الملك عبد الله التدخل لحماية الأماكن المقدسة والعرب فى المدينة؛
وبعد تردد وخلاف مع جلوب الذى كان يريد أن يستولى اليهود على القدس وتصبح يهودية ، ولذلك أسقط القدس من حساباته لتقع بأيدي اليهود ،لكن الملك عبد الله بجرأة نادرة لأول مرة على حد تعبير عبدا لله التل يخالف جلوب ويصدر أوامره إلى عبد الله التل ليتحرك لنجدة القدس ويكتب له صفحة مجيدة فى تاريخه وتاريخ المدينة المقدسة .
وبالفعل بدأ عبد الله التل بالزحف على المدينة يوم 17 /5 /1948 ورتب جنوده ،وقام بمحاصرة اليهود فى القدس القديمة ، وشهدت أبواب المدينة معارك طاحنة لفك الحصار ،لكنها ذهبت عبثا . .. (5)
ترى أى جرأة يا بطل جعلتك ، وأنت لاتملك سوى قوة صغيرة لا تتعدى 700 فقط من الضباط والجنود المحاربين أن تحاصر اليهود فى القدس وعددهم مائة ألف ، يوجد منهم عشرة آلاف مسلح ، وتوجه إليهم إنذارا بالتسليم ؟
عبد الله التل ..عمره ثلاثون عاما ، قائد القوات العربية فى معركة القدس، حقيقة إن البطولة لا تقاس بالأعمار .. شباب فى مثل سنه يسهرون فى اللهو والعبث آمنين مستمتعين بما ما يحلو لهم،ويسهر هو فى الميدان مرابطا فى سبيل الله يطلب إحدى الحسنين : النصر أو الشهادة يستمتع بأصوات المدافع والقنابل يتوقع بين الحين والآخر نهاية حياته ليحيا حياة أخرى فى رحاب الله ...قائد أخطر المعارك وأشرفها وأخطرها إنها معركة القدس ..القدس التى يتهاوى فى سبيلها كل غالٍ ونفيس..القدس التى تهوى إليها الأفئدة وتذوب شوقا إلى رؤيتها ...القدس التى أنفق الأبطال حياتهم فى سبيل الحفاظ عليها أو تحريرها .
رحمة القائد وحسن تدبيره
وجد عبد الله التل الأرمن فى القدس يعانون الاضطهاد من العرب واليهود على حد سواء ،فيتهمهم كل من الفريقين بموالاته للآخر ،فما كان من القائد عبد الله التل إلا أن أمر بحماية الأرمن وعدم الاعتداء عليهم ،والتثبت من الإشاعات التى كانت تسرى ضد الأرمن الأبرياء ،وعدم معاقبة أحد دون دليل ، وبذلك حمى القائد الأرمن من البطش من الجانين .
البطل المنتصر محرر القدس
واستطاع أن يشدد الحصار على المدينة حتى انعدمت الأقوات والمياة داخل وانعدم الأمن وأصبحت الحالة يرثى لها حتى استسلم اليهود فى المدينة القديمة للقدس للقائد عبد الله التل يوم 28 /5 /1948 ،وهذا نص وثيقة التسليم :
وثيقة التسليم:
الفريق الأول: وكيل القائد عبدا لله التل.
الفريق الثاني: قائد الهاجاناه في القدس القديمة.
بناءً على الطلب المقدم من يهود القدس القديمة للاستسلام قدم الفريق الأول الشروط فقبلها الفريق الثاني وهي:
- إلقاء السلاح وتسليمه للفريق الأول.
- أخذ جميع المحاربين من الرجال أسرى حرب.
- السماح للشيوخ من الرجال، والنساء والأطفال ، ومن كانت جراحهم خطيرة، بالخروج إلى الأحياء اليهودية في القدس الجديدة بواسطة الصليب الأحمر.
- يتعهد الفريق الأول بحماية أرواح جميع اليهود المستسلمين.
- يحتل الجيش العربي الأحياء اليهودية في القدس القديمة.
الفريق الأول عبد الله التل
الفريق الثاني موشيه روزنكواستولى القائد على ما يقرب من 340 أسيراعدا السلاح والعتاد ، وتم ترحيل النساء والجرحى إلى الصليب الأحمر لتسليمهم لليهود ، وقدم الجنود مواقف حضارية رائعة في مساعدة العجزة والجرحى على حمل أمتعتهم .
واستمر عبد الله التل محاصرا اليهود فى القدس الجديدة حتى ضج اليهود في المدينة وأوشكت المدينة على الاستسلام ،وكان عبد الله التل يرصد استغاثتهم إلى اليهود فى تل أبيب الذين يعدونهم بالمساعدة ويطلبون منهم عدم التسليم .
وظهرت المؤامرة
- وإنقاذا لليهود المحاصرين في القدس تقدم المندوب البريطاني لمجلس الأمن في آخر شهر مايو 1948 باقتراح يقضى بوقف القتال لمدة أربع أسابيع وتعيين وسيط دولي للتوفيق بين العرب واليهود .
- وقد استخدمت بريطانيا نفوذها للتأثير فى جميع أعضاء مجلس الأمن ،فأقر المجلس الاقتراح البريطاني فى 29 مايو 1948 بوقف القتال فى فلسطين لمدة أربع أسابيع وتعيين الكونت برنا دوت وسيطا منتدبا من قبل هيئة الأمم المتحدة مهمته التوفيق بين العرب واليهود . (6)
- بل الأدهى وأمر أن يؤمر قائد الكتيبة الأردنية عبد الله التل المحاصر لليهود فى القدس أثناء تشاور مجلس الأمن بشأن الهدنة و قبل تنفيذها بعشرة أيام بأن يوقف القتال ضد اليهود فى القدس، وأن يكتفى بصد هجمات اليهود .
- وأورد عبد الله التل البرقية الثالثة التى وردت إليه بشأن وقف العمليات العسكرية ضد اليهود فى القدس، هى :
" من قائد اللواء الرابع إلى قائد الكتيبة السادسة (أي : عبدالله التل)
- ومن س م 17 .مكتوم جدا (أي : سرى جدا) 2/6/948.
- البرقية الثالثة من القيادة .
- مجلس الأمن يبحث الآن الأجوبة بخصوص وقف إطلاق النار ،
- ولكن تحت شروط . خلال مدة الأيام القادمة سوف لا تقومون بأي هجوم ، ولكن ستصدون أي هجوم يقوم به العدو ،انتهى ".. (7)
يقول القائد عبد الله التل :
- "حينما أيقنت بريطانيا من قرب هلاك ربيبتها إسرائيل ولم يمض على دخول الجيوش العربية إلى فلسطين أكثر من أسبوعين، سارعت لنجدة اليهود سياسياً تلبية لاستغاثة كبار الصهيونيين الذين نشطوا لإقناع الإنجليز والأمريكان بخطورة الوضع في فلسطين.
- فتقدم المندوب البريطاني لمجلس الأمن في آخر شهر مايو 1948 باقتراح يقضي بوقف القتال لمدة أربعة أسابيع وتعيين وسيط دولي للتوفيق بين العرب واليهود.
- وقد استخدمت بريطانيا نفوذها للتأثير في جميع أعضاء مجلس الأمن ؛ فأقر المجلس الاقتراح البريطاني في 29 مايو 1948م بوقف القتال في فلسطين لمدة أربعة أسابيع وتعيين الكونت برنا دوت وسيطاً منتدباً من قبل هيئة الأمم مهمته التوفيق بين العربي واليهود.. (8)
ثم يقول تحت عنوان : الحكومة الأردنية تضغط على الدول العربية :
- بعد أن أبلغ مجلس الأمن قراره إلى اليهود والدول العربية وطلب الرد على هذا القرار اجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في عمان لدراسة قرار مجلس الأمن واتخاذ الخطوات اللازمة بشأنه".. (9)
ثم يهاجم الأطراف المتعاونة على حماية اليهود فى القدس من الاستسلام ويصفهم بالخيانة ،الحسرة والألم يعتصره ، بقوله :
- "ليس لي إلا أن أصفها بالجريمة الكبرى ! وهي أخف وصف يمكن أن توصف به موافقة الجامعة العربية على شروط الهدنة التي قدمها برنا دوت بدون قيد أو شرط، فقد وافق أعضاء اللجنة السياسية على أكبر خطيئة في تاريخ الحروب بالشرق العربي ؛ ألا وهي السماح بفك الحصار عن مدينة القدس، وإنقاذ مائة ألف يهودي كانوا على وشك التسليم أو الموت جوعاً وعطشاً.
- وافقوا (أي العرب) قبل أن يفكروا قليلاً في نتائج ما أقدموا عليه.
- وافقوا قبل أن يفكر أحدهم فيما سيقع بعد عشرة أيام فقط من ذلك اليوم المشئوم.
- وافقوا لأنهم وثقوا من وفد الأردن في اللجنة السياسية وصدقوا رئيس الحكومة الأردنية الخائن.
- وافقوا قبل أن يفهموا أن القدس هي كل شيء في فلسطين ، وأن من يحتلها ينهي المعركة كلها.
- وافقوا قبل أن يسألوا ليفهموا : كيف كانت حال مئة ألف يهودي في القدس هم سُبع يهود فلسطين ؟!
- وافقوا قبل أن يسمعوا ما يقوله القائد العربي في تلك المدينة العظيمة، وقبل أن يعلموا مقدار الدماء والدموع والجهود التي بذلناها في القدس حتى جعلناها تترنح لتهوي صاعقة على رأس الصهيونية فتزيلها إلى الأبد.
- وافقوا قبل أن يسيئوا الظن قليلاً بشروط الهدنة ويفرضوا شرطاً واحداً على الأقل لمراقبة طريق الحياة للقدس ، وجعل تموين اليهود تحت إشراف العرب... (10)
وقد حدثت أثناء الهدنة الأولى بعض المواقف فى حياة عبد الله التل ، ومن أهمها :
- ترقية عبد الله التل لرتبة قائد .
- اجتمع عبدالله التل برفيقه فى الجهاد أحمد عبد العزيز قائد قوات المتطوعين أثناء الهدنة الأولى ،وتبادلا المشاورات حول الحرب واتفقاعلى أسلوب إدارة الحرب فى المرحلة التالية . (11)
- محاولة جلوب إبعاد عبد الله التل عن الميدان بجحة تكريمة على المجهود الذى بذله بأن يذهب للترفيه شهر أو أكثر إلى فرنسا أو إنجلترا على نفقة الجيش ،لكن المجاهد الذي تشرب قلبه حب الجهاد أبى أن يترك ميدانه أويلقى سلاحه حتى يأذن الله له. فما كان من جلوب إلا أن أرسل إليه رسالة شكر رسمية يقول عنها عبدا لله التل تعتبر من الوثائق التى تدينه وتثبت أن الكتيبة السادسة وحدها هى التى حاربت حربا حقيقة فى فلسطين بالنسبة للجيش العربي . (12)
- وعقب الهدنة الثانية تم إعلان تعيين عبد الله التل حاكما عسكريا للقدس ،وبدرجة أميرآلاى (أى زعيم) ولم يتجاوز الثلاثين من عمره ،حقيقة إنه منصب يلهث الناس للحصول عليه ،وإذا ما نالوه يلبون بالسمع والطاعة دون قيد أو شرط .لكن البطل عبد الله التل يرفض قبول المنصب ويشترط شروطا قاسية لقبوله ،خاصة أنه أدرك أن تعيينه كان الهدف منه إبعاده عن الجيش نهائيا،لكنه تحت ضغط الملك تولى حاكما عسكريا على القدس وترك قيادة الكتيبة السادسة . (13)
ثالثاً: المفاوضات مع اليهود
الاتفاقيات السرية تنكشف
- الغريب أن الجيش الأردنى أمام العالم يحارب اليهود فى فلسطين ، والملك الأردنى مستمر فى اتصالاته باليهود أثناء الحرب ،وكان مسرحها الشونة ولندن وباريس يقول عبد الله التل " ولما كنت بحكم مركزي مطلعا على الاتصالات والاجتماعات السرية بين جلالته واليهود فإنى سأشرح بالتفصيل محاضر الجلسات التى وقعت فى الشونة وتل أبيب . وبحكم اطلاعى على خفايا القصر، فإنى سأثبت ما وصل إلىّ من معلومات موثوقة عن اتصالات باريس لندن . (14)
- وفى يوم 10 /12 /1948 طلب موشى ديان عن طريق المراقبين الدوليين مقابلة عبد الله التل وسلمه رسالة من مسئول يهودى كبير إلى الملك عبد الله ، وفى اليوم التالي سلمها عبد الله التل إلى الملك الذى قرأها ثم دفعها إلى عبد الله التل لقراءتها ،ومنذ ذلك الحين تم اشتراك عبد الله التل فى مفاوضات الملك مع اليهود ،وقد حرص التل على أمرين؛
- الأول : معرفة خيوط المؤامرة وأسرارها وما يرتب فى الخفاء حتى لا يفاجأ بتنفيذه على الأرض وهو لا يدرى .
- والثانى : المحافظة على القدس وإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لا يتساهل الملك وأعوانه فى مفاوضاتهم مع اليهود ،خاصة أنه فكر فى الابتعاد عن المفاوضات ، لكنه عدل عن هذا القرار، لأنه لو ابتعد عن المفاوضات ، فإن الملك لن يكف عن مفاوضاته مع اليهود ،ومن تلك المفاوضات التى اشترك فيها عبد الله التل عندما أرسل الملك عبد الله رده إلى (ساسون) مندوب الوكالة اليهودية ، وجاء فيه " مسألة اللد والرملة يجب أن تكون على الحالة التى سبقت الانسحاب منها لأنكم لا تدركون المتاعب التى لحقتنا بعد الانسحاب .
- مسألة يافا تحت المذاكرة والقدس القديمة عربية واليهودية بيد أهلها .مسألة النقب تحت المذالكرة وكذلك الجليل .مسألة اللاجئين تحت المذاكرة ." وبعد أن أنهى الملك إملاء ملاحظاته على الدكتور شوكت طبيبه الخاص أمر عبد الله التل أن يعرض الرسالة على رئيس الحكومة توفيق أبو الهدى الذي أبدى موافقته على ما أبده الملك إلا أنه صرح بعدم استطاعته إجراء مفاوضات علنية مع اليهود حتى لا يكون موضع انتقاد من الدول العربية.
- واحتفظ عبد الله التل بالرسالة معه، وأثبتها كوثيقة فى كتابه ، وقد تحلى عبد الله التل بجرأة نادرة ،فقبل موعد الاجتماع مع اليهود يقول : وفى الساعة السادسة مساء حضر الدكتور شوكت من الشونة وقبل حركتنا لمكان الاجتماع طلبت منه الملاحظات التى أملاها الملك عليه وأمعنت النظر فيها ، فقد وجدتها مبهمة وخطيرة وخاصة فيما يتعلق بالقدس واتفقت مع الدكتور على إهمالها وتقديم نقاط جديدة
كانت كما يلى :
- وجوب إعادة اللدّ والرملة كدليل على حب التفاهم .
- وجوب إعادة اللاجئين العرب إلى ديارهم قبل فوات موسم الزراعة .
- بحث مشروع برنادوت ومشروع التقسيم للتوصل لحل يرضى الطرفين .
- إعادة الأحياء العربية فى القدس القديمة.
وقدم الورقة إلى ساسون التى طلب للتشاور مع قادة تل أبيب بشأنها.. (15) وهكذا عدّل التل نقاط التفاوض مغيرنا ما أبداه الملك من تساهل.
وفى أحد لقاءات الملك عبد الله السرية باليهود فى عمان بتاريخ 16 /1 /1949، يقول التل : كنت أتوقع وهى أول مرة أرى فيها ملكا يجتمع بأعدائه أن يكون جلالته لبقا حذرا يأخذ ولا يعطى يرهب ولا يرغب .وكدت أذوب خجلا حين بدأ جلا لته يكشف عن أوراقه بشكل مخيف ، ويتحدث بأسلوب رقيق سخيف كأنه يتحدث إلى أبنائه؛
ومن جملة ما قاله واستطعت تسجيله عليه :
- " أنا ملك عربي لا أخلف وعدا ولا أخون عهدا تعرفون نواياي وشعوري نحوكم، وأرى أنا لا يقف أحد بيننا الآن بعد أن خمدت الفتنة وانتهى لكم الأمر فى الجنوب ، وأنت تعلم يا ساسون أننا لم نحاربكم ولم نعتدِ على ما خصص لكم ، وأنا الآن لا أصغى لنصائح حلفائي الإنجليز، فهم أصدقاؤكم المخلصين ، وقد أحجموا عن مساعدتنا ، ولم يبعثوا لنا خرطوشة واحدة منذ الاضطرابات ، وكانت تنقصنا الذخيرة ولا تزال ..."
ويعلق عبدا لله التل على ذلك بقوله :
- قال جلالته كل هذا وأفهمَ اليهود بعبارات موجزة أنه لم يخن العهود ، ولم يعد يعتمد على الإنجليز، فنخسر بذلك ورقة رابحة ، لأن اليهود كانوا يعتقدون عكس ذلك تماما ثم أوضح لهم أنه مطمئن لما وقع فى الجنوب ، وفى هذا أحط أنواع التزلف لأعدائه ،وأكد جلالته أنه لم يحارب اليهود ثم كشف عن ضعف جيشه وقلة ذخيرته ."
والخلاصة:
- لقد دوّن على نفسه فى أقل من خمس دقائق اعترافات خطيرة.كل هذا وساسون ودايان يستمعان ، وقد زاد قائلا : " أنت تعلم يا أخى (مخاطبا ساسون) أننا اتفقنا على أسس سبقت ...." ويعلق عبدالله التل على ذلك بقوله: وهكذا سجل بهذه الفقرة الصغيرة اعترافا خطيرا آخر، وهو اتفاق جلالته معهم على (أسس سبقت ).. (16)
وفى لقاء آخر باليهود بتاريخ 30/1/1949 وحضره عبدالله التل ورواه بقوله : وبكل جرأة ولم يخجل من أحد قال جلالته مخاطبا ساسون :
- " كنت والله أريدكم أن تأخذوا لنا غزة ، فهى منفذنا على البحر ،ولابد لنا من ميناء ، ولتكن مجدل عسقلان "وطرب ساسون ودايان لسماع تصريحات كهذه وقال ساسون :"الله يقدرنا على تنفيذ ما يرغب فيه سيدنا ". (17)
وهكذا حاول عبد الله التل أن يرد أهواء الملك و تزلفه لليهود ،وحاول إيجاد حلول أفضل ، خاصة فيما يتعلق بالقدس التى كان الملك يسلم فيها بالأمر الواقع ويعطى اليهود ما تحت أيديهم منها .
ولقد أثنى موشى ديان على عبد الله التل بقوله:
- وقد أعجبت بالجنرال عبد الله التل بشخصيته القوية وعيونه النفاذة .وازاد إعجابى به عن غيره من الضباط والسياسيين الذين كنت ألتقى بهم فى ذلك الحين ... كذلك فقد ساعدني فى الإفراج عن أسرانا فى الحرب بعد أن حصل على موافقة الملك عبدالله على ذلك ... (18)
ثم يستمر فى ذكر المفاوضات مع الأردن التى كان عبد الله التل أحد المشاركين فيها،والتي لا تبعد كثيرا عما ذكره عبد الله التل عنها فى مذكراته .
ولا يفهم كلام ديان على تساهل عبد الله التل ، بل العكس فإن الرجل كان بعيد التفكير عن غيره من السياسيين الأردنيين الذين سلموا لليهود أراضى وقرى عربية لم تطأها أقدام اليهود نتيجة لعيوب فى شخصية المفاوضين الأردنيين الذين قاموا بمفاوضات مع اليهود ، والتى أبعد عنها التل لمعارضاته الكثيرة لسياسة الحكومة، وقد قدم التل وثائق تفيد تسهيلات لليهود كان لا يمكن أن يسمح بها بطلنا الذى عانى فى الحروب ، وبذل الكثير فيها ،فكيف يروى أرض فلسطين بالدماء ثم يتنازل عن حق حافظ عليه بالتفاوض ؟!
التفريط فى المدن الفلسطينية
يقول عبد الله التل:خاتمة المأساة:
- صمتت حكومة عمان المجرمة ، ولم تجرؤ على محاسبة الجنرال جلوب وضباطه المسئولين عن اتفاقية جنوب القدس، مع أنها اكتشفت أن الاتفاقية لم تكتب على الورق ، بل اقتصرت على الخارطة ، وأن تلك الخارطة حينما طبقت على الأرض قد أعطت اليهود قرى ومواقع عربية لم تطأها أقدام اليهود من قبل ،وهى : قرى صور باهر وبيت صفافا والولجة وقسم من بيتر وسكة الحديد وثلثا جبل المكبر .
- وتأكدت الحكومة أن ما نشره الوفد الأردنى فى البلاغ بتاريخ 24/4/1949 لم يكن إلا تضليلا ومخادعة ،لأن العرب قد خسروا ما بأيدهم ، ولم يكسبوا شبرا واحدا من الأرض .ولم يستطع الملك وهو رأس الخيانة إلا أن يلهى الشعب الناقم ،فبدلا من أن يأمر بالتحقيق مع جلوب وضباطه المسئولين عن الخيانة أوعز إلى الحكومة ورئيسها توفيق أبو الهدى بالاستقالة ثم يكلفه فى اليوم التالى بتشكيل الحكومة. (19)
ومن هنا ندرك أنه كان من الضروري أن يستمر عبد الله التل فى المفاوضات التى لم انفصل عنها .
رابعاً: الثائر المتمرد
عبد الله التل يسعى لكشف الخيانة للشعوب العربية
وقد حرص عبد الله التل عقب الهدنة الثانية على كشف الخيانة فساعد بعض الشباب الذين التفوا حوله على إصدار جريدة باسم " البعث " فى القدس وساندها ماديا وأدبيا بصفته قائدا للمنطقة ثم حاكما لها ،وأطلعهم على خفايا السياسة فى عمان ، وسمح لهم بنشر الانتقادات المردة والتهديدات المستورة بإيعاز منه ، ونشرت بها مقالات لم يسبق لكاتب أو صحفي أن نشر مثلها من حيث قوتها وعنفها في أي عهد من عهود الحكم فى الأردن ، وسمح لهم على حد تعبير عبد الله التل أن يكشف أعداء الوطن من الإنجليز بالدرجة الأولى وعبيدهم من حكام الأردن بالدرجة الثانية .
فهاج القصر والحكومة، وصدر أمر ملكى بإغلاق الجريدة وتسلمه التل ،وفى جرأة نادرة لم يغلق الجريدة التى ساندها ولم يحرك ساكنا ، بل تجاهل الأمر ،ولم يكترث لثورة الملك ، وازداد إصرارا على إعطاء الحرية التامة فى نشر الآراء والتوجيهات الثورية التى تنير السبيل أمام الشعب العربى المغلوب على أمره ، بل وشارك فى التوجيهات بنفسه ونشر تصريحات سياسية بالرغم من أنه موظف مسئول لا يحق له ذلك ....
ولم يكن خيانة حكام الأردن قد تكشفت للرأىء العام العربى فى فلسطين ولكنى (أى عبدا لله التل) ما كدت أكشف الستار عن بعض أجزاء تلك السياسة الخائنة التي انتهجها القصر والحكومة وجلوب حتى بدأت أسهم فى خلق معارضة مستنيرة وتقويتها ...ثم ما لبث أن امتد إلى صفوف الشعب العربى فى فلسطين كافة ....ولم أكتفِ بالاتصال برجال السياسة والمعارضة فى الضفة الغربية ، بل شرعت فى الاتصال بالزعماء الأحرار فى شرق الأردن ..(20)
تمرد عبد الله التل على أوامر الملك
وفى يوم 4/5 /1949 طلب شرتوك الصهيوني صديق الملك تنفيذ المادة الثامنة من اتفاقية رودس ،فما كان من الملك إلا أن أرسل إلى التل فى اليوم التالى أن الممانعة فى مرور اليهود إلى هداسا والجمعة العبرية على جبل سكوبس لاتجدى ، يقول التل:ورأيت أن الممانعة تجدى ولابد منها ،لأن تحقيق أهداف اليهود فى هذه النقطة يؤدى إلى تهديد خطير للقدس القديمة ،فعزمت على معارضة الملك فى آرائه وأهملت الرسالة . (21)
وفى يوم 19 /5 /1949 عينت الحكومة التل ضم الوفد الذى سيتباحث مع اليهود حول طلبهم حرية المرور إلى هداسا والجامعة العبرية ، فطلب التل من اليهود إعادة المناطق التى اغتصبوها فى القدس الجديدة قبل نهاية الانتداب ،فرفض اليهود وأخفقت المباحثات ، وأبلغ اليهود الملك مسئولية التل عن إخفاق المباحثات مما زاد فى حنق الملك وحكومته على التل . (22)
الملك يزداد غضبا على عبد الله التل يوما بعد يوما
ولعل هناك كثير من المواقف التى جعلت الملك ينقم على التل ،ومنها :
- ففى يوم الجمعة 8/4 /1948 دعا خطيب الأقصى لحاكم القدس ولم يدع ُ للملك .
- عقب سقوط اللد والرملة بيد اليهود يوم 12/7/1948 فى المؤامرة التى دبرها الملك وأعوانه ،خرجت المظاهرات فى عمان تهتف ضد الملك والحكومة وتهتف بحياة عبد الله التل .
- وقد ازدادت عقب إرسال رئيس الطائفة البولونية الكاثوليكية فى القدس فى يوم 8 من يناير 1949 رسالة وزير الشئون الخارجية فى عمان يشيد فيها بجهود عبد الله التل ، وتقديرا لجهوده تقدم الطائفة وسام الاستحقاق تقديرا لجهوده ، وبتاريخ 31/1/1949 تم منح عبد الله التل وسام الامتياز البولونى .يقول التل : وكان يمكن أن تمر هذه المسألة التافهة من غير ضجة أو اهتمام لولا أن الملك حملها فى نفسه واستاء من تقدير طائفة مسيحية لحاكمه فى حين أنه شخصيا لا يحمل ذلك الوسام . (23)
- تسليط وسائل الإعلام الضوء على عبد الله التل من الداخل بعد أن كشفت الأحداث قيمة العمل الوطنى الذى أنجزه فى القدس ، وغيرذلك من المواقف التى زاد من غضب الملك . (24)
- فى منتصف مايو 1949 صدر أمر من الملك بالقبض على الشاب الفلسطينى عزمى الجاعونى من أشجع ضباط الجهاد المقس الفلسطينى فى القدس، وعلى الفور أبلغ جواسيس الملك أنه قادم لاغتياله ، فأمر الملك التل بالقبض عليه ، فقبض عليه التل وعندما سمع منه القصة أطلق سراحه وأعاد إليه الأموال التى صادرها منه ، وما أن علم الملك بذلك حتى هاج وماج وظن أن التل يتآمر عليه أو يسكت على المتآمرين عليه . (25)
- وقد استفزرت كل تلك التصرفات التى انتهزها جلوب ليكتب تقريرا سيئا فى التل حتى قررالملك إبعاده عن الجيش والقدس التى عشقها وتمنى أن يدفن فى ثراها ،فقررالتل أنه لا يبغى أى عمل آخر غيرالجيش وقدم استقالته .
- يقول التل :وتراءى أمام عينى مراحل الصراع بينى وبين جلوب طوال الأشهر العشرة الماضية .ونظرت فإذا هو فى جبروته يمثل سلطان المستعمر فى بلدى ..... وأنظر إلى من حولى فأجدنى وحيدا ، فليس ثمة شعب يؤازرنى لأن الشعب لم يفق بعد من هو ل الصدمة ،ولا أحزاب لأنها لم تكن بعد ، ولا برلمان لأالموجود منه مزيف وغالبيته من العبيد ،ولا حكومة وطنية تنصرنى على عدوى وعدو الوطن ،ولا ملك عربى يشترى مجدا له ولأمته بوقفه حازمة معى ضد جلوب .. (26)
عبد الله التل يدبر انقلاب ضد الملك
أيقن عبد الله التل أن الأحوال لن تتحسن بالأردن إلا إذا تغيرت السياسة فى البلاد ،ولن تتغير والملك عبد الله فى الحكم ،لذلك عمل على تكوين جبهة سرية للإطاحة بالملك ، واتصل بالمخلصين فى الأردن وصارحهم بذلك فوافقوا ،ورأوا تأييد دولة عربية لهذا الانقلاب ،وأثناء إرسال الملك عبد الله برسالة حملها التل إلى حسنى الزعيم قائد الانقلاب فى سوريا؛
فلما كلّمه التل فيما ينوى القيام به وافق ووعد بالدعم ، واقترح عليه أخذ موافقة مصر التى أيدت تلك الخطوة ،وكان الأمير طلال ابن الملك عبد الله ناقما عل سياسة والده وخضوعه للانجليز ،لذلك اتصل به التل وأطلعه على ما ينوى القيام به فرحب وشجعه على ذلك وأخذ يتابع بين الحين والآخر الأخبار؛
لكن سرعان ما تغيرت الأوضاع وأحس جلوب بذلك ،فاستشار التل أعوانه الذين أشاروا عليه بالابتعاد عن الأردن ومواصلة العمل من الخارج ،فقرر الهجرة إلى مصر فى أكتوبر 1949 لتبدأحياة جديدة للتل فى رحاب قاهرة المعز والأزهر الشريف . (27)
خامساً: فى محراب العلم: عبد الله التل مؤرخا لحرب فلسطين 1948
عندما وصل عبد الله التل إلى القاهرة فى أكتوبر 1949 عكف على نوع آخر من الجهاد ترك فيه السلاح ليمسك بالقلم ،ويجمع بين الحسنين ،فقد استطاع أن يحصل على درجة الماجستير من جامعة الأزهر سنة 1965؛
ثم أعد الدكتوراه سنة 1972 ،ليترك أثرا في ميدان الجهاد شاهد عدل على بطولته ، وأثرا علميا ينتفع به ،وليحفر اسمه في سجل العلماء الخالدين بأحرف من نور.ولعلنا بعد أن عرجنا على جهوده في ميدان الجهاد على أرض فلسطين نرى أنه قد آن الأوان لنتعرف على آثاره العلمية التى تدور مذكراته حول تاريخ الحرب سنة 1948 ،واليهود وخطرهم .
مما يجعله من أهم مؤرخي الحرب لمشاركته فى الحرب ، فهو راوٍ لها ، وما صنعه من أحداث ظلت بصماته على الأرض خير شاهد ،وما قدمه من وثائق تؤكد صدق ما ذهب إليه.ولعل جهوده تحتاج إلى بعض التوضيح مما يجعلنا نقف أمامها لنتعرف على إسهاماته فى التأريخ للحرب والقضية الفلسطينية .
مؤلفاته
أسهم التل بعدد من المؤلفات وهى :
- كارثة فلسطين : وهى مذكراته نشرت بدار الهدى بالقاهرة الطبعة الأولى سنة 1959 ،وقد جاء في ( 645 صفحة) .
- الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام:عبد الله التل دار النـشر: المكتب الإسلامي،الطبعة الثانية،(232 صفحة).
- جذور البلاء : الناشر: المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، عدد الصفحات: 279 صفحة ، الطبعة الثالثة 1988 .
- خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية : الـمكـتب الإسلامــي للنشـر ،1979 بيروت ،446 صفحة .
وسنتاول تعريفا بها ثم نفيض فى الحديث عن كتابه كارثة فلسطين لأهميته .
جاء الكتاب فى تسعة فصول وملاحق .
يبين فيه المؤلف الأساليب التي اعتمدها اليهود ليتغلغل في العالم الإسلامي، هذا وقد استهله المؤلف بفصل تحدث فيه عن تجارة الحرب عند اليهود ودورهم في الثورات العالمية المخربة من الثورة الفرنسية إلى الثورة الشيوعية، وأصابعهم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والخسائر الجسيمة التي سببتها الحروب الطاحنة التي لم يستفد منها أحد باستثناء اليهودية العالمية.
وتعمد قبل أن يبدأ بفصول الكتاب الرئيسية التي تبين حركات رأس الأفعى اليهودية ولدغاتها السامة في معاقل الإسلام، أن ينشر فصلاً يوضح فيه عمليات التغلغل اليهودي في المسيحية لتخريبها من الداخل، مستغلين عهود التسامح المسيحي، وقصده من ذلك أن يبين أن الخطر اليهودي لا يقتصر على الإسلام وإنما يشمل المسيحية عدوة اليهودية الأولى، وليبدين كذلك للمسيحيين الغربيين، خطأهم الذين اقترفوه فيما ناصروا باطل اليهود على حق العرب في فلسطين.
وذكر في الفصول الرئيسية من الفصل الثالث إلى الثامن الأعمال التخريبية التي سببتها حركات رأس الأفعى اليهودية في ديار الإسلام، مبتدئاً بهدم الخلافة الإسلامية على يد أحد أبناء يهود الدونمة (مصطفى كمال) شارحاً بشيء من التفصيل التغلغل اليهودي في تركيا من أجل عزلها عن الأمة الإسلامية وفرض العلمانية عليها في الوقت الذي تقوم فيه دولة العدوان اليهودي على أسس دينية كاملة.
وجاءت بقية الفصول مشيرة إلى أصابع اليهود العالمية في كل ما نال المسلمين من بلاء وويلات فشرح في الفصل الرابع ما حل بالمسلمين في أندونيسيا وباكستان.
وفي الفصل السادس والسابع والثامن ما حل بالمسلمين في لواء الاسكندرونة وقبرص، والعراق وإيران والحبشة وأريتريا ونيجيريا وتشاد والسنغال وزنجبار.
هذا الكتاب القسم الأول من بحثٍ أعده "عبد الله التل" لنيل الدكتوراه من جامعة الأزهر. وفيه يعالج مشكلة الخلق اليهودي المستمد من تعاليم التوراة والتلمود ومقررات حكماء صهيون، وما حلّ بالعالم من ويلات وبلاء على أيدي اليهود الذين أمعنوا وما زالوا يمعنون في تخريب الأساس التي قامت عليها الحضارتان الإسلامية والمسيحية، وكان آخر بلاء حلّ بالعرب والمسلمين خاصة وبالعالم عامة، هو سقوط بيت المقدس بأيدي اليهود لأول مرة في التاريخ الإسلامي.
ولعله في هذا البحث يرد على كثيرين من الكتاب ورجال السياسة والفكر، الذين دأبوا على ترويج آرائهم في التفريق بين اليهودية كدين والصهيونية كمذهب سياسي عدواني توسعي. وبعض أصحاب هذا الرأي واقع تحت تأثير الإسلام الذي يعترف بالدين اليهودي، وبعضهم واقع تحت تأثير الخوف من الاتهام بمعاداة اليهودية كدين، وفي الختام نقول أن المؤلف قد حاول في هذه الدراسة أن يكون إيجابياً؛
فلم يكتف بإثبات أن جذور البلاء كامنة في التطبيق العملي للخلق اليهودي التوراتي التلمودي، بل أبرز آراءه المبنية على عقيدة راسخة بعظمة الإسلام الذي يقف اليوم وحيداً في مواجهة تحدي اليهودية العالمية، بعد أن نجحت خطط اليهود في إلقاء غشاوة سميكة على أبصار الغرب المسيحي، فلم يعد ير إلا بمنظار اليهودي المتسلح بدين باطل، دين جاحد ناكر لجميل المسيحية، عامل دائماً وأبداً على هدمها تخريبها. ويعلم اليهود أن القوة الوحيدة الباقية في طريقهم تحول دون سيطرتهم التامة على العالم الإسلام.
- القسم الأول : مكون من 13 فصل تبدأ بالعدوان اليهودي الأول على فلسطين والصلات بين اليهودية والمسيحية والإسلام وحقيقة الدين اليهودي وينتهي بنجاح اليهودية العالمية في تدمير القيم الأخلاقية في دول الغرب ثم سيطرتها على عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة.
- القسم الثاني : مكون من 10 فصول تبدأ بالعدوان اليهودي الثاني عام 1917م وتنتهي بالعدوان اليهودي السادس لاغتصاب المياه العربية في أيامنا هذه وتتضمن الغدر البريطاني والإجرام الأمريكي الذي ساعد في قيام دولة إسرائيل.
تأريخه للحرب فى فلسطين
جاء الكتاب كارثة فلسطين فى تسعة عشر فصلا ،هى :
- الفصل الأول : أهم الأحداث العسكرية التي وقعت فى فلسطين بعد قرار التقسيم فى 29 نوفمبر 1947 وقبل نهاية الانتداب فى 15 مايو 1948.
- الفصل الثاني : أهم الأحداث السياسية التي وقعت فى فلسطين بعد قرار التقسيم وقبل نهاية الانتداب.
- الفصل الثالث : الحرب .
- الفصل الرابع : معركة القدس .
- الفصل الخامس : الميمنة والميسرة .
- الفصل السادس : ما فعلته بقية كتائب الجيش العربي في مرحلة الحرب الأولى .
- الفصل السابع: فى الهدنة الأولى .
- الفصل الثامن : مرحلة الحرب الثانية 9 /7ـ 18/7/1948 .
- الفصل التاسع: الهدنة الثانية .
- الفصل العاشر : اليهود يستبدلون قائدهم فى القدس .
- الفصل الحادي عشر: ما بعد الهدنة الثانية .
- الفصل الثاني عشر: أحداث متفرقة .
- الفصل الثالث عشر: معركة النقب وملابساتها.
- الفصل الرابع عشر: الاتصالات السرية بين اليهود والملك عبد الله .
- الفصل الخامس عشر: وفد رودس مأساة الجنوب .
- الفصل السادس عشر: مأساة المثلث .
- الفصل السابع عشر: مأساة جنوب القدس .
- الفصل الثامن عشر: مذكيات الصراع .
- الفصل التاسع عشر : انقلاب لم يتم .
و قد احتوى الكتاب على معلومات مهمة عن حرب فلسطين 1948 لا يستطيع مؤرخ أن يتجاهله ، وقدم الحقائق مدعمة بالوثائق وكشف عن حقائق لا نكاد نظفر بها عند غيره من الكتب ،بل لا نذهب بعيد إذا قلنا إن المؤلفات التي تناولت حرب فلسطين اعتمدت عليه بدرجة كبيرة ،وقد أتاح له ذلك أنه كان قائد معركة القدس ثم حاكما لمنطقة القدس؛
وكان أحد أبطال الحرب والمشاركين فى الأحداث التاريخية في معركة القدس ،وله علاقات بالحكومة الأردنية والملك عبد الله مما جعله يروى كثيرا من اللقاءات والاجتماعات ويعتمد كذلك على الرواية الشفوية ، إضافة إلى مشاركته في المفاوضات الأردنية الإسرائيلية،كل هذه قد اكسب كتابه أهمية كبيرة في التأريخ لحرب فلسطين 1948.
ولعل تضافر الوثائق إلى الرواية الشفوية إلى بعض الكتب يجعلنا ندرك أننا أمام تاريخ موثق بأقوى الأدلة التي لا تحتمل مجالا للطعن فيها أو مخالفتها .وإذا نظرنا إلى عبد الله التل مؤرخا لحرب 1948 نجده يكشف لنا عن حقائق مهمة فى كتابه كارثة فلسطين؛
ومنها :
- المؤامرة التي عقدها الملك عبد الله ملك الأردن مع اليهود والإنجليز على تقسيم فلسطين إلى دولتين : يهودية ،والعربية تضم إلى الأردن ، ومع مرور أيام الحرب تتكشف خيوط المؤامرة يوما بعد يوم على أرض المعركة ، واستطاع التل أن يوضحها في مذكراته على النحو التالي :
عبد الله التل يفضح مفاوضات الملك عبد الله السرية مع اليهود
أورد عبد الله التل كثيرا من الوثائق التي توضح لقاءات الملك عبد الله باليهود قبل وبعد الحرب مع اليهود، والتي أوضح أنها كانت من أسباب الكارثة التي حلت بفلسطين؛
يقول عبد الله التل تحت عنوان (الملك عبد الله يجتمع باليهود قبل 15/5/1948):
- " كانت اتصالات الملك عبدا لله باليهود مستمرة ، ويعلم بها أهل عمان وخاصة الذين يترددون على قصره .وكان يحضر اليهود إلى قصره عن طريق مطار عمان حيث تنزل بهم الطائرة ، وكأنها طائرة بريطانية فلا يجرؤ أحد على التعرض لها ، ثم ينقل ركابها بسيارة من سيارات الخاصة الملكية إلى القصر الملكي .
- وفى كثير من الحالات كان الملك عبد الله يلتقي بهم على الحدود الأردنية الفلسطينية .. وقد اجتمع الملك عبد الله بشرتوك سرا في (جسر المجامع ) على الحدود الأردنية مع فلسطين يوم 12 /4 /1948 وكان من أهم ما اتفق عليه فى هذه الاجتماع هو قبول الطرفين لمشروع التقسيم والعمل على تنفيذه. (28)
- إذ كان هذا الموقف السري غير المعلن للملك عبدا لله من التقسيم إلا أن موقفه المعلن يعبر عن رأى الشارع العربي في رفض التقسيم ، والإعلان عن بذل الجهود لتحرير فلسطين ، وطرد اليهود منها ، فمجرد صدور قرار الأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين تبارى الحكام العرب في كسب تأييد الشعوب العربية ومجاراتها في أحلامها بالتصريحات والعبارات الحماسية التي تسكن الجماهير الثائرة ، وتضفى على الحاكم العربي ثوب الزعامة والبطولة .
- ومن تصريحات الملك عبدا لله ملك الأردن قبل بدء الحرب في فلسطين " إنني أطمنكم بأن الجيش العربي سيحتل القدس في 48 ساعة ثم يزحف إلى رأس الحية " مشيرا إلى تل أبيب. (29)
- وقد نقل القائد عبد الله التل قائد الكتيبة السادسة في الجيش الأردني عن خواص الملك اجتماع الملك عبد الله بمندوب الوكالة اليهودية أكثر من مرة قبل الحرب. (30)
يقول عبد الله التل تحت عنوان : (كان الاجتماع قبل الحرب بأيام) :
- قبيل انتهاء الانتداب البريطاني ببضعة أيام ،أراد اليهود أن يطمنئوا إلى محافظة الملك عبد الله على وعوده التي قطعها لهم بتأييد مشروع التقسيم وعدم اللجوء للقوة ..... وقد تقررا لاجتماع ليلة 11ـ12 /5 /1948 فى عمان والتقى الملك مع جولدا ما يرسون (جولدا مائير) إحدى الشخصيات البارزة في الوكالة اليهودية .
وقد قدمت جولدا ما يرسون طلبات الوكالة اليهودية ،وخلاصتها كما رواها من كان حاضرا الاجتماع:
- وقد رفض الملك الشرط الأول ،لأنه يظهره بمظهر الخارج على إجماع الدول العربية التي صممت على إرسال جيوشها لإنقاذ فلسطين ، وإنما تعهد الملك ألا يحارب الجيشان الأردني والعراقي اليهود وأن يقف الجيشان في الحدود التي رسمها التقسيم ولا يتعداها ، وقبلت جولدا رأى الملك وأخذت عليه عهدا بذلك....ولم تعد رحلة جولدا لعمان سرا ، فقد شرع الملك عبد الله بكشف النقاب عنها،ويتندر بخشونة هذه المرأة اليهودية وجبروتها . (31)
ويقول عبد الله التل في مقدمة مذكرات :
- وإنني حينما أستعرض في خاطري أسماء أولئك الذين ساعدوا العدو على اغتصاب فلسطين وتشريد عرب فلسطين أجدهم في عالم آخر تلفهم صفحات سود من تاريخ الكارثة ، فملك الأردن قضى صريع رصاصات على عتبات المسجد الأقصى، ورئيس حكومته شنق نفسه ...
- وحتى الجنرال جلوب الذى كان يدير في الخفاء دفة السياسة في العالم العربي قد طرد من وطني شر طرده وبقى الوطن لأهله .وهؤلاء الطغاة من أعدائي وأعداء الوطن لا أهاجمهم اليوم وأفضح سرهم،لأنهم زالوا أو اختفوا عن مسرح السياسة ، فقد حاربتهم وكشفت جرائمهم وهم في أوج سطوتهم وجبروتهم سواء أثناء وجودي في فلسطين أو بعد هجرتي إلى مصر. (32)
يقول عبد الله التل :
- ولما كان الملك مرتبطا مع الإنجليز بسياسة ضمنية تعترف بتقسيم فلسطين وتؤدى بالتالي إلى تهويدها ، فقد أخذ يبحث عن الشخص القوى الذى يستطيع تنفيذ السياسة البريطانية بالنسبة لقضية فلسطين . ولم يجد الملك مشقة كبيرة في العثور علي ضالته المنشودة ، وذلك لأن الإنجليز أشاروا عليه بإعادة رجلهم الأول إلى الحكم ألا وهو توفيق أبو الهدى ..... لأنهم يعلمون أن توفيق أبو الهدى يستطيع إرهاب الشعب الأردني أطول مدة ممكنة ريثما تنفذ بريطانيا سياستها المرسومة لتهويد القدس. (33)
يقول عبد الله التل تحت عنوان :(الحكومة الأردنية تريد بيع المبكى لليهود) :
- فى صباح يوم السبت 19 /6/ 1948 كلمني هاتفيا من عمان الشيخ محمد الشنقيطي وزير المعارف وقاضى القضاة ، وطلب إلى أن أوافق على مقترحات قائد الفرقة لاش فيما يتعلق بحائط المبكى والسماح لليهود بزيارته يوميا .
- وأضاف الشنقيطى إن الحكومة وجلالة مولانا الملك موافقان على هذه العملية التي سيدفع اليهود 50 ألف جنيه لصندوق الزكاة، فقلت له:إن اليهود كانوا يعرضون على المجلس الإسلامي أن يدفعوا مليون جنيه لشراء حائط المبكى ...... وكان رد عبد الله التل على رسالة لاش أنه موافق على مطلبه إذا كان اليهود يسمحون لنا بزيارة مقدساتنا في يافا وعكا وحيفا ،فصمت لاش ، ولم يعد لبحث موضوع حائط المبكى . (34)
تغيير الخطة الحربية التي اتفقت عليها الدول العربية
كانت الخطة التي رسمها رؤساء أركان حرب الدول العربية في اجتماع عقدوه في الزرقاء ، وحدد مهام كل جيش من الجيوش العربية ومنطقة دخوله والطريق الذى يسلكه ،لكن الفريق جلوب باشا الإنجليزي بوصفه رئيس أركان حرب الجيش العربى ، فالعربي غيّر الخطة من تلقاء نفسه بثمان وأربعين ساعة ، وما كان لأحد أن يعترض إذ كان يصدر أوامره باسم القائد الأعلى،الملك عبد الله.
وعندما اجتمع الملك عبدا لله بالرئيس السوري شكري القوتلي وسأله الأخير عن السبب فى تغيير الخطة فقال له الملك : (سأحتل القدس غدا، وتل أبيب بعد أسبوع) (35)
يقول عبد الله التل : الجيش يدخل فلسطين دون أمر حربي للعمليات :
- ومهما كانت اتفاقيات الدول العربية السرية التي أخفتها عن الشعوب ، فإن جميع هذه الدول أعلنت رسميا أنها ترسل بجيوشها إلى فلسطين .......هذا ما كانت الشعوب العربية تعتقد به ، وهذا ما كانت تريد أن يكون .. (36)
ثم يوضح أثر ذلك على الحرب ، فيقول تحت عنوان:(الجيش العربي الأردني ليس لديه خطة هجومية):
- عملت على تقوية الروح المعنوية بين سكان القدس لئلا يتسرب اليأس إلى نفوسهم ، ولم أشعرهم قط بأنه ليس هناك خطة هجومية ، بل كنت أشجعهم فى كل مناسبة . وقد نجحت فى ذلك نجاحا كبيرا، لأن سكان القدس ثبتوا معنا في الدفاع عن المدينة العزيزة ، وكانوا يعيشون فى الأمل : أمل الهجوم على اليهود ، ولو علموا بأن (عمان) لم تكن جادة فى حربها مع اليهود لتسرب اليأس إليهم منذ الشهر الأول في تاريخ الكارثة بدلا من الشهر العاشر . (37)
تسليم المدن الفلسطينية لليهود
يقول عبد الله التل تحت عنوان:الجيش العربي (الأردني) يغدر بالجيش المصري :
- عر طوف قرية عربية تقع مسيرة ستة كيلو مترات جنوب باب الواد ، وهى تتحكم فى طريق باب الواد بيت حبرين ، وتؤلف حصنا منيعا ، ويتم به تطويق القدس، وكان فى عرعر طوف قلعة حصينة للبوليس ...
- وكان يتولى حمايتها قوة من الجيش الأردنى والمصرى....ولم يمضِِ على نشوب القتال فى فلسطين سوى بضعة أيام حتى فوجئت القوات المصرية بانسحاب جنود الجيش الأردني من عر طوف بحسب الأوامر الصادرة إليهم من عمان دون سابق إنذار إلى زملائهم وإخوانهم فى السلاح .
- ولم يكن أمام المفرزة المصرية إزاء هذا الغدر إلا أن تنسحب من القلعة التى جاءت للمساهمة فى حمايتها بعد أن تركها حماتها الأصليون ..... كان يحتم على السلطات الأردنية أن تبلغ عن خطتها هذه قبل تنفيذه بثلاث أيام على الأقل ، ولكنها لم تفعل ،لأن عر طوف ضرورية لتأمين (الكوريدور) اليهودي بين القدس وتل أبيب ، وقد أمنت تسليمها لليهود دون أن يخسروا أحدا من جنودهم أو يطلقوا رصاصة واحدة ، وقد اتخذ اليهود عر طوف قاعدة لهم واستعملوها لتيسير قوافلهم للقدس ولجنوب فلسطين وخاصة فى معركة النقب . (38)
ويعلق عبد الله التل على ذلك بقوله : الاضطرابات في الأردن وفلسطين احتجاجا على تسليم المنطقة لليهود (اللد والرملة).
- ما أن انتشر خبر المأساة فى المدن والقرى الفلسطينية والأردنية حتى هب الشعب معلنا سخطه ونقمته على مدبري المؤامرة ومنفذي الخيانة العظمى فى عمان ، فقامت المظاهرات الشعبية فى مدن فلسطين وشرق الأردن .
- ونادت الجماهير بسقوط الملك عبد الله وحكومته وقائد جيشه جلوب ومساعده لاش ...... أما حكومة اللصوص فى عمان ،فكانت فى واد وقضية الجيش فى واد .... ولم تحاكم جلوب أو تحقق معه فى شيء وكأنه فى نظرها لم يفعل شيئا ، وسكوتها عن المأساة دون أن تتعرض لجلوب بشيء أكبر دليل على اشتراكها فى الجريمة ، وأن المأساة لم تقع إلا بمعرفتها وإطلاعها ...
- ولكن حكومة عمان لم تفعل شيئا مع جلوب ورفاقه ، بل على العكس من ذلك فقد منحت لاش بك وساما كبيرا تقديرا لإخلاصه للسدة الملكية ثم رقاه الملك من رتبة زعيم إلى رتبة لواء ليوطد قدميه فى الجيش ، ويعده لتسلم منصب أستاذه جلوب حينما ينتهي من تنفيذ برامج لندن الاستعمارية فى الشرق العربي ويتقاعد نهائيا؛
- وعندما فوتح جلالة الملك في أمر جلوب وضباطه الإنجليز وطلبت الجامعة العربية الاستغناء عنهم أو سحب القيادة منهم أجاب الملك في جلسة هامة بقصر رغدان بما يلي : "أنا لا أستطيع أن أغير سرجي فى المعركة"، ولعل الأمة العربية تشهد بل العالم بأجمعه يشهد أن جلا لته لم يغير سرجه "جلوب باشا " لسبب بسيط هو أن السرج أو البردعة كان الملك نفسه ، وليس جلوب . (39)
- والعجب أن يكون تسليم اللد والرملة إلى اليهود بالاتفاق مع الملك عبد الله ،وأن انسحاب الكتيبة التى كانت تدافع عن المدينتين كان مرتبا ومتفقا عليه ، وقد أورد عبدا لله التل وثيقة أمرَ الملك عبد الله بكتابتها بحضور عبدا لله التل ردا على رسالة اليهود ، ومما جاء فيها بخصوص اللد والرملة "(4) مسألة اللد والرملة يجب أن تكون على الحالة التى سبقت الانسحاب منها ؛ لأنكم لا تدركون المتاعب التى لحقتنا بعد الانسحاب ...." (40)
- مأساة النقب الجنوبي (أم الرشراش ):
- كانت القوات الأردنية تحتل مساحة شاسعة من النقب الفلسطيى وهى عبارة عن مثلث طول ضلعه الشرقي في وادي عربة مائة كيلو متر، وطول ضلعه المقابل على الحدود المصرية مائة كيلو متر كذلك ، وطول قاعدته أى المسافة بين وادى عربة والحدود المصرية فى سيناء تزيد على 60 كيلو متر ، وملتقى الضلعين فى أم الرشراش، وهى المركز أو الميناء على خليج العقبة وتبعد عن ميناء العقبة الأردنى حوالى خمسة أميال.....وفجأة أرسلت قيادة الجيش فى عمان الأوامر إلى قائد القوات الأردنية فى المنطقة بالانسحاب الفورى إلى العقبة .
- هذه أوامر جلوب باشا ونفذها الكابتن (برومج) فسحب جميع القوات من مراكزها قبل أن ترى اليهود بأعينها وكانت صدمة عنيف للجنود الأبرياء أن تأتيهم الأوامر بترك ميناء أم الرشراش الحصين ، وهم لا يعلمون السر فى ذلك ، وكانت الأوامر مستعجلة لرجة أن أغلب تجهيزات الجيش بقيت فى المراكز .
- عرف اليهود كل هذا، وكشفت طائراتهم فوجدت أن القوات الأردنية تنسحب بسرعة وتتحاشى الاشتباك مع اليهود ، فما كان منهم إلا أن أسرعوا بزحفهم مارين بنفس المراكز والمسالك التى أخلاها الجيش العربى وفى 8/3/1949 وصلوا لنقطة تبعد 30 كيلومتر عن الخليج ولما لم يجدوا من يعترضهم تابعوا سيرهم فوصلوا خليج العقبة فى 10 /3 /1949 واحتلوا (إيلات) بسلام آمنين دون أن تطلق عيهم رصاصة واحدة .
- وإن ما يزيد من فداحة المأساة أن نعلم أن القوات اليهودية التى وصلت إلى أم الرشراش لم تزد على 200 جندى جاءوا بسيارات الجيب واللوريات وبعدد قليل من المدرعات الخفيفة ، ولو بقيت القوات الأردنية مكانها لأبادتها مجموعة صغيرة.وهكذا خسرنا منطقة تعتبر من أخطر المواقع الاستراتيجية فى الشرق العربى تزيد مساحتها التى سلمها جلوب لليهود على ثلاثة آلاف كيلومتر مربع . (41)
قبول الهدنة الأولى والثانية
- لقد آن الأوان ليثبت العرب لليهود صدق وعودهم ، وأنهم لا يخلفون معهم وعدا ،فقد جاء دور الحكومة الأردنية لثبت حسن نواياها لليهود .
يقول عبد الله التل تحت عنوان: (الحكومة الأردنية تضغط على الدول العربية):
- بعد أن أبلغ مجلس الأمن قراره إلى اليهود والدول العربية وطلب الرد على هذا القرار ،اجتمعت اللجنة السياسية فى عمان لدراسة قرار مجلس الأمن واتخاذ الخطوات اللازمة بشأنه .
- وفى اجتماعات اللجنة السياسية فى عمان فى 25 مايو نطق الوفد الأردنى بلسان الفريق جلوب وادعى أن الجيش العربى لا يستطيع الاستمرار فى الحرب لنقص كبيرفى الذخائر والمعدات . وحينما فند بعض أعضاء الدول العربية ادعاءات الوفد الأردنى برياسة توفيق أبو الهدى ، هدد أبو الهدى بانسحاب شرق الأردن من الجامعة العربية إذا لم تقبل الهدنة فى فلسطين .
- ولما كانت بقية الدول العربية ترى أن انسحاب شرق الأردن فى تلك الفترة العصيبة قد يخلق مشكلات يصعب تقدير مدى خطواتها كانسحاب العراق مثلا مجاراة للأردن فقد نزلت تلك الدول على طلب الأردن وانصاعت لتهديداته المخزية التى ستظل وصمة عار فى جبين الأردن . على حد تعبير عبدالله التل . (42)
- بدأ القتال 15 مايو واجتمعت الجامعة العربية بعد عشرة أيام من القتال فى 25 مايو للتشاور فى الهدنة المقترحة ، و مائة ألف يهودي فى محاصرين وعلى وشك التسليم ، لمصلحة من الاستجابة لقرار الأمم المتحدة لقبول الهدنة وفك الحصار عنهم ، بل الأدهى وأمر أن يؤمر قائد الكتيبة الأردنية عبد الله التل المحاصر لليهود فى القدس أثناء تشاور مجلس الأمن بشأن الهدنة و قبل تنفيذها بعشرة أيام بأن يوقف القتال ضد اليهود فى القدس ، وأن يكتفى بصد هجمات اليهود .
- أما الهدنة الثانية ، فقد اجتمع مجلس الأمن الدولى لدراسة الحالة التى وصلت إليها فلسطين .ولم تدم اجتماعاته طويلا فقد أصدر بتاريخ 15 /7 /1948 قرار يفرض بموجبه الهدنة فى القدس حالا بدون قيد أو شرط ، وفى جميع أنحاء فلسطين بعد ثلاثة أيام من صدور القرار...
- وحينما صدر قرار مجلس الأمن قبلته الدول العربية وقبلته إسرائيل ، أما الدول العربية فقد فعلت ذلك ، لأنها كانت منقسمة على نفسها تتخبط فى بيداء الجهل السياسى ، وتعجز عن إصلاح الأخطاء العسكرية التى تراها واضحة جلية ، وأهمها الاطمئنان للفريق جلوب باشا ، وهو يقود الجيش العربى لا ليحارب اليهود ، بل ليحمى اليهود .
- وأما اليهود قبلوا الهدنة لأنهم خشوا أن يوحد العرب قيادتهم ويحاربوا بجد وعزم .... ولا صحة للإشاعات السخيفة والآراء التافهة التى كانت ولم تزال تقول بأن الهدنة أنقذت الجيوش العربية من هزيمة محققة . على حد تعبير عبدالله التل .. (43)
يقول عبد الله التل:الولايات المتحدة تطلب من الأردن قبول الهدنة :
- فى صباح 18 /7/1948 سلمني قنصل عام أمريكا فى القد س برقية مرسلة من حكومته إلى حكومة شرق الأردن تطلب فيها أمريكا العمل على تنفيذ أمر وقف النار . فهل يعقل أن انزعاج أمريكا واهتماماها بأمر الهدنة كان لصالح العرب ؟!
- وهذا يدلنا على خطورة الوضع عند اليهود فى ذلك الحين مما حدا بأمريكا إلى استعمال نفوذها لفرض الهدنة الثانية من أجل إنقاذ اليهود .... وقد بعثت البرقية إلى عمان وردت الحكومة بالسمع والطاعة ،وهى الحكومة التى يسيرها جلوب باشا كما يريد . (44)
عبد الله التل يكشف مؤامرة الملك عبد الله على الجيش المصري
- وفى 14 أكتوبر 1948 جمع اليهود أعدادا كبيرة من القوات اليهودية وهاجموا الجيش المصرى من الجنوب مدركين أنه لن ينجده جيش عربى . ولقد استطاع اليهود أن يفصلوا القوات المصرية المرابطة فى الفالوجا عن المواقع المصرية فى المجدل والخليل ، وبذلك تم لهم عزل اللواء المصرى بقيادة الأمير ألاى السيد طه .وبذلك تم حصار القوات المصرية فى الفالوجا .
يقول عبد الله التل :
- لم يعد خافيا على أحد من رجالات عمان العسكريين والسياسيين أن الملك كان يعلم بهجوم اليهود على الجيش المصري ، والدليل على ذلك تصريحات جلالته الكثيرة فى مجالسه الخاصة بالشونة ، تلك التصريحات التى تناقلها أفراد الحاشية ونشروها بين الناس ، والمعروف عن الملك الصراحة وعدم المبالاة .
- وكان جلالته لا يخفى سروره وابتهاجه بانسحاب الجيش المصرى فى بعض المواقع متخليا عن بعض المراكز، ولطالما صرح بأنه يفضل انتقال جنوب فلسطين إلى اليهود على بقائه فى يد المصريين ؛ لأن استرداد النقب من اليهود أهون بكثير من استرداده من المصريين (بحسب رأى جلالته).
وأن عبارته المشهورة فى هذا الباب يرددها الخاص والعام وهى :
- (إننى أخاف على فلسطين من قريب حاسد أكثر من عدو حاقد). وفى اجتماع لجلالة الملك مع ضباط عراقيين وأردنيين أثناء زيارتهم للشونة يوم الجمعة الموافق 7/1/1949، وكنت من بين أولئك الضباط صرح جلالته بأنه يرغب من صميم قلبه أن يحتل اليهود غزة ، لأنهم وعدوه بجعلها ميناء عربيا؛
- وبجرأته الغريبة ووقاحاته العجيبة نطق بجملته المشهورة التى حفظها الضباط ، وما يزالون يرددونها وهى : (أما المصريين ، فقد تعفرت أنوفهم ، وأما الشمال ، فلا حول لهم ولا قوة) ويقصد بأهل الشمال سوريا ولبنان .وقد تبجح فى ذلك الاجتماع بسلامة الجيشين الهاشميين ، وهكذا نجد أن الأدلة قد توفرت لدينا على تآمر جلالة الملك الهاشمي على بنى قومه فى أشد محنة مرت بهم فى تاريخهم الحديث؛
وإننى ألخص الأدلة كما يلى:
- اتصاله السري مع اليهود بواسطة طبيبه الخاص شوكت باشا ،ذلك الاتصال الذى كان يتم فى الخلوات بين ساسون والدكتور .
- اتفاقه السري مع اليهود على الهدنة الدائمة ،ذلك الاتفاق الذى نقله الدكتور لساسون واستطاعت أن أكون فكرة عنه فيما بعد .
- منعه الجيش العراقى من تقديم أى مساعدة للتخفيف عن الجيش المصرى ، وكان بإمكانه ذلك ، ومع تسليمنا بأن جلالته لا سلطة له على جيش جلوب باشا ، فليس له عذر فى كبح جماح الجيش العراقى .
- ابتهاجه لتطور معركة الجنوب لصالح اليهود .
- أحاديثه وتصريحاته حول النقب ومعركة الجنوب ، تلك التصريحات التى أثبتت معرفته بالهجوم قبل وقوعه ثم أثبتت أنه أروى غليله عند احتلال اليهود للنقب . ... أما جلوب باشا فقد سبق أن بينا أنه كان يعلم عن الهجوم اليهودى ، وذلك نتيجة الاجتماع الذى عقده مع الضباط والطريقة التى اتبعها فى توزع القوات الأردنية . (45)
أسباب كارثة فلسطين فى رأى عبدا لله التل
- يرى عبد الله التل أن المآسىء التى كانت سببا فى الكارثة كثيرة ، وقد بدأت من الانتداب البريطاني المسئول عن حماية البلاد التى أؤتمن عليها ، فخان الأمانة وغدر بعرب فلسطين ، وسلم مدنهم الرئيسة إلى اليهود قبل جلائه عن البلاد فى 15 مايو 1948 .
- ومن أهم تلك المدن العربية الخالدة حيفا ويافا وصفد وطبرية وبيسان وعكا . وحينما تسلمت الدول العربية فلسطين ، وتولت أمر الدفاع عنها وإنقاذها من الإجرام الصهيوني المدمر، وقعت عدة مآسى ساعدت على خلق الكارثة ، ومن أهمها:
(1) مأساة القيادة:
- فقد اطمأنت الحكومات العربية إلى الملك عبد الله ، وهى تعلم أنه لا يملك من أمر نفسه شيئًا . وحينما سلمته زمام القيادة كانت تعلم أن الجنرال جلوب سيكون القائد الفعلى للمعركة .
(2) مأساة الهدنة الأولى فى 11/6/1948:
- وفيها ساعدت الحكومات العربية اليهود على إنقاذ القدس الجديدة من السقوط بأيدينا كما ساعدتهم على توطيد دولتهم الوليدة المجرمة بأن منحتهم فرصة استيراد الأسلحة والمحاربين من الغرب ، وظلت هى غافلة عما يجرى عند العدو .
(3) مأساة اللد والرملة 10 ـ 12 /7 /1948:
- فيها سلم الإنجليز وحكام الأردن إلى اليهود منطقة عربية بمدنها وقراها وسهولها الخصبة التى لا تقدر بثمن وأخرج اليهود من تلك المنطقة عشرات الألوف من العرب أضيفوا إلى قائمة المهاجرين الذين أبعدوا عن وطنهم فلسطين .
(4) المأسأة الخُلقية أو مسلك الجيوش العربية فى معركتى النقب 4/10 /1948 و23 /12 /1948:
- ففى هاتين المعركتين وقف الجيش المصرى وحده ، وغدرت به الحكومات العربية،ولم تهب لنجدته أو تخفيف الضغط عنه ؛ فخسرنا النقب ، بيد أنّى أعتبر ذلك الموقف مأساة خُلقية تفوق خسارة الأرض ؛ لأن الأرض يمكن استردادها ،ولكن الأخلاق حينما تنهار فمن الصعب بناؤها .
(5) مأساة النقب الجنوبى وخليج العقبة مارس 1949:
- وفيها سلم جلوب إلى اليهود جزءا خطيرا من وطننا فلسطين، وهو عبارة عن النقب الجنوبى الذى ينتهى طرفه على خليج العقبة حيث الميناء الفلسطينى أم الرشراش وبنى اليهود ميناء (إيلات) بدلا عن المينا ء العربى ووطدوا أقدمهم على خليج العقبة بين المصرية والمنطقة الأردنية وبذلك فصلوا أفريقيا من آسيا لأول مرة فى التاريخ ، وحقق المستعمرون حلما قديما هو شطر العالم الإسلامى العربى إلى شطرين ، ولعمرى لتلك مأساة ما بعدها مأساة .
(6) مأساة اتصال حكام الأردن باليهود:
- وإنى أعتبر تلك الاتصالات قد أكدت لليهود انقسام حكام العرب ،فوجهوا قواهم إلى كل دولة عربية على انفراد ، فهزموا الدول العربية واحدة تلو الأخرى فى حين خيل للعالم أن الدول العربية كانت مجتمعة تحارب كقوة واحدة .
(7) مأساة المثلت والخليل مارس 1949:
- وفيها سلم حكام الأردن إلى اليهود عشرات الألوف من الدونمات نتيجة اجتماعات سرية باليهود ومباحثات طويلة أخفوها عن الحكومات العربية الأخرى .
(8) مأساة شمال القدس وجنوبها:
- وفيها سلمت حكومة عمان إلى اليهود جبل سكوبس وجزءا من قرية صور باهر وثلثى جبل المكبر ونصف قرية بيت صفافا وسكة حديد تل أبيب القدس مما ساعد على تقوية اليهود وإضعاف العرب .
(9) مأساة إبعاد عرب فلسطين عن المعركة:
- وتلك كانت ثالة الأثافى وفيها تآمر الحكام الخونة من العرب مع سادتهم الإنجليز على حرمان الدار من حق الدفاع عن دارهم وعرب فلسطين هم أقدر العرب على الدفاع عن وطنهم والذود عن حماهم وأهل مكة أدرى بشعابها والمستعمرون يعلمون هذا جيدا فحاربوا فكرة إشراك الفلسطينيين فى المعركة ومازالوا يحاربونها حتى يومنا هذا وام يكتف المستعمرون بهذا بلا أخذوا منذ شردوا مليونا من عرب فلسطين عن ديارهم يشنون عليهم حرب الإشاعات التى تشوه ماضيهم وحاضرهم وتقلل من قدر جهودهم واستبسالهم عن الدفاع عن وطنهم .
- الحقيقة بالأرقام وردد المسعمروزن واليهود أن عرب فلسطين قد باعوا أرض فلسطين لليهود ولا يسعنى إلا أن أورد هنا مقارنة بالأرقام بين ما كان بأيدى اليهود من أرض فلسطين عند نهاية الانتداب يوم سلم عرب فلسطين بلادهم إلى الدول العربية وبين ما آل إلى اليهود من أرض فلسطين يوم وقعت الحكومات العربية الهدنة الدائمة مع اليهود .
- وتبلغ مساحة أراضى فلسطين 26 مليون دونم تقريبا .لم يتمكن اليهود خلال حكم الإنجليز الطويل (30 عاما) من امتلاك غير مليونين و75 ألف دونم أى 8% من أرض فلسطين مع أن الإنجليز لم يدخروا وسعا فى إيجاد التشريعات والقوانين الإرهابية التى تسهل لليهود امتلاك الأرض، وفكرة العرب أصحاب الأرض على بيعها وحتى هذه ال 8%فإنها لم تنتقل جميعها إلى ملكية اليهود عن طريق عرب فلسطين وإنما انتقلت إليهم على الشكل التنالى :
- 650.000 دونم استولى عليها اليهود فى عهد الدولة العثمانية .
- 500.000 دونم منحتها حكومة الانتداب الانجليزى من أملاك الدولة (الأراضى الأميرية) للوكالة اليهودية.
- 625.000 دونم باعها غير الفلسطينيين لليهود .
- 300.000 دونم باعها فلسطينيون ،وقد نال من عرف منهم جزاءهم على أيدى أبطال الثورات العربية فى فلسطين،ونفذ الثوار حكم الإعدام فى الكثيرين ممن باعوا أو سمسروا لليهود .
- المجموع 2.075.000 (الدونم ألف متر مربع أو ما يعادا ربع فدان فى مصر تقريبا)
- وقبل أن يخرج الإنجليز من فلسطين 15/5/1948 سلموا لليهود حوالى مليون ونصف مليون دونم من أراضى حيفا وطبرية وعكا وصفد ويافا فصار مجموع ما بأيدى اليهود من أرض فلسطين 3.5 مليون دونم تقريبا وما بأيدى العرب 22.5 مليون دونم تقريبا وحينما تسلمت الحكومات العربية مسئولية الدفاع عن فلسطين استولى اليهود على 17.5مليون دونم تقريبا ضموها إلى ما كان فى حوزتهم .
وإليك المساحات التى سلمها العرب لليهود أثناء الحرب دون قتال :
- صفقة اللد والرملة .وفيها استولى اليهود على 950 ألف دونم تقريبا .
- صفقة النقب .وفيها استولى اليهود على 12.875 مليون دونم تقريبا .
- صفقة الجليلين الشرقى والغربى .وفيها استولى اليهود على مليونيى دونم تقريبا .
- صفقة الشونة ورودس .وفيها استولى اليهود على 1.675 مليون دونم تقريبا .وأغلبها من أراضى المثلث العربى (منطقة نابلس بما حولها والتى على شكل مثلث) ومنطقة الخليل .
- ومجموع هذه الصفقات 17.5 مليون دونم أضيف إلى ماكان بحوزتة اليهود ،فصار مجموع ما بأيدى اليهود 21مليون دونم .وبقى بأرض العرب خمسة ملايين دونم تقريبا ،وهى ما يسمى بالضفة الغربية من مملكة الأردن ، وما يسمى بقطاع غزة فى الجنوب .
- فهل يصح بعد هذه البينات أن يصدق إنسان ما يشيعه الصهيونيين من أن عرب فلسطين فرطوا فى أرضهم وتساهلوا فى أمرالدفاع عنها ؟! (46)
- أثبتت المعركة أن هناك مؤامرة عربية استعمارية على الجيش المصرى فقد تكتلت جميع القوة اليهودية فى فلسطين ضد الجيش المصرى ، ولم تخف الجيوش العربية الأخرى إلى نجدته وفتح جبهات أخرى للتخفيف عنه ، وتعتبر هذه المأساة الأخلاقية فى نظرى أبشع من المآسى التى سبق ذكرها وخسرنا فيها الأرض والمال .مما أدى إلى حصار ثلاثة آلاف جندى وضابط مصرى فى الفالوجا .
- اضطر الجيش المصرى إلى ترك كثير من المواقع إلا أنه خرج من المعركة محتفظا بشرفه ، لأنه استطاع الحيلولة دون تطويقه ، وخاصة فى معركة التبة 86 التى انتصرت فيها القوات المصرية وحالت دون وقوع كارثة أو تمكن اليهود من الوصول إلى البحر المتوسط من تلك النقطة.. (47)
الهوامش
- SYRIA AND THE 1948 WAR IN PALESTINE: Cambridge University Press, 2001, p. 180
- عبد الله التل : كارثة فلسطين ، مذكرات عبد الله التل ، المقدمة .
- السابق ص المقدمة .
- السابق ص32وما بعدها .
- السابق ص190.
- السابق ص 201.
- السابق ص205.
- السابق ص201-202.
- السابق ص203.
- السابق ص 203ـ205.
- السابق ص242.
- السابق ص218 ـ 219.
- السابق ص358.
- السابق ص431 ـ 432 .
- السابق ص441 ـ442.
- السابق ص437.
- السابق ص464 ـ 465.
- موشى ديان: قصة حياتى ،ترجمة ونشر دار التعاون للطبع والنشر، القاهرة ،1977،ص 89 وما بعدها،وتم طباعتها بعنوان ديان يعترف .
- عبد الله التل : كارثة فلسطين ، مذكرات عبد الله التل ص566.
- السابق ص570 ـ 571 ،581.
- السابق ص575ـ 576.
- السابق ص 576.
- السابق ص577ـ578.
- السابق ص582.
- السابق ص583.
- السابق ص585ـ 586.
- السابق ص587ـ595.
- السابق ص 64ـ 65.
- السابق ص191.
- السابق ص 64.
- السابق، ص 66 ـ 68.
- السابق، المقدمة ص وـ ز .
- السابق ، ص41 .ويعلق عبد الله التل : وكان الملك عبد الله يكره توفيق أبو الهدى لاتصاله الوثيق بالإنجليز ولأنه يزاحم جلالته على خدمتهم.
- السابق ص223.
- عارف العارف : نكبة فلسطين ،ج1 ص 342 ـ343.
- عبد الله التل : كارثة فلسطين ص 75 .
- السابق ص230 ـ239 .
- السابق ص 266ـ267 .
- السابق ص261 ـ 262.
- السابق السابق. ص 440.
- السابق ص407 ومابعدها.
- السابق ص 201 ـ202.
- السابق ص289ـ290.
- السابق ص 290.
- السابق ص408 ـ 409.
- السابق ص 601 ـ604 .
- السابق ص427.
للمزيد عن المجاهد عبد الله التل
كتب متعلقة
|
ملفات متعلقة
|
وصلات خارجية
|