ذكرى الظهير البربري
بقلم: الإمام حسن البنا
﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 50]
الإسلام دين قوى عزيز، قوى بكل ما فى القوة من معنى، عزيز بكل ما ينطوى تحت العزة من مظاهر ومقاصد ومستلزمات، الإسلام دين الإيمان الصحيح الصادق، والإيمان الصحيح الصادق أقوى قوة فى الأرض وأقرب سبب إلى السماء، ولن تقف قوة أمام المؤمن، وعلى صخرة الإيمان الخالدة الصامدة تتحطم رءوس الجبابرة والعاتين، وهى هى فى خلودها وصمودها وقوتها وجبروتها لا تتكسر ولا تلين.
والإسلام لهذا المعنى ولأنه دين الإيمان الصحيح الصادق الذى يجعل بين العبد وبين ربه صلة قوية محكمة لا واسطة فيها ولا انفصام لها، لهذا المعنى يبعث فى نفوس المسلمين كثيرًا من الأخلاق الفاضلة ما داموا مسلمين.
إنه يغرس فيهم الشجاعة التى تدفعهم إلى اقتحام الصعاب، والاستهانة بالشدائد، ومقارعة الخطوب فى سبيل الحق حتى تنتصر كلمته وتعلو رايته، وأنت جد خبير بشواهد ذلك من سيرة السلف الصالحين، وإن رجلاً كأنس بن النضر إنما لقى جحفل المشركين وخاض صفوفه حتى أصيب بثمانين جرحًا ما بين طعنة برمح أو ضربة بسيف؛ لأنه مؤمن، وإن امرأة كنسيبة بنت كعب إنما خاضت الوقائع وشهدت المشاهد واخترقت الصفوف وجابهت الأبطال؛ لأنها مؤمنة، وإن قومًا نساؤهم كنسيبة، ورجالهم كأنس بن النضر لحريون بسيادة العالم وقيادة الكون، ولقد كان ذلك فسادوا وأرشدوا وأخذوا بزمام الإنسانية إلى أروع مظاهر الكمال.
وإلى جانب هذا يغرس الإسلام فى نفوس أبنائه الإباء، فهم أحمى الناس أنوفًا، وأمنعهم جانبًا، وأعزهم نفوسًا، لا يقبل أحدهم الضيم ولو خر من السماء أو هوت به الريح فى مكان سحيق، وكيف لا يكون هذا والله يقول لهم: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[المنافقون: 8]، ونبيهم يناديهم: "من أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس منى"، وأمة هذا شأنها لا تلين قناتها لِغامِز، ولا يستقيم أمرها لِغاصِب، وهذا أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيط به أعداؤه، وهو فى قلة من العدد وغربة عن الأهل والولد والدار والبلد فيقاتلهم ما وسعه الجهد، حتى إذا أنسوا منه الكلال بذلوا له الأمان إن هو ألقى إليهم السلم فيقول فى عزة وإباء: "لا أمان عندى لكافر"، وما زال يقاتلهم حتى استشهد، وأرادوا أن يحتزوا رأسه فحماه الله ومنعه فلم ينالوا منه مأربًا.
وإلى جانب ذلك أيضًا يزهد الإسلام أبناءه فى متع الدنيا الزائلة ومفاتنها الباطلة، ويصرفهم إلى الجد، ويوجههم إلى الرسالة العظمى التى وكلها إليهم، تلك هى رسالة هداية البشر، وإرشاد الخلق، وقيادة العالم إلى السعادة الروحية، والكمال الممكن فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، ويحثهم على أن يفتدوا هذه الغاية بدمائهم وأموالهم، ويعدهم على ذلك جميل المثوبة وعظيم الأجر.
دين هذه تعاليمه محال أن ينهدم سلطان أبنائه، أو ينال العدو منهم نيلاً، أو يستحكم الأمر فيهم لظالم طاغية، أو مستعمر جشع، عرف أقطاب الاستعمار الأوروبى هذه التعاليم فى الإسلام، ولمسوا فى تاريخه تلك القوة الروحية الجارفة التى تنبعث من خلال سطور القرآن الكريم، فإذا هى للمؤمنين هدى وشفاء، وإذا هى لخصومهم عمى وبلاء، فكان من أهم محاور سياستهم فى البلدان التى يستعمرونها أن يهدموا فيها عقائد هذا الدين، ويطمسوا تعاليمه، ويحولوا بين أهله وبين ثقافته، وكم أهاب دعاتهم بحكوماتهم أن يكون هذا هو الهدف الذى ترمى إليه، وهم يعلمون -إلى جانب علمهم بطبيعة الإسلام- أن الاستعمار الفكرى أخلد وأبقى من الاستعمار السياسى، وأن الاستيلاء على القلوب والعقائد أمر له أثره وخطره، على حين أن الاستيلاء على المدن والثغور لا يلبث أن يتقلص ظله.
إذا تقرر هذا علمنا منه السر فى مقاومة دول الاستعمار للإسلام وتعاليم الإسلام، وتشجيعها للمبشرين، ودعاة الإلحاد، وغيرهم فى البلاد التى يوقعها سوء الطالع فى أيديهم.
وهم فى تنفيذ هذه السياسة فريقان: فريق ينفذها فى وضوح وجلاء وعنف وقسوة معتمدًا على جبروته وصولته وسلطانه ودولته. وفريق يتلبث بها ويسترها ويزينها ويسلك بها مسالك الدس وانتهاز الفرص، وإن طال به المدى. وكلاهما خطر على عقائد الأمة وكيانها ومستقبلها، ولقد وضع المستعمرون الفرنسيون نصب أعينهم منذ احتلال المغرب أن ينفذوا هذه السياسة، وأن يصلوا بالأمة المغربية إلى هذه الغاية، غير عالمين أن هذه الأمة العريقة فى الإيمان أعز مما يرومون، وأثبت فى دينها مما يظنون، ولقد ظلت فرنسا تسير الهوينا بخطتها هذه حتى ظنت أن الفرصة سانحة فأصدرت فى 11 سبتمبر سنة 1914م قانونًا هو المسمى "ظهير ليوتى" تشجع به الشعب البربرى على العودة فى أحكامه إلى عاداته الأولى، والتحلل من أحكام الإسلام، وفى 16 مايو سنة 1930م عززته بظهير آخر تخرج به البرابرة من حوزة السلطة الدينية والمدنية لجلالة سلطان المغرب، وتشرع له من النظم ما يقطع الصلة بينهم وبين الإسلام بتاتًا، وترى تبيان ذلك فيما يلى من الكلمات.
كان لهذا الظهير دوى عنيف فى نفوس المغاربة المؤمنين الذين يفتدون دينهم بأرواحهم وأموالهم، وكانت احتجاجات ومظاهرات ووفود ومقابلات ونفى وتغريب وسجن وتعذيب، وكل ذلك وغيره لم يثن الأمة المغربية المجاهدة عن عزمتها ولم ينل من إيمانها، ولا تزال حيث هى صامدة فى وجه الباطل، صارخة بكلمة الحق حتى يأتى أمر الله.
تلك هى ذكرى الظهير البربرى التى تألم لها النفوس وتدمى منها القلوب، نتحدث عنها إلى القراء تذكرة لهم بواجبهم نحو الأمة المغربية المجاهدة، التى تربطنا بها أقدس الروابط قاطبة، تلك هى رابطة الأخوة الإسلامية، وتحذيرًا للمسلمين من الوقوع فى حبائل وعود الغربيين، وتبيانًا لهذه النوايا التى ينتويها الغرب للإسلام وأبنائه وتكشف عنها الأيام.
أيها الشرق،ليس بينك وبين الحرية إلا أن تؤمن بمجدك وتتحرر من هذه المظاهر المادية التى قذفتك بها المدنية الغربية، وتستعذب الجهاد -وإن طال مداه، وتستمسك من الإسلام بحبل متين، وحينئذ يعود إليك زمام القيادة، وتحمل المصباح من جديد لتنير السبيل أمام الإنسانية الحائرة.
المصدر:جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (5)، السنة الثالثة، 11صفر 1354ه- 14 مايو 1935م، ص(3-4).