المغرب المجاهد منتصر بإذن الله
بقلم: الإمام حسن البنا
لن تكون أندلس ثانية إن شاء الله، مهما حاول الغاصبون واستكبر فى أرض الله المتجبرون. فلقد كانت غفوة من غفوات الزمن، نسى فيها العرب والمسلمون أنفسهم، ونسوا الله فنسيهم، وعاقبهم فى الشرق والغرب بانتقاص أرضهم وتقلص سلطانهم والوقوع تحت حكم غيرهم.
أما اليوم فلا. لقد استيقظ الشعور العربى والإسلامى، وسرى فى العروق والدماء والنفوس والمشاعر سيالا دفاقا غامرا قويا، لا يدفعه شىء ولا يقف فى سبيله شىء. لقد عرفنا أنفسنا، وعرفنا غيرنا، وعرفنا معقد عزتنا وسر ضعفنا، وعرفنا قبل ذلك وبعده "ربنا" الذى بيده ملكوت كل شىء، فلا خديعة بعد اليوم...!
قد يطول بنا أمر الجهاد، وقد يكون جهادا قاسيا مريرا نبذل فيه كثيرا، ونواجه آلاما شدادا، وتأخذنا الزلازل والرجفات حتى يقول المجاهدون: "متى نصر الله".. ولكنا سنرى الفجر، وسنشهد مطلع الصبح ومشرق النور، وسنسمع اللحن الشجى بعد طول العناء ينسكب فى آذاننا حلوا نديا: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾[البقرة: 214].
يا ويح الإنسانية! فيم كان هذا العناء والبلاء، والدماء والدموع، والعرق والجهاد، إذا لم يستفد الناس من وراء تلك التضحيات عدلا وحرية، وأمنا وطمأنينة، وهدأة وسلاما..؟ وأين العهود والمواثيق، والوعود والآمال العذاب، والمؤتمرات تلو المؤتمرات، والتصريحات بعد التصريحات؟
صدق الله العظيم: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾[الزمر: 8]. الآن، وبعد أن وجدت فرنسا الجريحة الطريحة تحت أقدام الاحتلال ووطأته شيئا من الراحة والعافية، تصب جام الغضب على المغرب العربى الإسلامى، فتقذف طائراتها وبوارجها الجماهير الهاتفة للحرية، المجاهدة فى سبيل الحق الطبيعى، بالقنابل والنيران، وتصب عليهم وابلا من الحميم والجحيم، وتطاردهم فى كل مكان، وتهاجم قواتها أربعا وأربعين قرية إسلامية، وتعتقل الآلاف من أعضاء الجمعيات العاملة المؤمنة، وتحكم المحاكم العسكرية على عشرات من المجاهدين بالإعدام فى الجزائر -كما صرح بذلك وزير داخليتها- وينسى الجنرال ديجول السجون والمعتقلات والتجوال فى أرض الله، ما آب من سفر إلا إلى سفر، ينشد حرية نفسه وحرية شعبه، ويتلمس النصير والمعين عليهما فى كل أمة، وعند كل دولة.
إلا أن الجنرال ديجول قد وجد المعين والنصير على حقه فى الحياة وحق أمته فى الحرية، وساعدته المقادير فوصل إلى ما أراد. فهلا يجد خمسة وعشرون مليونا من أكرم عباد الله على الله والناس النصير فى إخوانهم العرب والمؤمنين- وهم بحمد الله كثير لم تأكلهم الضبع ولم تنقصهم الأيام؟ وهلا يجد هؤلاء الملايين النصير فى الأمم المتحدة فى أوروبا وأمريكا- وقد كان الجنود المغاربة البواسل فى صفوف جيوشها المحاربة فى إيطاليا، وفى حملة فرنسا نفسها، وفى كل مكان، على حين كان الفرنسيون الأصليون فى صفوف الألمان يقاومون جيوش الحلفاء بكل سبيل..؟!
أغلب الظن أن عرب شمال أفريقية من الطرابلسيين والتونسيين والجزائريين والمراكشيين سيجدون النصير فعلا فى العرب والمسلمين من إخوانهم وفى الأمم المتحدة، وقد حاربوا فى صفوفهم. على أنهم بعد ذلك وقبله، أكرم على الله وعلى الإسلام من أن يدعهم نهب الظلم وطمعة الطامعين. فإن تخلى عنهم جند الأرض فسينصرهم جند السماء: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾[يوسف: 21] ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾[المدثر: 31]، ولن تكون أندلس ثانية بحول الله، ويأبى الله ذلك والمؤمنون.
أيها الإخوان المسلمون. أيها العرب فى آفاق الأرض. أيها المسلمون جميعا. يا من تؤمنون بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن القرآن حق، وأن الأخوة هى لب الإيمان وصميمه، وأن المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، وبأن المؤمنين فى توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وبأن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- قد قال لكم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه".
اعلموا أن لكم خمسة وعشرين مليونا من إخوانكم المنتشرين فى خير بقاع أفريقية، على شاطئ بحر العرب، من حدود مصر إلى الدار البيضاء على الأطلس، يستصرخونكم ويهيبون بكم، وينادونكم أن اغضبوا قبل ألا ينفع الغضب..!!
اعلموا هذا ثم اعملوا. أقلقوا الدنيا بصراخكم، وأيقظوا الضمير العالمى المشغول عنكم المخدر بالباطل بتيقظكم، وجاهدوا واحتملوا، فلئن جاهد قوم فى سبيل الباطل الذى لا يغنى عن الحق شيئا، فإن جهادكم هو الحق المحض الذى لا حق سواه، لله وللدين وللوطن وللأخوة. فاعملوا والله معكم قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وتضيع فرصة لم تنتفعوا بها عند سنوحها. ﴿لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾[الروم: 4].
المصدر:مجلة الإخوان المسلمون، العدد (64)، السنة الثالثة، 17 شعبان 1364ه- 26 يوليو 1945م، ص(3).